
عندما أجريت انتخابات مجلسي الشورى الإسلامي وخبراء القيادة في إيران في أول مارس 2024، كانت هناك توقعات داخل إيران بأنه تم الاستقرار على نمط معين من توازنات القوى السياسية على الأقل لخمسة أعوام مقبلة، وتحديداً حتى عام 2029.
فراغ فجائي
كان التعويل في هذا السياق على أن الرئيس السابق إبراهيم رئيسي سوف ينجح في تجديد ولايته الرئاسية في الانتخابات التي كان من المزمع أن تُجرى في منتصف عام 2025، لكن فجأة حدث فراغ في منصب الرئيس، بإعلان وفاة رئيسي في حادث سقوط المروحية التي كانت تُقله برفقة وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وستة آخرين في محافظة أذربيجان الشرقية في 19 مايو 2024 (الشرق الأوسط، 20 مايو 2024).
في هذه اللحظة، بدا واضحاً أن النظام الإيراني كان حريصاً على تصدير رسائل إلى الداخل والخارج بأن هذا الفراغ المُفاجئ لن يُنتج أزمة سياسية في الدولة، خاصة أنه لم يكن الأول من نوعه، حيث سبق أن تعرض المنصب نفسه لحوادث مشابهة، على غرار اغتيال الرئيس الثاني لإيران محمد علي رجائي في 30 أغسطس 1981 بعد توليه منصبه بأربعة أسابيع فقط.
من هنا، كان أول القرارات التي اتُّخذت في هذا الصدد هو تكليف النائب الأول للرئيس محمد مخبر بتولي صلاحيات الرئيس إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية، حيث عُقد سريعاً اجتماع بين أعضاء اللجنة التي كُلِّفت بالإشراف على العملية الانتخابية، في 20 مايو 2024، أي بعد وفاة رئيسي بيومين فقط، وحددت يوم 28 يونيو 2024 ليكون يوم الاقتراع على منصب الرئيس، بعد أربعين يوماً من وفاة رئيسي (سكاي نيوز عربية، 20 مايو 2024).
ضغوط داخلية وخارجية
مسارعة إيران إلى اتخاذ هذه الإجراءات التي تهدف إلى ملء الفراغ الذي فرضته وفاة رئيسي يمكن تفسيرها في ضوء الضغوط الداخلية والخارجية التي تتعرض لها حالياً، والتي دفعتها عبر هذه الإجراءات إلى محاولة تأكيد أنها لا تواجه أزمة سياسية أو تعاني من انقسامات داخلية. هذه الضغوط تعود إلى أسباب رئيسية ثلاثة:
الأول، أن تراكمات الاحتجاجات التي شهدتها إيران في الفترة من منتصف سبتمبر 2022 وحتى بداية يناير 2023، ما زالت قائمة حتى الآن. صحيح أن السلطات نجحت في احتواء تلك الاحتجاجات، إلا أن ذلك لا ينفي أنها تركت آثاراً في العلاقة بين النظام والمحتجين، فضلاً عن أن مُحفِّزاتها ما زالت قائمة، في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية التي تواجهها إيران.
والثاني، أن الخلافات مع الدول الغربية تتسع تدريجياً بسبب الاتفاق النووي الذي بات يواجه اختباراً صعباً، إذ ما زالت إيران حريصة على خفض مستوى التزاماتها فيه رداً على الانسحاب الأمريكي منه في 8 مايو 2018. وقد كشف التقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 27 مايو 2024، أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة وصل إلى 6201.3 كيلوجرام، بما يعادل 30 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي (202.8 كيلوجرام) (فرانس 24، 27 مايو 2024).
وكان ذلك سبباً في اتجاه بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى طرح مشروع قرار خلال اجتماع مجلس محافظي الوكالة، في 5 يونيو 2024، يدين عدم تعاون إيران بشكل كافٍ مع الوكالة. وقد حظي القرار بتأييد 20 دولة ورفض دولتين (روسيا والصين) وامتناع 12 دولة عن التصويت وغياب دولة واحدة (روسيا اليوم، 5 يونيو 2024).
لا يمكن بالطبع فصل هذا التصعيد الغربي، الأوروبي تحديداً، ضد إيران عن الاتهامات التي توجهها تلك الدول إلى الأخيرة بتقديم دعم عسكري لروسيا لمساعدتها في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا. كما لا يمكن فصله عن تلويح إيران بتغيير "عقيدتها النووية" في حالة تعرض وجودها لخطر، في إشارة إلى إمكانية الوصول إلى المرحلة التي تمتلك فيها القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
والثالث، أن ارتدادات الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وما ارتبط بها من تصعيد عسكري على جبهات إقليمية مختلفة، وصلت إلى إيران بالفعل. فلأول مرة تقع مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران وإسرائيل، في الفترة من 13 إلى 19 إبريل 2024، بعد أن قصفت الأخيرة القنصلية الإيرانية في دمشق في أول الشهر نفسه، على نحو أسفر عن مقتل 7 من كوادر الحرس الثوري كان من بينهم قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي (بي بي سي، 1 أبريل 2024).
ورغم أن هذه المواجهة كانت محدودة، ربما بناءً على تفاهمات واتصالات بين واشنطن وكل من طهران وتل أبيب، فإن طهران لم تعد تستبعد تكرارها مجدداً، في ظل التغير الملحوظ في توجهات السياسة الإسرائيلية بعد عملية "طوفان الأقصى". ويتزايد هذا الاحتمال، وفقاً لرؤية طهران، في ضوء الاستعداد الإسرائيلي حالياً لتوسيع نطاق التصعيد مع حزب الله وربما تحويله إلى حرب شاملة بهدف تقييد القدرات العسكرية للأخير وإبعاده عن الخط الأزرق.
ترتيبات سياسية
في خضم هذه التطورات، جرى فتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية في 30 مايو 2024، حيث تقدم على مدى خمسة أيام 80 مرشحاً بملفاتهم. ووصلت العملية الانتخابية إلى أهم مرحلة، وهي البت في ملفات المرشحين من قبل مجلس صيانة الدستور، الذي أعلن في 9 يونيو 2024 موافقته على ملفات ستة مرشحين فقط هم رئيس مجلس الشورى الحالي محمد باقر قاليباف، وممثل المرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي، ورئيس بلدية طهران علي رضا زاكاني، ورئيس مؤسسة "الشهداء والمضحين" أمير حسين قاضي زاده هاشمي، ووزير الداخلية الأسبق أمين سر جمعية "روحانيت مبارز" مصطفى بور محمدي، ووزير الصحة الأسبق مسعود بزشكیان (الشرق للأخبار، 9 يونيو 2024).
هذه القرارات التي أصدرها مجلس صيانة الدستور طرحت أربع ملاحظات رئيسية: الأولى، أنه تم استبعاد عدد من المرشحين الذين ينتمون إلى تيار المحافظين ويحظون بمكانة سياسة مرموقة، على غرار الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، الذي رُفض ملف ترشحه للمرة الثالثة من قبل مجلس صيانة الدستور، على نحو يمكن تفسيره في ضوء التوتر الذي اتسمت به العلاقة بين المرشد والرئيس الأسبق خلال فترة توليه منصبه (2005-2013)، فضلاً عن أن النظام الإيراني لم يعتد على فوز رئيس سابق بالمنصب مجدداً.
كما تم رفض ملف ترشح علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الأسبق عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام، للمرة الثانية على التوالي. ورغم أن المجلس لم يوضح أسباب قراره، فإن تقارير إيرانية عديدة أشارت إلى أن المسألة تعود إلى وجود شائعات حول حصول ابنته، الدكتورة فاطمة، على الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتوازي مع ذلك، تم رفض ترشح شخصيات إصلاحية مثل النائب الأول للرئيس السابق إسحاق جهانغیري، ومحافظ البنك المركزي السابق عبد الناصر همتي.
والثانية، أنه من بين المرشحين الستة، هناك مرشح واحد فقط ينتمي إلى تيار الإصلاحيين، وهو مسعود بزشكیان، فيما ينتمي المرشحون الخمسة الآخرون إلى تيار المحافظين بأجنحته المختلفة، لاسيما جناح المحافظين التقليديين الذي ينتمي إليه مصطفى بور محمدي، وجناح المحافظين الأصوليين الذي ينتمي إليه كل من سعيد جليلي وباقر قاليباف ورضا زاكاني وقاضي زاده هاشمي.
وقد كان ذلك أحد مطالب تيار الإصلاحيين، الذي اشترط أقطابه ضرورة السماح لأحد مرشحيه بالتنافس على منصب الرئيس لكي يشاركوا في الانتخابات. وقد تلاقى ذلك، بشكل لافت للنظر، مع سعي النظام لرفع نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات، بهدف توجيه رسائل إلى الداخل والخارج بأن هناك قاعدة شعبية عريضة تؤيده.
وقد عبّر المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي عن ذلك بشكل صريح في تصريحاته التي أدلى بها أمام جمع من مواطني خمس محافظات إيرانية بمناسبة "عيد الغدير"، في 25 يونيو 2024، حيث قال: "إن هذه الانتخابات إذا ما اقترنت بمشاركة شعبية واسعة، فإن ذلك يدل على رفعة الجمهورية الإسلامية"، مضيفاً: "الانتخابات هي ساحة تنتصر فيها إيران على أعدائها بالمشاركة الشعبية الواسعة" (وكالة تسنيم للأنباء، 25 يونيو 2024).
وربما يعود ذلك إلى حرص النظام على عدم تكرار ما حدث في انتخابات مجلسي الشورى الإسلامي وخبراء القيادة التي أجريت في أول مارس 2024، والتي وصلت نسبة المشاركة فيها إلى 41%، وهي أقل نسبة على مدى الاستحقاقات الانتخابية الإيرانية المختلفة.
والثالثة، أنه من بين المرشحين الستة، كان هناك مرشح واحد فقط ينتمي إلى نخبة رجال الدين (مصطفى بور محمدي)، في حين يعد المرشحون الخمسة الآخرون مما يسمى "الأفندية" أو التكنوقراط في إيران. وربما يزيد ذلك احتمال أن يكون الرئيس القادم لإيران من غير رجال الدين، على عكس الأعوام الأحد عشر الأخيرة، التي تولى فيها رجلا دين المنصب، وهما الرئيس الأسبق حسن روحاني (2013-2021)، والرئيس السابق إبراهيم رئيسي (2021-مايو 2024).
والرابعة، أنه رغم أن الحرس الثوري أعلن أنه لا يدعم مرشحاً محدداً من المرشحين الستة، فإن ذلك لا ينفي أن هناك مرشحَيْن من المحسوبين على "سباه باسداران"، وهما رئيس مجلس الشورى الإسلامي محمد باقر قاليباف، الذي سبق أن تولى قيادة القوة الجوية في الحرس، وممثل المرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي الذي شارك في الحرب ضد العراق (1980-1988) وتعرض لإصابة قوية في ساقه اليمنى إلى درجة أنه أصبح يلقب بـ"الشهيد الحى".
في النهاية، يمكن القول إن رئيس الجمهورية القادم في إيران، أيّاً كان، سوف يكون عليه من اليوم الأول لتوليه منصبه فتح ملفات عديدة في آن واحد. فهناك الأزمة الاقتصادية التي حظيت باهتمام خاص في المناظرات الخمس التي عقدت بين المرشحين الستة. وهناك، الاتفاق النووي الذي سيواجه استحقاقاً مهماً في عام 2025، بعد مرور عشرة أعوام على الوصول إليه بين إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015.
وهناك التصعيد مع إسرائيل، الذي قد يتواصل خلال المرحلة القادمة، بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وتزايد احتمال اندلاع حرب مماثلة مع حزب الله في لبنان، والذي لا يمكن فصله عن الخلافات المتصاعدة بين إيران والدول الغربية، التي كان لافتاً أن بعضها (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا) شارك في صد الهجمات التي شنتها إيران بواسطة صواريخ بالستية وصواريخ كروز وطائرات مسيرة ضد إسرائيل في 13 إبريل 2024، على نحو يؤشر بوضوح على المدى الذي وصل إليه التوتر بين إيران وتلك الدول.