تحول السودان إلى مصدر مخاوف إقليمية ودولية متزايدة، منذ بداية الحرب في 15 أبريل 2023، بين الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)؛ لما تحمله من تداعيات خطِرة تهدد دول الجوار خاصة، والأمن العالمي بشكل عام. نبحث في سلسلة "الجوار السوداني وتأثير الحرب" تداعيات الوضع الجديد إقليمياً، حيث ننظر إلى الملفات المشتركة بين السودان وجيرانه، وأوجه تأثرها جراء الصراع.
في هذا الجزء من السلسلة نتناول تداعيات الحرب الجارية، على المصالح المشتركة للسودان ودولة جنوب السودان، مستعرضين العلاقات والتاريخ المعقد بين البلدين، منذ حصول الأخيرة على استقلالها في عام 2011، ونسلط الضوء على التحديات والمعالم التي شكلت تفاعلاتهما. علاوة على ذلك، نستكشف مجالات الاهتمام المشتركة التي توفر سبلاً محتملة للتعاون بين الدولتين.
تاريخ العلاقات
تتشابك الخلفية التاريخية للعلاقات بين السودان وجنوب السودان مع حرب أهلية طويلة استمرت لعقود. بدأ الصراع في عام 1955؛ بسبب الانقسامات السياسية والعرقية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، وأفرز بعد محطات عديدة، اتفاق سلام شامل بين الحكومة السودانية في الخرطوم ومختلف الجماعات المتمردة الجنوبية تم توقيعه عام 2005. منح الاتفاق شعب جنوب السودان الحق في تقرير المصير من خلال استفتاء على الاستقلال. وفي عام 2011، صوتت الغالبية العظمى من جنوب السودان لصالح الانفصال.
رافقت عملية انفصال السودان وجنوب السودان العديد من التحديات، فقد أدت النزاعات حول عائدات النفط، وترسيم الحدود، وحقوق المواطنة، والمخاوف الأمنية إلى توتر علاقتهما. وكانت أهم نقطة خلاف هي تقاسم الموارد النفطية، إذ إن غالبية حقول النفط السودانية تقع في جنوب السودان، لكن البنية التحتية لتصدير النفط تقع في السودان. انخرط البلدان في مفاوضات مطولة للتوصل إلى اتفاقات بشأن تقاسم الإيرادات ورسوم العبور لاستخدام خطوط الأنابيب والبنية التحتية.
في عام 2012، توصل البلدان إلى اتفاق بشأن النفط، لكن الاشتباكات والنزاعات على الأراضي الحدودية استمرت في خلق التوترات، وكثيراً ما شاركت فيها مليشيات عرقية وأسفرت عن تشريد آلاف الأشخاص على جانبي الحدود. في السنوات الأخيرة، اكتسبت الجهود المبذولة لتحسين العلاقات بين السودان وجنوب السودان زخماً، ففي عام 2018، تم توقيع اتفاق سلام بين الحكومة السودانية وجماعات متمردة متعددة، بما في ذلك تلك الموجودة في منطقة دارفور. جلب هذا التطور استقراراً نسبياً للسودان وأثر بشكل إيجابي على العلاقات مع جنوب السودان. علاوة على ذلك، أحرز البلدان تقدماً في حل القضايا العالقة من خلال المفاوضات.
وفي عام 2020، وقعا اتفاقاً لتمديد الفترة الانتقالية لمنطقة أبيي المتنازع عليها، والتي تقع على طول الحدود. وبالإضافة إلى ذلك، يتعاون البلدان في المسائل الأمنية، وينظمان دوريات مشتركة لمكافحة الجرائم العابرة للحدود. علاوة على ذلك يستضيف السودان بالرغم من أزماته الاقتصادية نحو 800 ألف لاجئ من جنوب السودان فروا من صراعات طويلة الأمد هناك.
نشير هنا إلى أنه عندما انفصل جنوب السودان، انفصلت معه أغنى حقول النفط في المنطقة، ليبقى السودان أكثر فقراً من ذي قبل، ما أسهم بشكل غير مباشر في اندلاع الأزمة الراهنة بالخرطوم، حيث تتصارع جماعتان للسيطرة على المصادر الاقتصادية المتآكلة، كالذهب والزراعة.
ملفات مشتركة
يشترك السودان وجنوب السودان في العديد من الملفات ذات الاهتمام المشترك، فقد كانتا دولة واحدة قبل الانفصال والآن هما دولتين متجاورتين لهما تاريخ متشابك وقرب جغرافي .وعلى الرغم من إرث الصراع، وتقلبات العلاقات الثنائية ما بعد الانفصال، يبقى التعاون في هذه المجالات هو أساس بناء علاقات مستقرة وبناءة وتنمية مستدامة في كلا البلدين.
وفيما يلي بعض الملفات والمصالح المشتركة الرئيسية، بين السودان ودولة جنوب السودان:
الأمن: لكل من السودان وجنوب السودان مصلحة مشتركة في الحفاظ على السلام والاستقرار على طول حدودهما المشتركة. يمكن أن يساعد التعاون في أمن الحدود والدوريات المشتركة وتبادل المعلومات في منع النزاعات عبر الحدود وتهريب الأسلحة والأنشطة غير المشروعة.
النفط والموارد الطبيعية: يؤدي قطاع النفط دوراً حاسماً في اقتصادي البلدين. إن حل القضايا المتعلقة بإنتاج النفط وتقاسم العائدات والبنية التحتية له مصلحة متبادلة كبيرة. ويمكن للتعاون في صناعة النفط، بما في ذلك المشروعات الاستثمارية المشتركة، أن يسهم في النمو الاقتصادي والاستقرار.
ترسيم الحدود: لا تزال لدى السودان وجنوب السودان قضايا ترسيم الحدود التي لم يتم حلها، لاسيما في مناطق مثل أبيي وجبال النوبة. إن إيجاد حل مقبول للطرفين من خلال المفاوضات أمر ضروري لمنع النزاعات الحدودية وتحقيق التعايش السلمي.
الموارد المائية: يشترك السودان وجنوب السودان في نهر النيل، وهو مصدر حيوي للمياه لكلا البلدين. ويعد التعاون بشأن الاستخدام العادل للموارد المائية وإدارتها، فضلاً عن معالجة النزاعات المحتملة المتصلة بالمياه، أمراً بالغ الأهمية للتنمية المستدامة وتجنب التوترات.
التعاون التجاري والاقتصادي: يعتمد جنوب السودان على السودان في الحصول على الكثير من المنتجات ، ويمكن لتوسيع البنية التحتية الأساسية، مثل الطرق والسكك الحديدية، وإزالة الحواجز التجارية أن يعزز التكامل الاقتصادي بين الدولتين ويدعم النمو.
الاستقرار الإقليمي: لكل من السودان وجنوب السودان مصلحة راسخة في تعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة بشكل أوسع. والتعاون في المنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، من شأنه أن يمكن البلدين من العمل معاً على معالجة الصراعات الإقليمية، ومكافحة الإرهاب والتحديات المشتركة الأخرى.
تداعيات الحرب
جنوب السودان كانت من أولى الجول التي دعت لوقف الحرب وعرضت الوساطة بين الأطراف السودانية المتقاتلة، وقد سعى الرئيس سلفا كير ميارديت للتوسط مع القاهرة وعبر الهيئة الهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد" مع الرئيس ويليام روتو ورئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله. وقال توت قلواك، المستشار الأمني والسياسي لرئيس جنوب السودان في حديث للقاهرة الإخبارية 11 مايو 2023 : تواصلنا مع أطراف الأزمة في السودان، سواء رئيس المجلس السيادي أو نائبه، وأكدنا على ضرورة إيقاف الحرب وإحلال السلام بالسودان وتوفير معابر آمنة لمواطني السودان، حتى يستطيع المواطنون التحرك ونقل مصابيهم للمستشفيات». تابع: «لكن ما زال الأمر صعبا على الأرض، وما زال رؤساء دول جوار السودان يفكرون في حل هذه الأزمة لأنها قضية معقدة وصعبة للغاية».
الحرب الجارية في السودان، لها آثار خطِرة على المجالات المشتركة التي أشرنا إليها وآفاق تحقيق تطور مستدام في أي منها، ما ينذر بتداعيات وخيمة على كلا البلدين اللذين كانا بالفعل يعانيان من أزمات متعددة قبل اندلاع الصراع. وفيما يلي نتناول التداعيات المحتملة، على العلاقات بين الدولتين، والتي يمكن أن تنجم عن الحرب الجارية:
زيادة تدفق اللاجئين: يواجه جنوب السودان بالفعل أزمة إنسانية كبيرة، مع ما يقدر بنحو 1.6 مليون نازح داخلياً و330,000 لاجئ. ويمكن أن تؤدي موجة جديدة من النزوح إلى تفاقم الوضع، مما يضع ضغطاً إضافياً على الموارد والبنية التحتية الهشة للبلاد. ومع بداية الحرب قال مسؤولون من جنوب السودان إن نحو 10 آلاف لاجئ دخلوا البلاد قادمين من السودان في الأيام فارين من القتال ، وكان ثلاثة أرباع الوافدين من مواطني جنوب السودان، والبقية من مواطني السودان وإريتريا وكينيا وأوغندا والصومال.
التهديدات الأمنية: يشترك جنوب السودان في حدود يسهل اختراقها مع السودان، ما يجعله عرضة لارتدادات الصراع، حيث يمكن للجماعات المسلحة استغلال عدم الاستقرار في السودان لتنفيذ هجمات أو شن غارات عبر الحدود. في السياق، تقول الكاتبة الصحفية السودانية منى عبد الفتاح: "تتأثر دولة جنوب السودان بامتداد الصراع من الخرطوم إلى منطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة، وهو إقليم هش أمنياً ويشكل الحدود الجديدة بين الدولتين بعد الانفصال، ولم تخمد الحرب فيه تماماً رغم توقيع اتفاق سلام جوبا عام 2020. كما يؤدي النفط في منطقة أبيي الحدودية المتنازع عليها دوراً آخر في التأثير في دولة الجنوب يزيد معاناتها مع صراعاتها الداخلية"، (اندبندنت عربية، 4 مايو 2023).
عدم الاستقرار الاقتصادي: السودان شريك تجاري رئيسي لدولة جنوب السودان، حيث يستحوذ على أكثر من 50% من صادراته و90% من وارداته. أي انقطاع في التجارة أو طرق العبور يمكن أن تكون له آثار سلبية على اقتصاد البلدين. يقول لغيرت كورتس، الخبير في مجموعة أبحاث إفريقيا والشرق الأوسط في مؤسسة برلين للعلوم والسياسة: "يعتمد جنوب السودان على العملات الأجنبية من مبيعات النفط الخام، فحوالي 95% من الإيرادات العامة تعود إلى تلك المبيعات، ويقوم السودان بدور في استقرار تدفقها، إذ يمر خط الأنابيب عبر السودان إلى البحر الأحمر؛ لهذا فإن حكومة جنوب السودان مهتمة للغاية بالحفاظ على الاتصال بين البلدين". (دويتشه فيله، 27 أبريل 2023).
الضغط السياسي: يمكن تقويض الاستقرار السياسي الهش في جنوب السودان بشكل أكبر مع استمرار الحرب في السودان أو انزلاقها نحو حرب أهلية. وكدولة مجاورة، قد يتعرض جنوب السودان لضغوط للانحياز إلى أحد الجانبين أو التدخل، مما قد يؤدي إلى تأجيج التوترات. في هذا السياق يقول كورتس: "تحاول الأطراف في جنوب السودان بطريقة ما النأي بنفسها عن الصراع الدائر في الشمال، إذ إن هذا الصراع قد يفجر الوضع السياسي في جنوب السودان أيضاً ويؤدي إلى جر المنطقة إلى دوامة العنف"، (دويتشه فيله، 27 أبريل 2023).
المساعدات الإنسانية: يؤدي السودان دوراً مهماً في تسهيل المساعدات الإنسانية إلى جنوب السودان، وتوفير طريق لنقل الإمدادات عبر بورتسودان. وتعطيل إيصال المساعدات بسبب الحرب، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية القائمة في جنوب السودان.
استنتاجات
أضافت الحرب بُعداً جديداً للأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية بالسودان ودولة جنوب السودان التي تعد من أكثر الدول تأثراً من الصراع الجاري. في السياق، تقول مارينا بيتر مؤسسة منتدى السودان وجنوب السودان: "هناك روابط خاصة ومختلفة مع دولة جنوب السودان، البلد الذي أعلن استقلاله عن الشمال عام 2011، بعد صراع طويل وحرب أهلية أسفرت عن مقتل مئات الآلاف (..) من بين حوالي 11 مليون نسمة في جنوب السودان، فر عدة ملايين إلى البلدان المجاورة أو أجزاء أخرى من جنوب السودان، هرباً من الحرب الأهلية التي اندلعت عام 2013 وأودت بحياة مئات الآلاف.. انتهت الحرب الأهلية رسمياً عام 2020، لكن السلام هناك لا يزال هشّاً"، (دويتشه فيله، 27 أبريل 2023).
أحد الملفات المحورية بين البلدين في سياق الحرب هو ملف النفط، إذ يهدد الصراع سلامة خط الأنابيب والبنية التحتية للتصدير، كما يهدد بتعرض القطاع بمجمله لعقوبات في ظل الضغوط الدولية على أطراف الصراع. تقول منى عبد الفتاح: "نشأت صناعة خطوط الأنابيب في السودان بكلفة عالية مستفيدة من الطفرة النفطية، ومع ذلك فهي ضعيفة نظراً إلى طولها الذي يبلغ نحو 1600 كلم، وعليه لم يدشن أي نظام لاحتمال وقوع هجمات إرهابية أو تخريبية، وهو ما يتوقع في ظل النزاع الحالي (..) رغم أن هنالك برامج استجابة للتهديدات بشكل عام، لكنها تحتاج إلى تعزيزات إضافية مع الأحداث المتطورة في السودان.. لكن ذلك في هذا الظرف الحرج قد يكون ضرباً من المستحيل"، (اندبندنت عربية، 23 أبريل 2023).