يعد البحر الأسود مركزا للتنافس بين روسيا والغرب من أجل مستقبل أوروبا، حيث شهد عقدان من الصراعات المحتدمة حتى قبل ضم موسكو غير القانوني لشبه جزيرة القرم في عام 2014، واستخدامها القوة العسكرية ضد دول في المنطقة، أربع مرات منذ عام 2008. ومن الواضح أن الكرملين يسعى إلى إقامة مجال نفوذ متميز يحد من اندماج دول المنطقة في الهياكل الأوروبية الأطلسية، مع تعزيز استقرار الحكم في روسيا، وتحسين قدراتها العسكرية الدفاعية والهجومية على حد سواء، فضلا عن إبراز القوة على نطاق أوسع في شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط.
تحوله إلى ساحة صراع عسكري
لقد تحول البحر الأسود إلى ساحة حرب فعليا عندما اتهمت روسيا كييف في يوليو 2022 بانتهاك مياهها الإقليمية، وشنت سلسلة من الضربات الجوية على موانيها، أوديسا وماريوبول وبيرديانسك (DW: 16 August 2023)، ودمرت محطات للحبوب، فضلا عن مرافق التخزين التي تعتبر حيوية لاقتصاد أوكرانيا والأمن الغذائي العالمي. ومن المعروف أن أوكرانيا واحدة من أكبر مصدري الحبوب في العالم، والبحر الأسود هو طريقها الرئيسي إلى السوق العالمية (UN News: 10 July 2023).
وعلى الرغم من اعتراضات الدول الكبرى، لكن الصراع تصاعد في أغسطس 2023، عندما أطلقت روسيا طلقات تحذيرية، وصعدت على متن سفينة شحن تركية كانت تنقل الحبوب من أوكرانيا إلى مصر، وادعت أنها انتهكت إعلان منطقة الحرب، واتهمتها بتهريب الأسلحة. ودانت تركيا، العضو في حلف الناتو، تحرك روسيا وطالبت بالإفراج عن السفينة وطاقمها، ودعت إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن (CNN: 14 August 2023).
كما أثر الصراع العسكري في البحر الأسود على دول أخرى في المنطقة، مثل جورجيا ومولدوفا وبلغاريا ورومانيا، التي تعتمد عليه في التجارة والأمن. وكإجراء وقائي نشر الناتو المزيد من القوات والمعدات في المنطقة لردع وتقييد محاولات عسكرة روسيا للبحر الأسود (DW: 14 August 2023).
البعد الاستراتيجي للصراع
منذ العصور القديمة كانت منطقة البحر الأسود تعد تقاطعا مهما لخطوط الاتصال بين أوروبا والشرق الأوسط. وعرفت الإمبراطوريات الكبرى أن أمن خطوط الاتصال في تلك المنطقة أمر بالغ الأهمية للتجارة والازدهار. وفي هذا السياق، يخنق عدم الاستقرار الحالي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا التنمية الاقتصادية في كل الدول المحيطة به، وهو ما قد يؤدي إلى فشل التجارة البحرية والتكامل الاقتصادي بين دول العالم.
أصبح البحر الأسود خلال السنوات التي أعقبت الحرب الباردة ذا أهمية استراتيجية بالنسبة لأوروبا وروسيا على السواء، حيث تركزت به جميع النزاعات التي طال أمدها. ويعتقد الخبراء أن من يسيطر عليه يمكنه بسهولة أن ينشر قواته في القارة الأوروبية، خاصة في البلقان وأوروبا الوسطى، فضلا عن شرق البحر المتوسط وجنوب القوقاز والشرق الأوسط. ويؤكد الباحث في مركز تحليل السياسة الأوروبية (CEPA) "بن هودجز" أن موسكو تنظر إلى البلدان المجاورة، التي تتمثل في ثلاثة أعضاء في الناتو (بلغاريا ورومانيا وتركيا)، وخمسة شركاء له (أرمينيا وأذربيجان وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا)، على أنها مرتبطة بشكل أو بآخر بالأمن القومي لروسيا، لأسباب ليس أقلها الروابط الثقافية والتاريخية والسياسية بين هذه البلدان. وقد جعلت هذه الدوافع الاستراتيجية المنطقة محور التحديث العسكري الروسي في العقود الأخيرة، وأي حالة من عدم الاستقرار أو العداء فيها تؤثر بشكل مباشر على أوروبا بأكملها (CEPA Report: September 22, 2022).
وفي اعتقادنا أن روسيا على مدى السنوات القليلة الماضية، عززت بشكل مطرد من وضعها العسكري وطابقته بحملة إعلامية حازمة لا هوادة فيها. ويبدو أنها تفعل ذلك في المقام الأول سعيا وراء هدفها الاستراتيجي المتمثل في جعل نفسها في وضع مستقر متوازن ضمن القوى العظمى، وإنشاء مناطق نفوذ متميزة. وهناك حقائق تدعم هذا الاعتقاد، حيث تحدت روسيا النظام العالمي أثناء نزاعها مع جورجيا عام 2008، وكان للبحر الأسود دور محوري آنذاك شكل خطر على البنية الأمنية الأوروبية، كذلك ضمها غير القانوني لشبه جزيرة القرم في 2014، واستمرار أنشطتها المزعزعة للاستقرار في البحر الأسود منذ بداية عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا في فبراير 2022.
يذكر الباحث السياسي "بافيل أناستاسوف" إن التحديات التي تواجه الأمن في منطقة البحر الأسود مترابطة ومتشابكة بشكل لا ينفصم في السياق الأوسع للأمن الأوروبي، وأن ممارسات روسيا هناك تعزز مخاوف المجتمع الدولي، خاصة بعد تفعيل موسكو لاستراتيجية منع الوصول، وهو مصطلح عسكري يستخدم عندما تنشر الدولة أنظمة أسلحة ذات قدرات بعيدة المدى، لحرمان القوات الأجنبية من حرية الحركة في محيط معلوم، ولتحقيق ذلك نشرت روسيا صواريخ أرض-جو، وصواريخ باليستية، وصواريخ مضادة للسفن، وغواصات هجومية. ومن المعروف أنه منذ عام 2010، أعطى برنامج التسلح الحكومي الروسي الأولوية لأسطول البحر الأسود من أجل ترقية قدراته. وتم الإعلان بالفعل في عام 2018 عن ترقية منظومة منع الوصول بإضافة فرقاطات من فئة Admiral Grigorivich وصواريخ كروز للهجوم البري (Pavel Anastasov: Nato Review, 25 May 2018).
وقد نشر الباحث "روسلان منيش" في عام 2018 إحصائيات حول عدد العسكريين الذين ترغب روسيا في دفعهم إلى البحر الأسود لتنفيذ خطتها، وقال إن الكرملين زاد عدد الجنود من 12500 قبل الاستيلاء على شبه جزيرة القرم إلى 32 ألفا في 2018، بهدف الوصول إلى 43 ألفا بحلول عام 2025 (Ruslan Minich: Atlantic Council, 6 Nov. 2018). وعلى الرغم من أن العدد الدقيق للقوات الروسية في البحر الأسود بعد بدء الحرب في أوكرانيا غير متاح حتى الآن، لكن بعض المصادر تشير إلى أن روسيا نشرت فيه قدرا كبيرا من قواتها المختلفة، يفوق العدد الذي نشره "منيش" بكثير، حيث أن الأسطول المستقر في سيفاستوبول وصل إلى 50 سفينة حربية وغواصة، بما في ذلك الفرقاطات والطرادات وزوارق الدورية وكاسحات الألغام وسفن الإنزال. وحسب تقرير لنيوزويك أصبحت المنطقة العسكرية الجنوبية التي تغطي منطقة البحر الأسود، تضم حوالي 150 ألف جندي، وأنظمة جوية معززة بنحو 200 طائرة مقاتلة ومروحيات هجومية وطائرات نقل وطائرات دون طيار، بالإضافة إلى قوات ساحلية متخصصة في الحرب البرمائية، تضم قرابة 12 ألف فرد (Newsweek: 16 August 2023).
ولإثبات جديتها في فرض نظام عدم الوصول، اعترضت روسيا في مارس 2023 طائرة أميركية دون طيار كانت تحلق فوق البحر الأسود، مما تسبب في اصطدامها بالمياه، وكان هذا أول اتصال مباشر بين القوات الجوية الروسية والأميركية منذ الحرب الباردة (CNN: 14 March 2023). كما توفر محاولات روسيا لعسكرة البحر الأسود العديد من مواطئ القدم العسكرية لدول أخرى، وعلى سبيل المثال رسمت تركيا مسارها الخاص لأمنها ومصالحها الوطنية فيه، ويتجلى ذلك في قرارها بشراء أنظمة الدفاع الجوي S-400 من روسيا، مما دفع واشنطن إلى إلغاء مشاركة تركيا في برنامج طائرات F-35 وتزويدها بمقاتلات F-16 فقط (New York Times: 29 June 2022).
قلق حول الأمن الغذائي العالمي:
إن للصراع في البحر الأسود تأثيرا سلبيا على الأمن الغذائي العالمي ويعطل إمدادات الحبوب، التي تعد غذاء أساسيا للعديد من البلدان. وحسب تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي، أثار انهيار صفقة حبوب البحر الأسود، وعدم السماح بشحنها من أوكرانيا، مخاوف جدية بشأن مستقبل الأمن الغذائي الدولي، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى تضخم أسعار الغذاء العالمية. وكان من المفترض أن توفر الصفقة 12 مليون طن من الحبوب سنويا، أي ما يعادل 10٪ من التجارة العالمية (WE Forum Report: 21 July 2023).
ووفقا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة، ارتفعت أسعار المواد الغذائية العالمية لأول مرة منذ شهور بعد انهيار الصفقة، لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ سبتمبر 2011. وقالت منظمة الفاو إن الارتفاع كان مدفوعا بارتفاع أسعار الحبوب والزيوت النباتية والسكر، والذي تأثر أيضا بانخفاض آفاق الإنتاج والتصدير في أوكرانيا ودول البحر الأسود الأخرى بعد جعله منطقة عمليات عسكرية. وبالطبع من الممكن أن يكون لارتفاع أسعار المواد الغذائية تأثيرا مدمرا على الأمن الغذائي العالمي، خاصة بالنسبة للبلدان ذات الدخل المنخفض والمستوردة للغذاء (UN News: 4 August 2023). ومن المعروف أن الصفقة كانت إنجازا دبلوماسيا وببادرة إنسانية، تعهدت وزارة الخارجية الأميركية فيما سبق على أنها ستعمل مع حلفائها وشركائها لإيجاد حل سلمي لها، واستعادة تدفق الحبوب من أوكرانيا (State Department website: 9 Sept. 2022).
وبالإضافة إلى مشاكل الأمن الغذائي، هناك أيضا مشكلة إمدادات الطاقة التي تعتمد عليها مصانع الإنتاج الغذائي في كثير من دول العالم. إن البحر الأسود هو ممر عبور رئيسي لموارد الطاقة، ولذلك أصبحت القضية الرئيسية هي أمن الإمدادات، سواء كانت غذاء أو طاقة. كما أن البيئة الأمنية الحالية تثير مخاوف بشأن القدرة على استغلال الوقود الأحفوري في المياه الساحلية. وقد يؤدي ذلك مستقبلا إلى تداعيات سياسية لا مفر منها، فمن الممكن استمرار استخدام هذه الواردات بسهولة لأغراض سياسية حتى لو انتهت الحرب (Nato Review: 25 May 2018).
وهكذا، من الممكن أن يخلق نزاع البحر الأسود تأثيرا خطيرا على الأمن الغذائي العالمي في المستقبل، سواء بعدم القدرة على توفير الحبوب أو تشغيل مصانع الأغذية التي تعتمد على إمدادات الطاقة المتعثرة، في الوقت الذي تجاهلت فيه روسيا كافة العوامل الإنسانية، فقد تغلبت عليها رغبة النصر في المعركة العسكرية مهما تكلف الأمر.
خاتمة
يبدو أن تحركات روسيا في البحر الأسود الذي تحول إلى مسرح للعمليات العسكرية، أصبحت تمثل تحديا لحلف الناتو، نظرا لأنها تنطوي على إمكانات كبيرة لزعزعة استقرار المنطقة بأسرها بشكل سريع. خاصة وأن ذلك يحد من الاستراتيجية التي تبناها الاتحاد الأوروبي منذ عام 2016 لاحتواء النزاعات التي طال أمدها في منطقة البحر الأسود وهددت لعقود النظام الأمني الأوروبي.
وقد أوضح الناتو في مناسبات عديدة عدم وجود نية لنشر قواته في شرق أو جنوب شرق أوروبا. ومع ذلك، دفعت محاولات روسيا لعسكرة البحر الأسود الحلف إلى اتخاذ خطوات لتعزيز وجوده فيه، لاسيما وقد أصبح من المناطق الرمادية التي تغذي الجريمة المنظمة وتصدر التطرف والإرهاب إلى أوروبا، فضلا عن كونه أداة روسية للتخويف السياسي.
وبغض النظر عن نجاح روسيا أو فشلها في الحرب، فإن أهدافها الاستراتيجية في منطقة البحر الأسود ستبقى ولن تتخلى عنها أبدا. وعلى الرغم من ترجيح ضعف الجيش الروسي مع استمرار المعارك وموجات المد والجذر بينه وبين مرتزقة فاغنر، الغير مضمون ولائهم، لكن هذا لن يستبعد استمرار الإجراءات الروسية ضد دول المنطقة وضد مصالح الناتو والولايات المتحدة في البحر الأسود، مما سوف يخلق تداعيات واضحة على الغرب، الذي يحاول تداركها بتطوير تركيز استراتيجي متماسك على المنطقة منذ قمة مدريد في يونيو 2022، وتوسيع قوة استجابة الناتو. لكن على الأرجح، لن يمنع ذلك روسيا من الاستمرار في تحقيق أهدافها في البحر الأسود، وجعله ورقة مساومة تحقيق بها أهداف سياسية واقتصادية مستقبلية.