بعد ساعات من اتفاق القوى الاقتصادية لمجموعة السبع على خطة لفرض سقف على أسعار النفط الروسي، في محاولة للحد من عائدات موسكو النفطية، أعلنت شركة الطاقة الروسية العملاقة المملوكة للدولة غازبروم في 2 سبتمبر 2022 عن وقف تدفقات الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1 إلى أجل غير مسمى. أعادت الشركة الروسية القرار إلى حاجة خط الأنابيب إلى إصلاحات إضافية، علما بأن الإمدادات كانت قد توقفت بالفعل الأسبوع الماضي بسبب أعمال صيانة كان مخططا لها مسبقا، كانت من المتوقع أن تستمر حتى 3 سبتمبر 2022 فقط.
جاء قرار وقف الإمدادات في سياق المناوشات السياسية بين موسكو والقوى الغربية، التي اعترت العلاقات بين روسيا والغرب خاصة منذ بداية الحرب في أوكرانيا في نهاية فبراير الماضي. وقد رجحت صحيفة اندبندنت البريطانية أن تحرك غازبروم، مسيس وأن الكرملين تستخدم الشركة كأداة، من أدوات السياسة الخارجية، للضغط على الغرب من خلال وقف إمدادات غاز، تقدر بحوالي 170 مليون متر مكعب يوميا، والإعلان عن أن هذا الوضع سوف يظل قائما إلى أجل غير مسمى.
تضيف الصحيفة أنه من الواضح من خلال هذه المبارزة بين قوى الغرب وروسيا، أن موسكو تستخدم سلاح الطاقة لتخفف عن نفسها وطأة العقوبات الاقتصادية الدولية، المفروضة عليها منذ غزوها لأوكرانيا في فبراير الماضي. وتقول إنه في المقابل، يواصل الغرب تضييق الخناق على روسيا - رغم خطورة ذلك على أوروبا على المستوى الاقتصادي بسبب الاعتماد على إمدادات الغاز الروسية بصفة أساسية - على موسكو من أجل الحد من العائدات النفطية التي تحصل عليها حتى تتراجع قدراتها على الإنفاق العسكري وتتراجع عن غزو أوكرانيا.
الاتحاد الأوروبي اتهم روسيا بـ "تسليح" إمدادات الغاز إلى جيرانها الأوروبيين في محاولة للضغط على الكتلة لتخفيف العقوبات المفروضة عليها، وأدان المتحدث باسم المفوضية الأوروبية إريك مامر قرار الشركة الروسية، قائلا إنه يستند إلى "ذرائع كاذبة". كما وصف غازبروم بأنها مورد "لا يمكن الاعتماد عليه"، وأنها تقدم المزيد من الأدلة على "استهانة" روسيا بأوروبا، (بي بي سي، 3 سبتمبر 2022).
وتنفي روسيا استخدام الطاقة كسلاح، ملقية باللوم على العقوبات الغربية، التي أشارت غازبروم مرارا إلى أنها تمنعها من صيانة خط الأنابيب وتشغيله بالكفاءة المطلوبة. وذكرت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء، أن الكرملين يلقي باللوم على الاتحاد الأوروبي، في وقف شحنات الغاز عبر خط أنابيب نورد ستريم1. وفي حديث تلفزيوني، ذكر السكرتير الصحفي للكرملين، دميتري بيسكوف إذا اتخذ الأوروبيون قراراً سخيفاً تماماً، حيث يرفضون الحفاظ على أنظمتهم، أو بالأحرى، أنظمة تابعة لشركة غازبروم، فهذا ليس خطأ شركة غازبروم، بل خطأ السياسيين، الذين اتخذوا قراراً بشأن العقوبات. وأضاف بيسكوف أن الأوروبيين ملزمون تعاقدياً بالحفاظ على أنظمة شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم.
وكانت تدفقات الغاز عبر خط الأنابيب قد تم تخفيضها بالفعل إلى حوالي 20٪ فقط، غير أن الانقطاع الكامل لجميع إمدادات الغاز الروسية يفاقم من أزمة الطاقة المشتعلة في أوروبا، ويضع الاتحاد الأوروبي في موقف حرج مع توجهه إلى فصلي الخريف والشتاء حيث يصل استهلاك الطاقة في القارة إلى أعلى مستوياته.
البدائل المتاحة أمام أوروبا
نورد ستريم 1 ليس المصدر الوحيد للغاز في أوروبا، حيث تمتلك بعض البلدان خيارات توريد بديلة يمكن الاعتماد عليها، والاستفادة من شبكة الغاز الأوروبية المترابطة في مشاركة الإمدادات بين دول القارة. من جهتها، ألمانيا، أكبر مستهلك للغاز الروسي في أوروبا، والتي أوقفت التصديق على خط أنابيب الغاز الجديد نورد ستريم 2 من روسيا بسبب الحرب الأوكرانية، يمكنها أن تستورد من بريطانيا والدنمارك والنرويج وهولندا عبر خطوط الأنابيب. والنرويج، ثاني أكبر مورد للغاز في أوروبا بعد روسيا، تعمل بالفعل على زيادة الإنتاج لمساعدة الاتحاد الأوروبي على تحقيق هدفه المتمثل في إنهاء الاعتماد على الطاقة الروسية بحلول عام 2027.
ووقعت شركة سنتريكا البريطانية (CNA. L) مؤخرا اتفاقا مع شركة إكوينور النرويجية (EQNR. OL) للحصول على إمدادات إضافية لفصول الشتاء الثلاثة القادمة. وبريطانيا لا تعتمد على الغاز الروسي، ويمكنها التصدير إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب. أضف على ذلك، دول جنوب أوروبا يمكنها استقبال الغاز الأذربيجاني عبر خط أنابيب يمر عبر البحر الأدرياتيكي إلى إيطاليا، وخط أنابيب "عبر الأناضول" (TANAP)، الذي يمر عبر تركيا.
من جهتها، الولايات المتحدة أعلنت أنها قادرة على تزويد الاتحاد الأوروبي بـ 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال هذا العام. غير أن هذا الخيار لا يمكن الاعتماد عليه بشكل كبير في الفترة الوجيزة القادمة، نظرا لعمل مصانع الغاز الطبيعي المسال الأمريكية بكامل طاقتها بالفعل في الفترة الحالية، ناهيك عن تداعيات الانفجار في محطة رئيسية لتصدير الغاز الطبيعي المسال في تكساس، والتي من المتوقع أن تقوض قدرة الولايات المتحدة على تصدير الغاز إلى أوروبا حتى أواخر نوفمبر. ونشير هنا إلى أن محطات الغاز الطبيعي المسال في أوروبا لديها قدرة محدودة على استيعاب واردات إضافية، على الرغم من أن بعض دول القارة تبحث عن طرق لتعزيز قدراتها على استيعاب المزيد من واردات الغاز المسال وتخزينها.
تتصدر ألمانيا قائمة الدول العازمة على بناء محطات جديدة للغاز الطبيعي المسال، وهي تخطط لبناء محطتين في غضون عامين فقط. فضلا عن ألمانيا، قالت بولندا، التي تعتمد على روسيا في نحو 50٪ من استهلاكها من الغاز، أو نحو 10 مليارات متر مكعب، إنها يمكنها الحصول على الغاز عبر ألمانيا من جهة، وعبر خط أنابيب جديد يسمح بتدفق ما يصل إلى 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنويا بين بولندا والنرويج، سيتم افتتاحه في أكتوبر القادم، من جهة أخرى. علاوة على ذلك، تم اعتماد خط غاز جديد بين بولندا وسلوفاكيا الأسبوع الماضي. إسبانيا، بدورها، تعمل على إحياء مشروع لبناء خط ثالث للغاز عبر جبال بيرين، غير أن فرنسا قالت إن محطات الغاز الطبيعي المسال الجديدة التي يمكن تعويمها ستكون خيارا أسرع وأرخص من خط أنابيب جديد.
آراء ونقاشات
ذكر محللون في بنك "غولدمان ساكس" أن أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا قد ترتفع بقوة، لتقترب من مستوياتها القياسية التي سجلتها خلال شهر أغسطس الماضي، بعد أن أوقفت روسيا الغاز عبر خط "نورد ستريم 1". وبحسب تقرير لوكالة "بلومبيرغ"، فقد قال محللون في البنك الاستثماري الأميركي، بمن فيهم رئيس أبحاث الطاقة، داميان كورفالين، إن قطع الغاز الروسي من شأنه أن "يعيد إشعال" حالة عدم وضوح الرؤية بسوق الغاز العالمي، خاصة في ظل عدم الثقة في قدرة دول الاتحاد الأوروبي على استخدام وإدارة مخزوناتها من الغاز خلال فصل الشتاء القادم.
وتناول توم مارزيك مانسر، رئيس تحليلات الغاز في (ICIS)، تداعيات القرار الروسي على أسعار الغاز الطبيعي في العالم، في تدوينة على تويتر قائلا: "من المرجح أن ترتفع أسعار الغاز الطبيعي العالمية بشكل كبير يوم الإثنين، 5 سبتمبر 2022، بينما تتكيف الأسواق مع هذا التطور الأخير"، موضحا أن: "إغلاق نورد ستريم 1 يقلل من إجمالي تدفقات خطوط الأنابيب الروسية بشكل أكبر وسيجعل تحقيق التوازن بين العرض والطلب في الأسواق هذا الشتاء أكثر صعوبة"، (رويترز، 3 سبتمبر 2022).
ووفقا لما يراه سيرجي فاكولينكو، خبير الطاقة المستقل، فإن روسيا تأمل في أن يدفع العجز في الطاقة في موسم الشتاء أوروبا إلى المساومة على الغاز والموافقة على بعض شروطها، على الأقل بشأن أوكرانيا. يرى فاكولينكو، أن موسكو قد قررت أن الوقت قد حان للضغط بأكبر قدر ممكن على أوروبا في ملف الغاز، حتى وإن كان ذلك يعني التضحية بعائدات تصدير الغاز إلى أوروبا. ويجادل سيمون تاجليابيترا، الزميل في مركز بروغل للأبحاث، أن الطريقة الوحيدة لمواجهة انقطاع الغاز الروسي هي "تقليل الطلب على الغاز والكهرباء، إذ يجب أن تكون هذه هي الأولوية الرئيسية لسياسة أوروبا"، (فايننشال تايمز، 3 سبتمبر 2022).
قال جاكوب ماندل، كبير مساعدي السلع الأساسية في شركة أورورا لاستشارات الطاقة، إن وقف التدفقات عبر نورد ستريم 1 "لا يغير بشكل كبير توقعات الواردات الأوروبية من الغاز الروسي من الأسابيع القليلة الماضية"، مشيرا إلى أن نورد ستريم 1 كان يوفر حوالي 30 مليون متر مكعب يوميا، أو 20٪ فقط من سعته قبل الإغلاق الأخير. وقال إن هذا يعادل حوالي 3.7 مليارات متر مكعب فقط خلال الفترة المتبقية من هذا العام. وقال إن هذا يمثل 4٪ فقط من الطلب السنوي في ألمانيا وأقل من 1٪ من الطلب السنوي في أوروبا. ماندل أكد أن المتحدي يكمن في صعوبة الحصول على إمدادات بديلة في ظل الاضطرابات الحالية في أسواق الطاقة، خاصة مع قدوم فصل الشتاء يبدأ الطلب على الغاز في الارتفاع في أوروبا وآسيا، (الغارديان، 2 سبتمبر 2022).
ويرى أحمد مصطفى الصحافي المتخصص في الشؤون الدولية، أن العالم لا يستطيع تحمل فقدان ما يزيد على سبعة ملايين برميل يومياً، هي صادرات روسيا النفطية، إذ إن ذلك قد يدفع بأسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة من الارتفاع. ليس هذا فحسب، بل إن أزمة طاقة عالمية حادة قد تؤدي إلى دخول الاقتصاد العالمي في كساد، ربما أشد عمقاً وقسوة مما شهده قبل قرن. لذا، يبدو حتى الآن أن فرض سقف سعر على مبيعات النفط الروسي بهدف خنق روسيا مع استمرار انسياب نفطها لدعم الاقتصاد العالمي، أمر صعب التحقيق على الأقل، إن لم يكن أقرب لغير الممكن. حتى على الرغم من أن روسيا لم يمكنها الاستمرار من دون عائدات مبيعات الطاقة، التي تشكل أكبر مصادر الدخل القومي للحكومة في الكرملين، (اندبندنت عربية، 3 سبتمبر 2022).
قراءة ختامية
تظل العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على موسكو سلاحا ذا حدين، لم تلجأ إليه أوروبا إلا كخيار أخير بعد بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لما يمثله الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي من ورقة ضغط فعالة في يد موسكو، كان من المتوقع أن تلجأ إلى تفعيلها في حال طال أمد الصراع في أوكرانيا.
ويتزامن التصعيد الأخير، مع اتجاه القوى الغربية نحو اعتماد سقف لأسعار النفط الروسي، بهدف تخفيض عائدات موسكو من النفط على أمل أن يقوض ذلك من قدرتها على مواصلة الحرب في أوكرانيا. عليه، يمكن قراءة التطورات الأخيرة على ساحة الصراع بين الغرب وروسيا، على أنه محاولة استنزاف يسعى كل طرف فيها إضعاف الآخر وتعزيز موقفه في النزاع.
روسيا من جهتها، تسعى إلى تضييق الخناق على أوروبا في ملف الغاز، خاصة مع قدوم موسمي الخريف والشتاء، بغرض تعزيز موقفها في صراعها الأكبر مع الولايات المتحدة. بينما تسعى الولايات المتحدة إلى زيادة الضغط على روسيا من خلال العقوبات الاقتصادية بهدف إضعاف قدرتها على الاستمرار في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وجرها إلى طاولة المفاوضات وهي في موقف لا يسمح لها بالمطالبة بتنازلات كبيرة من الجانب الغربي.