مقالات تحليلية

إيطاليا في إفريقيا .. تطلعات ومعوقات

27-Feb-2023

تشهد إفريقيا سباقاً محموماً حولها، وصراعاً جيواقتصادياً بين قوى متعددة، تحاول أن تجد لها مكاناً في نادي "المتعاقدين مع إفريقيا" أو المهتمين بخيرات هذه المنطقة الشاسعة التي ستحدد مستقبل العالم، لتوفرها على احتياطات هائلة من الغاز والبترول والمعادن النادرة التي تشكل أساس الصناعات الدقيقة الحالية والمستقبلية، إضافة إلى الثروات السمكية والغابات والأراضي الشاسعة للفلاحة.

 وتعتبر إيطاليا من الدول التي أخذت تهتم بصياغة سياسته خارجية جديدة حول إفريقيا، بل تطمح أن تكون بديلاً لفرنسا التي تتدنى شعبيتها باستمرار وتواجه رفضاً متصاعداً من النخبة السياسة الإفريقية. وهكذا يلاحظ أحد الباحثين وهو الأستاذ الجامعي في إيطاليا، "ماريو جيرو" "Mario Gero"، أن السياسة الإيطالية بخصوص إفريقيا، تعرف مراجعات عديدة منذ نهاية الحرب الباردة.

لقد أُهملت إفريقيا من طرف الأحزاب السياسية الإيطالية والحكومة الإيطالية في التسعينات، بسبب التركيز على منطقة البلقان أساساً، وأُهملت إفريقيا من طرف الشركات الإيطالية باستثناء الشركة العملاقة، "ENI"، المتخصصة في الطاقة؛ كما أن الميزانية المخصصة للتعاون والتنمية والموجهة إلى إفريقيا، كانت ضعيفة؛ بينما كانت سياسة الكنيسة، تجعل إفريقيا في مركز اهتمامها وكذلك المجتمع المدني الإيطالي، من جمعيات ذات أهمية ومنظمات غير حكومية.

ويلاحظ أنه إلى حدود حكومة برلسكوني Berlusconi، لم يكن هناك اهتمام حقيقي بإفريقيا، لكن في سنة 2011 مع حكومة ماريو مونتي Mario Monti، بدأت الأمور تتغير بشكل سريع، حيث تم تأسيس وزارة للتعاون والاندماج، والتي أشرف عليها البروفسور Andrea Riccardi، المؤسس لجمعية Saint Egidio، ذات الحضور القوي بإفريقيا والمهتمة بمحاربة الفقر (Saintegidio.com). ومع مجيء حكومات إنريكو ليتا Enrico Letta ورنزي Mateo Renzi وباولو جينتلوني Paolo Gentilonii، عرفت العلاقات الإيطالية-الإفريقية انتعاشاً ملحوظاً، وتحسناً في ميزانية التعاون الإيطالي الإفريقي، وبعد صدور "قانون 125 لسنة 2014"، تم تأسيس بنك للتنمية موجه لإفريقيا، وتغيرت وتيرة العلاقات الدبلوماسية وطبيعة التعاون الأمني والعسكري مع الدول الإفريقية.

شكل الارتفاع الاستثنائي للدعم الإيطالي للمساعدات والتنمية بإفريقيا، تحولاً ملموساً في السياسة الخارجية الإيطالية اتجاه إفريقيا، وبدأ الحديث تحت "عودة إيطاليا"، في الدوائر الدولية، (institut jean le cantiet.org). وفي حوار أجرته مجلة "Jeune Afrique" مع "لويدجي دي مايو Luigi di Maio، وزير الخارجية السابق، أكد "أن إفريقيا هي من أولويات السياسة الخارجية الإيطالية"، كما بين أهمية إصدار وزارته وثيقة مهمة حول "الشراكة من أجل إفريقيا"، وهي وثيقة تتضمن أولويات السياسة الخارجية الإيطالية اتجاه إفريقيا، ومحددات الخطة الإيطالية؛ وهذه الوثيقة هي الأولى من نوعها في تاريخ السياسة الخارجية الإيطالية؛ كما قال لويدجي دي مايو "إن الوثيقة ستجعل إيطاليا أكثر نفعية وأكثر جاهزية للعمل في كافة أنحاء إفريقيا". (Jeuneafrique.com).

أشار "دي مايو" إلى تكثيف إيطاليا جهودها الدبلوماسية، بحيث تم فتح عدة سفارات جديدة، في غينيا والنيجر وبوركينافاسو، وتعتبر إيطاليا أول بلد أوروبي اعتمد بعثة دبلوماسية دائمة في الاتحاد الإفريقي. (jeune afrique 9/1/2021).

وتعتمد إيطاليا في "خطة الشراكة من أجل إفريقيا" على مقاربة جديدة تستند إلى التنسيق بين مختلف الفاعلين، من حكومات ومؤسسات ومجتمع مدني وقطاع خاص ووكالات وغير ذلك. وأكد الوزير السابق "دي مايو" كذلك على كون إيطاليا هي من أهم المسهمين الغربيين في عمليات حفظ السلام في إفريقيا، وجنود إيطاليا لهم حضور في Minusma في مالي وفي المينورسو وفي الصومال والنيجر وجمهورية إفريقيا الوسطى وعلى مستوى العمليات الأوروبية المشتركة. كما هناك حضور إيطاليا على مستوى العلاقات الثنائية مع دول إفريقية، مثل الشراكة مع ليبيا وجيبوتي ومنطقة الساحل، كما انخرطت إيطاليا بفعالية في القوات الأوروبية الخاصة "تاكوبا" التي كانت تتألف من حوالي 900 جندي من القوات الخاصة من 10 دول وهي: السويد وبلجيكا والتشيك والدنمارك وفرنسا والمجر وهولندا والبرتغال وإيطاليا. (وكالة الأناضول، 1/7/2022).

وقد انهارت "تاكوبا" بعد فشل "برخان" الفرنسية وحصول انقلابين في مالي في أغسطس 2020 ومايو 2021 ولذا تدهورت علاقات فرنسا بمالي (middle-east-online.com,1/7/2022). وأدى خروج فرنسا من مالي، إلى دعوة الوزير المالي المكلف بالأنشطة الإنسانية والتضامن واللاجئين والمشردين، الحكومة الإيطالية إلى التحرك في منطقة الساحل من أجل تحقيق الاستقرار، واعتماد نهج مختلف عن فرنسا التي لم تحترم مبادئ دولة مالي.

وهكذا أصبحت إيطاليا مطلوبة للعب دور مهم في مالي بعد الانسحاب الفرنسي، إذ ورد في مقابلة أجراها الإمام أومارو ديارا، مع وكالة "توفا" الإخبارية حيث قال "إن إيطاليا يمكنها أن تلعب دوراً في تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل من خلال تعزيز فرص التنمية والاعتراف بمالي كشريك موثوق يمكن معه بناء علاقات متبادلة المنفعة" وطالب "ديارا" الحكومة الإيطالية بعدم التصرف مثل "فرنسا والاستفادة من شراكة مريحة للجانبين والقدرة على الاعتراف برؤية مختلفة للأشياء"، (موقع الإخبارية، 29/إبريل 2022).

ويبدو جلياً أن بعض الدول الإفريقية التي كانت بمثابة مجال محتكر من طرف فرنسا، أصبحت متاحة لدول أخرى ومن بينهما إيطاليا. وقد اعتبرت مجلة "فورميكي" الإيطالية أن زيارة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والشؤون الأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل لروما، تؤكد محاولة إيطاليا إعادة إطلاق دور الاتحاد في ليبيا وفي إفريقيا، وذلك عبر مهمة المراقبة الجوية لوقف إطلاق النار ووصول المروحيات الإيطالية إلى مالي.

وقالت المجلة "إن رسالة برلين وبروكسيل وروما مؤخراً، كانت بمثابة جسر لإعادة إيطاليا إلى إفريقيا، مع تموضعها من جديد في البحر المتوسط الواسع"، (موقع سكاي نيوز، 22/3/2021). ويتبين جلياً أن البحث عن وضع جيواستراتيجي جديد لإيطاليا في البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا قد تم الإعداد له من خلال طرح "خطة ماتي لإفريقيا" حيث أعلنت رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني أن "المصلحة الجيوسياسية لأوربا بأكملها أن تكون أكثر حضوراً في إفريقيا "، (موقع البيان 8-2-2023).

وهكذا تستمر حكومة ميلوني على تبني نهج الحكومة الإيطالية السابقة في تكثيف الحضور الإيطالي في إفريقيا والاستفادة من الفجوة الجيوسياسية الراهنة والتي تكمن في نفور بعض الدول الإفريقية من فرنسا. وقد سبق لجورجيا ميلوني، وهي وزيرة في الحكومة السابقة، أن هاجمت الرئيس الفرنسي "ماكرون" واتهمت فرنسا بإفقار إفريقيا واستغلالها؛ حيث قالت له "لا تقدم لنا دروساً ياماكرون لأن الأفارقة يهجرون قارتهم إلى أوروبا بسبب سياساتكم"، كما اتهمت ميلوني فرنسا بالتدخل في ليبيا من أجل منع إيطاليا من الحصول على "امتيازات مهمة" في مجال الطاقة التي هي أساس الاقتصاد الأوروبي بكامله. واعتبرت التدخل الفرنسي في ليبيا سبباً في تعقد الشأن الليبي، وتدفق المهاجرين غير الشرعيين، مما أدى إلى تفاقم ظاهرة الهجرة التي تعاني منها أوروبا. (موقع Fanack، 5 يناير 2023).

إن الخطة الإيطالية للتمدد في إفريقيا، تعتمد أولاً على الإفشاء السياسي الذي يقضي بتقويض مشروعية الوجود الفرنسي في بعض الدول الإفريقية، كما سلف، شنت "ميلوني" حملة شرسة ضد فرنسا وسياستها في استغلال الموارد الطبيعية وخيرات إفريقيا، وقالت بأن المطلوب ليس هو "نقل الأفارقة إلى أوروبا، بل تحرير إفريقيا من بعض الأوروبيين"، في إشارة واضحة إلى كون أزمة الهجرة ناجمة عن استغلال الأوروبيين الفاحش لخيرات الشعوب الإفريقية ومن ضمنهم الدولة الفرنسية.

وهذا يعكس حجم الصراع الجيواقتصادي الإيطالي–الفرنسي، على إفريقيا. ولا تكتفي الحكومة الإيطالية -سواء قبل "ميلوني" أو في وقتها الراهن- بمواجهة فرنسا وإنما كذلك محاولة الحد من التمدد الروسي وخصوصاً وجود مرتزقة فاغنر في ليبيا الذي يشكل تهديداً للأمن الإيطالي والأوروبي؛ بل تطمح إيطاليا إلى مزاحمة الصين وباقي القوى التي تريد التموقع في إفريقيا.

وتطمح إيطاليا كذلك أن تكون "مركزاً لاستيراد وتخزين مصادر الطاقة الواردة من إفريقيا، مما يسمح لها بإعادة توزيع النفط والغاز باتجاه سائر الدول الأوروبية. مع الإشارة إلى أن إيطاليا تطمح من خلال هذا الدور إلى زيادة أهميتها الجيوسياسية، والحصول على مكاسب مادية من رسوم عبور النفط عبر أراضيها، بالإضافة إلى تمكينها من شراء المحروقات من الموردين بأسعار تفضيلية". (موقع Fanack). لهذا الاعتبار تسعى إيطاليا عبر التفاوض مع ليبيا والجزائر، للحصول على واردات من النفط والغاز تضمن بها أمنها الطاقي. كما أعطت المفوضية الأوروبية الضوء الأخضر لبناء خط كهربائي بحري من تونس إلى إيطاليا. وسيضمن هذا المشروع لأوروبا حوالي (600 MW)؛ وستتكلف كل من شركة STEG من تونس وشركة Terna spa، بعملية بناء الخط الكهربائي البحري. وسيكلف المشروع حوالي 750 مليون أورو، وسيتولى صندوق تابع للاتحاد الأوروبي، توفير 307 ملايين دولار.

يبلغ هذا الخط الكهربائي البحري حول 200 كيلومتر، وسيحقق نوعاً من الاستقلال الطاقي ويسهم في أمن النظام الكهربائي وتنمية مصادر الطاقة البديلة كما قال "الرئيس المدير العام للشركة الإيطالية Terna، ستيفانو دونا روما Stefano Donna rumma، ويعتبر هذا المشروع أول مشروع يموله صندوق MIE الأوروبي، في إطار شراكة تجمع الاتحاد الأوروبي وبلد إفريقي، بل خارج أوروبا. ولذا قال ستيفانو دونا روما بأن المشروع "فرصة لإيطاليا لتصبح ممراً للطاقة في الحوض المتوسطي". كما اعتبرت جورجيا ميلوني ذلك "نصراً لإيطاليا كبيراً". (Euractiv, 12-12-2022).

لقد أكدت جورجيا ميلوني على كون "خطة ماتي"، تستهدف أساساً شمال إفريقيا والبحر المتوسط، حيث قالت "إننا في هده المرحلة الأولى نركز بشكل كبير على منطقة البحر المتوسط وبالتالي يصبح شمال إفريقيا أولوية مطلقة". (مركز روابط).

وقد أعلنت وكالة (آكي) الإيطالية للإنباء في 19 سبتمبر 2022، عن انعقاد مؤتمر حول عواقب الحرب الأوكرانية على إفريقيا، والذي جمع بين عدة أكاديميين ودبلوماسيين وعسكريين وممثلين من المجتمع المدني، لمطارحة تداعيات الحرب الأوكرانية على إفريقيا وذلك بتنظيم مشترك مع فرقة "فيتو ريو فينتو" من القوات المسلحة الإيطالية. وجاء في بيان المؤتمر، أن "القضايا العالمية الرئيسية مثل نظام الأمن الجماعي والتجارة الدولية، وسلاسل الإمداد الغذائي، وتوفر مصادر الطاقة والمواد الخام الأساسية، وحماية البيئة والتحول البيئي، كلها تتأثر بشكل كبير بمسار الصراع". (www.adnk.net).

ويلاحظ أن إيطاليا تحاول أن تتميز في خطتها للتمدد في إفريقيا عن فرنسا وأمريكا والصين وروسيا وباقي القوى الدولية. فهي تتفادى التدخل العسكري وكذلك أسلوب العقوبات الاقتصادية ونهج الضغط على الدول الإفريقية الحليفة لروسيا والصين. وتحاول إيطاليا أن تتبنى مقاربة التشارك في الربح، وإغواء دول إفريقية من خلال تقديم عروض ذات امتيازات مغرية، وأكدت "ميلوني" على هذه المقاربة حيث قالت "حين يجري عقد شراكة مع شخص ما فمن الجيد أن يستفيد الجانبان".  (Fanack, 5, 1, 2013).

لكن بالرغم من هذا النهج المسالم والبرغماتي وأسلوب الحذر في التعاون مع الشركاء الأفارقة، فإن إيطاليا من خلال إعلانها "خطة ماتي"، قد ولجت بالفعل حرباً اقتصادية بامتياز، ذلك أن الخطة تحمل اسم "انريكو ماتي"، وهو مؤسس شركة "ايني" للطاقة والتي من خلالها، استطاعت إيطاليا مزاحمة الشركات العملاقة الكبرى في مجال الطاقة. لكن أعمال شركة "ايني" مهددة بسبب توغل مجموعة فاغنر في ليبيا، التي لها حضور في مناطق حقول النفط والغاز الليبية في شرق وجنوب البلاد، وهذا يجعل مصالح إيطاليا في خطر. ولن تستطيع إيطاليا في السياق الراهن، مزاحمة الصين في مصر بالرغم من اكتشاف "ايني" حقل "الظهر" فيها. ولن تكون إيطاليا بديلاً للصين في الجزائر، بالرغم من أنها أكبر مشترٍ للغاز منها، لأن الصين لها شراكة استراتيجية مع الجزائر.

وتحاول إيطاليا تنويع شراكاتها مع دول شمال إفريقيا، لأن الاعتماد فقط على شركة "ايني" للتنقيب وإنتاج الغاز لا يكفي، فهناك حاجة إلى تمكين الشركات الإيطالية من الحصول على عقود حكومية في شمال إفريقيا والولوج إلى أسواقها وهو الشيء الذي لا يمكن أن يتحقق بسرعة ويزيح فرنسا ويكبح شهية مجموعة من القوى الدولية. لكن ربما حتماً هذا الصراع الجيواقتصادي على دول شمال إفريقيا وباقي الدول الإفريقية سيمكن هذه الأخيرة من تبني خطط تفاوضية للحصول على امتيازات أكثر. كما أن الدول الإفريقية مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بضرورة تشكيل تكتل قوي يدافع عن مصالح القارة ومستقبلها.



500