علاقات دولية

العالم في عام 2024 .. استشراف التحولات والتغيرات الإقليمية والدولية

26-Dec-2023

واجه العالم خلال عام 2023 مجموعة غير عادية من الأحداث الجيوسياسية والأزمات الاقتصادية، أدت إلى اضطراب كبير في السياسات وسبل التعاطي مع الأزمات. وبالنظر إلى المستقبل، فإن العديد من الموضوعات والتطورات التي حدثت سوف تستمر في التطور خلال عام 2024، لاسيما أن الأحداث الحالية تُربك التوقعات الجيوسياسية، وتزيد خطر تصعيد الصراعات بشكل أكبر، وسط مزيج معقد من التحالفات والتنافسات، حيث تتوجه العديد من الدول والمؤسسات إلى صناديق الاقتراع في العام الجديد، أكثر من أي عام في التاريخ الحديث، وربما يُنتِج ذلك مفاجآتٍ جيوسياسيةً.

الانتخابات وتشكيل السياسة العالمية

من المقرر أن تُجريَ أكثرُ من 40 دولة انتخاباتٍ وطنيةً خلال عام 2024. وسوف تساعد النتائج، بشكل منفصل وإجمالي، في تحديد من يسيطر على النظام العالمي ويوجهه. على سبيل المثال، ستُجرى بعض تلك الاستحقاقات في أقوى الدول وأغناها (الولايات المتحدة، والهند، والمملكة المتحدة)، وأضعفها (جنوب السودان)، وأكثرها استبدادية (روسيا، وإيران)، والأكثر توتراً (تايوان، وأوكرانيا). ومن المفارقات أن هذا الزخم يأتي في وقت تتعرض فيه الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكية لهجوم وجودي من الصين وروسيا، والأحزاب القومية اليمينية المتطرفة، مثل حزب فيدس في المجر، والمتشددين في فنزويلا وتشاد. إضافة إلى التأثيرات الجيوسياسية والاقتصادية للعديد من معارك الصناديق في عام 2024.

بالنسبة لانتخابات مارس في إيران، فقد تم بالفعل استبعاد أكثر من 25% من مرشحي المعارضة خلال الشهر الأخير من عام 2023. تتوقع الباحثة السياسية في "الجارديان" سيمون تيسدال (17 ديسمبر) أن يقاطعها العديد من الإيرانيين. والعكس تماماً في روسيا، التي تخوض عملية انتخاب فلاديمير بوتن لولاية رئاسية خامسة، وهي تتويج أكثر من كونها منافسة، فلا تزال معدلات تأييده الشخصي مرتفعة بعد ما يقرب من 25 عاماً على رأس السلطة.

ويبدو أن بعض الانتخابات قد تنتج نقاط تحول غامضة، حيث تذهب كل من باكستان وبنجلاديش إلى صناديق الاقتراع في عام 2024، ولا يمكن التنبؤ بنتائج انتخاباتهما بشكل قطعي. بالإضافة إلى الهند، التي على الأرجح سوف تتبدد آمال رئيس وزرائها ناريندرا مودي في الحصول على فترة ولاية ثالثة، من قبل "التحالف الوطني الهندي للتنمية الشاملة"، وهو ائتلاف معارضة يضم 28 حزباً. كما أنه من المنتظر أن تقدم الانتخابات التايوانية المقبلة دليلاً على مدى تقدير قيمة الديمقراطية وسط ضغوط خارجية شرسة من الصين وحلفائها. وقد تتجاوز بكين التهديدات العسكرية المعتادة إذا فاز "الحزب الديمقراطي التقدمي" المؤيد للاستقلال في تايبيه مرة أخرى. وللمرة الأولى منذ نيلسون مانديلا، قد يخسر "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" أغلبيته العامة في انتخابات جنوب إفريقيا، التي يقوضها منافسون، مثل "التحالف الديمقراطي". ومن المتوقع أن حزب المؤتمر سوف يعاقَب من قبل الناخبين بسبب سنوات من الفساد لزعمائه.

كتب موريثي موتيجا في "موقع مجموعة الأزمات الدولية The International Crisis Group" أن معظم الأفارقة ما زالوا يؤمنون بالديمقراطية لكنهم غير واثقين من تخليص أنفسهم بالصناديق ممن فشلوا في الوفاء بأبسط وعود الديمقراطية، مثل الجزائر وتونس وغانا ورواندا وناميبيا وموزمبيق والسنغال وتوغو وجنوب السودان، وكلها دول ستجرى فيها انتخابات خلال عام 2024.

ومن الواضح أن الحروب والصراعات سوف تَعُوق إدارة الاستحقاقات الديمقراطية المقبلة، فمن المقرر أن تجري أوكرانيا انتخابات رئاسية بحلول الربيع، بعد أن انتهت ولاية فولوديمير زيلينسكي بعد تعليق الانتخابات بموجب الأحكام العرفية. ومن المنتظر أن يعمل التصويت كصمام أمان للتخلص من التوترات الداخلية. وقد تجد إسرائيل نفسها في مأزق مماثل إذا استمرت الحرب على غزة. تشير استطلاعات الرأي التي أجرتها الصحف الأمريكية مؤخراً إلى أن أغلبية الإسرائيليين، يريدون التخلص من ائتلاف نتنياهو المتشدد وإجراء انتخابات.

لقد وجد استطلاع رأي أجرته مؤسسة "إبسوس" مؤخراً أن هناك عقيدة راسخة لدى الناخبين في الغرب، بأن الأنظمة الديمقراطية الحالية تحابي الأغنياء والأقوياء، وهو ما سوف يؤثر في نتائج الانتخابات التي ستُجرى في 2024. وخلص إلى أن 7 من كل 10 أمريكيين يعتقدون أن الديمقراطية ستتراجع في العام الجديد. ووافق 73% في فرنسا، و60% من بريطانيا على ذلك. واتفق المشاركون على ضرورة حدوث "تغيير جذري" كي يضمنوا النتائج، وسط خوفهم من أنها ستؤدي إلى تقدم أحزاب قومية شعبوية معادية للمهاجرين والأجانب.

ومع اقتراب نهاية 2024، سوف تتجه كل الأنظار نحو واشنطن، التي من المقرر أن تجري في نوفمبر مواجهتها الرئاسية التي تعاصر اضطراباً عالمياً قد يغير موازين القوى. ومع ضعف فرص جو بايدن، فإن فوز دونالد ترامب المحتمل، وما يترتب عليه من مأساة انتقامية فوضوية، سوف يؤدي حتماً إلى قلب النظام الدولي رأساً على عقب لفترة طويلة.

التغيرات الإقليمية والسلام في الشرق الأوسط

عاقت الحرب بين إسرائيل وحماس رغبة القادة العرب في خفض التوترات في ليبيا والسودان واليمن، ومحاولاتهم تحقيق بعض الاستقرار في سوريا والعراق ولبنان. وجاءت الحرب لتضعنا أمام خطر التصعيد الإقليمي واحتمالات توسُّع رقعتها. وحتى إذا استقرت ضمن حدودها الحالية، فإنها ستؤثر سلباً في البلدان المجاورة، لاسيما مصر ولبنان والأردن. 

سيتضح في عام 2024 ما إذا كانت ثمة حلول جذرية لهذا الصراع، أم أنه سيزداد تعقُّداً، حيث إن المنطقة لم تحظ بفرصة لتحقيق السلام منذ عقدين من الزمن، ومن الممكن أن تجلب الحرب التغيير المطلوب بعد أن دمرت المفهوم الإستراتيجي الذي سمح لإسرائيل والغرب بتجاهل محنة الفلسطينيين، فلم يعد بوسع أحد أن يتظاهر بأن الحل يكمن فقط في القضاء على حماس. وقد تحتاج إسرائيل لنهج جديد حتى تستطيع الوفاء بوعدها التأسيسي بأن تكون وطناً آمناً لليهود. وفي اعتقادنا أن الحرب ستُنتج قادةً جدداً على كلا الجانبين، فهناك تكهنات باستقالة قادة الجيش والمخابرات في إسرائيل فور انتهاء الحرب، تتضح من تحقيقات "هآرتس" الأخيرة، وسط نداءات بضرورة تنحي نتنياهو من منصبه. ومن المرجح أن تحاول تل أبيب قتل قادة حماس في الخارج، وقد ينتهي الأمر بنظرائهم في السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى الإطاحة بالرئيس عباس وحكومته.

كتب المحرر السياسي لـ “إيكونوميست" إدوارد كار في 13 نوفمبر الماضي، أنه بالحسابات العسكرية، لن تستطيع حماس هزيمة إسرائيل، وقد تستمر العملية العسكرية عدة أشهر أخرى. ولكن مجرد الصمود يعني ظهور حماس أقوى في عيون الفلسطينيين. وقد تضطر إسرائيل إلى وقف القتال إذا فقدت الدعم الدولي، وسوف يتسبب ذلك في أن تنهض حماس من تحت الرماد لتصبح رمزاً للمقاومة، بعد أن فقد الشباب الفلسطيني الثقة في السلطة الفلسطينية ورئيسها الذي لا يفعل شيئاً ويتجنب الانتخابات. وستكون أمام قادة إسرائيل مهمة شاقة بعد انتهاء الحرب. فلا يجب عليهم فقط إقناع شعبهم بفكرة صنع السلام، بل مواجهة المستوطنين الذين أصبحوا يستهدفون أهل الضفة. وسيتعين على الدول العربية الكبرى، الإمارات والسعودية ومصر، إقناع الفلسطينيين بأن السعي للعودة إلى طاولة المفاوضات هو الفكرة الوحيدة المتبقية.

وعلى صعيد الاقتصاد الإقليمي، فإن توقعات العام المقبل أكثر تفاؤلاً، من حيث استقرار أسعار النفط على ارتفاعها خلال، وهو ما يدعم مقاييس ائتمان الدول العربية المصدرة للنفط. وبناء على افتراضات "وكالة فيتش للتصنيف الائتماني" (11 ديسمبر)، فإن متوسط سعر الخام سوف يبلغ 80 دولاراً أمريكياً للبرميل، مما يمنح تلك البلدان نمواً أقوى، مع توقعات بأن يبلغ متوسط النمو في دول مجلس التعاون الخليجي 3.5%، وسيكون عليها مواجهة الآثار المترتبة على الصراعات المتصاعدة في مجالات السياحة والتجارة والاستثمار.

أما التضخم، فسوف يستمر في التباين بشكل حادٍّ في الشرق الأوسط. ترى مؤسسة Focus Economics أنه سينخفض في الخليج وإسرائيل والأردن، مع اعتداله في معظم دول شمال إفريقيا، وارتفاعه في مصر ولبنان وإيران واليمن، وأن انخفاض قيمة العملة وارتفاع أسعار المواد الغذائية سيشكل أخطاراً تصاعدية.

وحسب توقعات "معهد الشرق الأوسط" في واشنطن، فإن الصراعات والمنافسة ستشكل معالم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ فالأزمة في السودان ستظل متصاعدة وسط مفاوضات بعيدة المنال، وفي سوريا هناك أزمة إنسانية متفاقمة مع فرص ضئيلة للتحرك الدبلوماسي وسط الانشغال بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وسوف يؤدي تآكل المؤسسات الوطنية الليبية إلى منح روسيا وتركيا نفوذاً جديداً في البلاد، مع احتمالات ضئيلة لتحقيق السلام في اليمن بعد دخوله على خط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وتوقعات بتعرض العراق لمزيد من الانقسامات السياسية.

ويبدو أن أصداء 2022-2023 ستهيمن على منطقة البحر الأسود، وتؤثر في الشرق الأوسط اقتصادياً، فمصر والجزائر والمغرب بعيدة كل البعد عن تحقيق انفراج، ومن الواضح أن الصعوبات الداخلية والخارجية التي تواجهها مصر ستستمر. ومع التغيرات الجيوسياسية التي من الممكن أن تنجم عن حرب غزة، فإن تطلعات السعودية والإمارات لأدوار قيادية عالمية سوف تؤتي ثمارها بشكل إيجابي، ولكن من المتوقع أن تواجه العلاقات الأمريكية القطرية رياحاً معاكسة قبل إجراء الانتخابات الأمريكية، فضلاً عن ظهور بوادر لصراع على السلطة يلوح في الأفق داخل النظام الإيراني.

الحرب في أوروبا

بعد أن كان الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا خلال عام 2023، مصدراً للتفاؤل لدى الغرب، فإنه فشل بعد خمسة أشهر من الجهود المكلفة، وكانت النتائج بحلول أوائل نوفمبر الماضي ضئيلة للغاية. نعتقد أن ذلك ينذر بحرب استنزاف طويلة وطاحنة، ربما تمتد طيلة عام 2024، وسط إستراتيجية روسية ستعتمد على الانتظار حتى يمل الغرب، فقد اتضح أن الحرب الطويلة من نقاط قوة بوتن، الذي لا يقلق من أي تحركات داخلية ضده بعد ارتفاع أسعار النفط الذي أدى إلى إضعاف آثار العقوبات الغربية على شعبه.

ترى المحررة السياسية لموقع RBC Ukraine كاترينا دانشفيسكا، أن الوعود بهجوم أوكراني مضاد تبدو الآن وكأنها كانت أكثر مما ينبغي، وكان الاستعداد لحرب طويلة أقل مما ينبغي. وهكذا تحولت التوقعات لعام 2023 بأنه سيشهد نهاية سريعة للحرب، إلى خطاب أكثر تشاؤماً بشأن استمرار العمليات العسكرية حتى 2025.

أما بالنسبة للدعم الغربي المفتوح لكييف، فسوف يظل كما هو، وسيقوم الاتحاد الأوروبي بمنحها 50 مليار يورو إضافية كما وعد، كمساعدات مالية للفترة 2024-2027. ووفقاً لتقرير "معهد كيل للاقتصاد العالمي" (18 ديسمبر)، سوف تحاول واشنطن تغطية العجز في ميزانية أوكرانيا خلال الشهور المقبلة، حيث بلغ العجز نحو 20% من الناتج المحلي، مما يعني أن واشنطن قد تدعمها بما يقرب من 42 مليار دولار خلال 2024، حتى تتمكن من الصمود. 

ترقب تغيرات في التركيبة السياسية الأوروبية

يحمل العام الجديد تحولات في السياسات الوطنية الأوروبية. ومن المتوقع أن تكون هناك تركيبة جديدة للبرلمان الأوروبي، وتغيير كبير بين مفوضي الاتحاد الحاليين، وإمكانية تعيين رئيس جديد للمفوضية وكذلك المجلس الأوروبي. ومن المؤكد أن هذا التغيير سيؤدي إلى تحول في السياسات بشكل عام. وحتى إذا ظل رئيس المفوضية دون تغيير، فإن تقديم أولويات سياسية جديدة من المجلس الأوروبي والبرلمان، جنباً إلى جنب مع المفوضين الجدد، سيؤدي إلى تغيير جدول الأعمال.

يتوقع تقرير موقع "جيوبوليتان مونيتور" (11 ديسمبر)، توسيع نطاق السياسة الخارجية وإجراءات التأثير، مثل تقديم المساعدات لأوكرانيا في حربها، ودعم دول جنوب أوروبا على إدارة الهجرة، بإنفاق ما يزيد على 70 مليار يورو خلال 2024. بالإضافة إلى الاستفادة من تعليق قواعد العجز في الاتحاد خلال جائحة كوفيد، التي نتوقع عودتها إلى حيز التنفيذ في العام الجديد. يرى التقرير أيضاً أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، المنتمية إلى حزب الشعب الأوروبي، واثقة من إعادة تعيينها في عام 2024، فهي الخيار الأسهل لرؤساء دول وحكومات الاتحاد، وتتمتع بخبرة وزارية كبيرة، ويبدو أن فرصها في الحصول على ولاية ثانية مواتية. أما المجلس الأوروبي، فمن المتوقع أن يُظهر قدراً أكبر من التشرذم مقارنة بالعامين السابقين. ولن يحكم حزبُ الشعب الأوروبي أيّاً من الدول الخمس الكبرى الأعضاء في الاتحاد. ولذلك من المتوقع أن يتوزع رؤساء الدول والحكومات على انتماءات مختلفة، بما في ذلك حزب الشعب، وحزب الاشتراكيين والديمقراطيين من يسار الوسط.

كذلك تشير توقعات "مؤسسة الاستشارات الإستراتيجية" Publyon في لاهاي، إلى تحرك البرلمان الأوروبي نحو اليمين في انتخابات 2024، لكن هذا التحول لن يؤدي بالضرورة إلى أغلبية ثابتة. ووفقاً لاستطلاعات الرأي الحالية، من المرجح أن تحافظ الأحزاب المتحالفة مع حزب الشعب الأوروبي الذي ينتمي إلى يمين الوسط على موقفها الحالي. ومن المتوقع أن تكتسب الأحزاب الواقعة إلى اليمين المزيد من الثقَل في دول الاتحاد، على الرغم من الأداء الأقل إيجابية من جانبها في انتخابات يوليو الماضي في إسبانيا، وهي نتيجة لا تشير إلى اتجاه أوروبي شامل. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن عام 2024 يمثل تحدياً بالنسبة ليسار الوسط في أوروبا، الذي واجه صراعات انتخابية في ألمانيا وفرنسا.

أمريكا اللاتينية وتبدل الأدوار الحزبية

ظلت أمريكا اللاتينية فترة طويلة خاضعة لهيمنة الأحزاب السياسية اليسارية منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فيما عرف باسم "المد الوردي"، بسبب المنح الاجتماعية التي عززها التدفق المفاجئ للأموال. ثم جاء بعده "المد الأزرق" للقادة اليمينيين، مثل موريسيو ماكري في الأرجنتين، وجائير بولسونارو في البرازيل، مما أحدث تراجعاً اجتماعياً وسياسياً كبيراً. ولكن بحلول عام 2023، بدا أن حقبة أخرى من السياسة التقدمية قد بزغت، حيث أصبحت 12 دولة من أصل 19 دولة تديرها حكومات يسارية. ولذلك من المتوقع أن يكون عام 2024 العام الذي يزداد فيه الأمر تعقُّداً بين اليسار واليمين.

ترى المحررة السياسية لـ"إيكونوميست" إيما هوجان، أن السبب وراء ذلك هو صعود نجم خافيير مايلي الذي فاز بمقعد الرئاسة الأرجنتيني في انتخابات 19 نوفمبر الماضي، كأول رئيس ليبرالي في أمريكا اللاتينية، وسوف يقلب ذلك الأرجنتين رأساً على عقب خلال عام 2024، والتي هيمنت عليها لفترة طويلة الشعبوية اليسارية التابعة للحركة البيرونية، فمن المتوقع أن يتخذ مايلي قراراً بـ"دولرة" اقتصاد الأرجنتين وإلغاء البنك المركزي، وخفض الإنفاق العام بما لا يقل عن 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وخفض عدد الوزارات الحكومية من 18 إلى 8 وبدء إجراءات سحب بلاده من معاهدة التجارة الحرة "ميركوسور"، كما ألمح في حملته الانتخابية.

ويبدو أن السبب الآخر الذي سيزيد حدة التعقُّد بين اليمين واليسار في أمريكا اللاتينية، هو أن العديد من الحكومات اليسارية تتجه إلى عام 2024 بتفويضات أضعف بكثير. ولنتأمل هنا المكسيك التي تستعد لانتخابات رئاسية في يونيو، وسط توقعات بفوز كلوديا شينباوم، من حزب مورينا الحاكم، لتخلف أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الرئيس منذ عام 2018. ولأن معظم المكسيكيين يعتقدون أن سجله في قضايا مثل الأمن العام والفساد والاقتصاد ضعيف، فسيتعين على شينباوم في حال فوزها تقديم تنازلات خلال الأشهر الأولى من حكمها، والعمل مع المعارضة، وكبح خطط حزبها الأكثر راديكالية. وهكذا تبدو أمريكا اللاتينية في عام 2024 مستعدة لسياسة مختلطة بين اليسار واليمين.

توقعات البيئة الجيوسياسية العامة لعام 2024

إحدى السمات المتوقعة في عام 2024 ستكون التعددية القطبية. وسوف تعمل الكثير من الجهات الفاعلة على تشكيل نظام عالمي متزايد التعقُّد. وبوصفها قوى عظمى، سوف يستمر كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين في تشكيل بيئة العمل العالمية بطرق عميقة. تتوقع مجموعة EY Geostrategic Business Group (12 ديسمبر)، أن الدول المتأرجحة جيوسياسياً مثل الهند والسعودية وتركيا، وجنوب إفريقيا، والبرازيل، ممن لا تصطف مع أي قوى أو كتل كبرى، سوف تكتسب قدراً أكبر من النفوذ على الأجندة الدولية خلال عام 2024. كما ستغتنم الجهات الفاعلة غير الحكومية الفرص لإعادة تشكيل مواقعها. ربما تكون الحرب في أوكرانيا وغزة، والصراعات الجيوسياسية التي اندلعت في عدة أجزاء أخرى من العالم، مجرد بداية.

السمة الثانية المميزة للبيئة الجيوسياسية في عام 2024، ستكون إزالة الأخطار عن سلاسل التوريد العالمية. حيث استجابت الحكومات لخطط إعادة الانخراط في السياسة الصناعية وتوسيعها، والسعي إلى تعزيز إنتاج السلع الحيوية محلياً. في بعض الأسواق تكون المنافسة الجيوسياسية جزءاً لا يتجزأ من هذه السياسات الصناعية، وسوف نرى المزيد من هذا الارتباط الواضح بين السياسة الاقتصادية وسياسات الأمن الوطني في العام الجديد.

وبناء على الزخم الذي اتسم به عام 2023 في مجالات الذكاء الصناعي، سوف تصبح الجغرافيا السياسية للذكاء الاصطناعي أكثر أهمية في عام 2024. وسوف تتسابق الحكومات لتنظيمه والحد من أخطاره الاجتماعية والسياسية. لكن صناع السياسات سيحاولون في الوقت ذاته تعزيزه من أجل المنافسة على المستوى الجيوسياسي. ونتيجة لذلك، سوف يشكل الذكاء الاصطناعي ديناميكية مركزية في العلاقات بين دول كبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، وسيعمل على تسريع التحول نحو كتل جيوسياسية جديدة.

ومن المرجح أن يظهر أمن المحيطات والتغير المناخي وأمن الطاقة وضمان أمان سلاسل التوريد، وما يرتبط به من اهتمامات الاستدامة، كقضايا جديدة في عام 2024، تحفز المنافسة الجيوسياسية والديناميكيات التنظيمية في عالم متعدد الأقطاب. ولا تزال سياسة المناخ تتصدر جدول أعمال العديد من الحكومات، وبلغت ذروتها في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ COP28 لعام 2023 في دولة الإمارات العربية المتحدة.

وبناء على توقعات EY فإن عام 2024 سوف تحتل فيه الجغرافيا السياسية للمحيطات مكانة بارزة. تعد المحيطات موطناً لنحو 94% من أشكال الحياة على كوكبنا، كما أنها تشكل مورداً اقتصادياً ووطنياً متزايد الأهمية. وتُشحَن 90% من تجارة السلع العالمية عبر الطرق البحرية، ولكن العديد من ممرات النقل البحري الأكثر ازدحاماً في العالم معرضة لخطر الاضطراب الجيوسياسي، مثل البحر الأسود، والبحر الأحمر، وبحر الصين الجنوبي. ومن المتوقع أن يمثل التعدين في أعماق البحار ما لا يقل عن ثلث إمدادات المعادن الحيوية اللازمة لتحول الطاقة. ستحتاج الشركات والحكومات خلال العام الجديد إلى أخذ الجغرافيا السياسية للمحيطات في الحسبان عند تحديد سلسلة التوريد وإستراتيجيات الاستدامة الخاصة بها. 


1.3K