تنطلق الحكومات من مبدأ تقرير المصير الجماعي للدول (Collective Self-determination) لفرض القيود على الهجرات النظامية وغير النظامية، إذ لمواطني المجتمع السياسي الحق في تشكيل مصيرهم الجماعي والتحكم في شخصية مجتمعهم السياسي. فالهجرة، كما هو معلوم، قد تغير طبيعة وعضوية ومؤسسات مجتمع ما. لذا، كان للمواطنين الحق في السيطرة على هذه الجوانب من شؤونهم الجماعية. ومن هنا، يأتي تبرير فرض القيود على الهجرة من باب تقرير المصير الجماعي. ولذلك، من الجوانب القانونية والعرفية والفلسفة الأخلاقية، هذه القيود مبرّرة. وإذا ما تناولنا الجانب غير النظامي من مسألة الهجرة، فإن الحكومات توصد الأبواب أمام المهاجرين غير النظاميين فتصبح القيود في حالة قصوى مقارنة بقيود الهجرات النظامية.
من التدابير التي تتخذها الحكومات من أجل منع المهاجرين غير النظاميين من الوصول إلى أراضيها بناء الجدران، ودوريات الحدود، واحتجاز المهاجرين غير النظاميين وترحيلهم بهدف السيطرة على الهجرة. كما تعمل الحكومات على منع المواطنين من التفاعل والارتباط بالمهاجرين غير النظاميين بطرق عديدة منها العقوبات القانونية لمن يسهّل عمل مهاجر غير نظامي أو يوفّر سكناً له. لكن ثمّة ما أصبح يعرف بمقاومة قانون الهجرة من جانب المواطنين والسياسيين. ومن زاوية المواطنين، يكمن شكل المقاومة في أنّ هناك من يسهّل وجود المهاجرين غير النظاميين من خلال مساعدتهم في عبور الحدود، وتوفير العمل لهم أو المسكن لأسباب عديدة منها القرابة أو خلفية المواطنة المشتركة أو لأسباب نفعية بحتة كالاستفادة من العمالة الرخيصة وقبول المهاجرين بأدنى الحقوق.
ومع ذلك، فالإجراءات الحكومية التي ذكرنا تقلّص كثافة ظاهرة الهجرة على الدول. لكن مسألة الهجرة أكثر تعقُّداً من ذلك بكثير لأنّها تنطوي على معضلات أخلاقية وخلافات سياسية تطال الأيديولوجيات بأطيافها المتنقّلة بين الأحزاب والمشرعين، فضلاً عن حالة الانقسام والاستقطاب التي يختبرها المجتمع المعني. في هذا المقال سنعرض حالة الجدل التي أصابت المملكة المتحدة مؤخراً بشأن ملف الهجرة، وخاصة مشروع القانون الأخير الذي أقره مجلس العموم البريطاني الخاص بترحيل المهاجرين غير النظاميين إلى رواندا.
يقول الخبر الأخير إنّ مجلس العموم البريطاني أقرّ "مشروع قانون مثير للجدل يُتيح للحكومة أن ترحل إلى رواندا المهاجرين الوافدين بصورة غير نظامية إلى المملكة المتحدة. وبعد نحو سبع ساعات من النقاشات، تمت المصادقة على مشروع القانون الذي نال 313 صوتاً مؤيداً وعارضه 269 في مجلس العموم". (فرانس 24). الخبر يفيد المرحلة الأخيرة التي وصل إليها مسعى المحافظين في محاولاتهم الجادّة لتقويض ظاهرة الهجرة غير النظامية وإبعادها عن المجتمع البريطاني. فمن جانب المسار المؤسساتي بلغ المسعى حد الموافقة على مشروع القانون، لكن من الجانب العملي ما زالت العملية في بداياتها. وقبل تقدير الحالة الجدلية التي أصابت المجتمع البريطاني ومصير المشروع والعقبات التي قد تواجهه، من المهم الحديث عن فحوى ومسار هذا المشروع.
كانت الحكومة البريطانية في عهد رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون قد وقّعت اتفاقية تنص على ترحيل المهاجرين غير النظاميين إلى رواندا. وقد عدّلت الاتفاقية لاحقاً لتضمّن تعديلات على نسختها السابقة مراعية بذلك مبادئ المحكمة العليا بخصوص ما قد يصيب المهاجرين المرحلين، وعليه، فقد "اتفقت لندن مع كيغالي على خطوات تضمن عدم نقل هؤلاء إلى أي بلد ثالث غير آمن، أو إعادتهم إلى مَواطنهم الأصلية إن كانت تعيش حروباً، أو ظروفاً تهدد حرية الأشخاص". وتنص الاتفاقية الجديدة على "إنشاء هيئة استئناف تضم قضاة ذوي خبرة من بلدان عدة، للنظر في القضايا الفردية التي ترفع ضد قرارات اللجوء التي تصدر بحق المرحلين إلى رواندا". وستخصص لمراقبة تطبيق اتفاقية اللجوء بين بريطانيا ورواندا لجنة مستقلة واسعة الصلاحيات تضم قانونيين ومحامين بريطانيين تختارهم لندن. (مونت كارلو).
تواجه المشروعَ عقباتٌ عديدة، منها أنّ السياسيين الأكثر يمينية من رئيس الحكومة البريطاني يعارضون المشروع لأنّ نصَّه غيرُ كافٍ ولا يعالج المشكلة كلها. وفي هذا السياق، أعلن وزير الهجرة روبرت جينريك استقالته، مؤكداً أنه لن يدعم النص بصيغته الحالية لأنه لا يذهب بعيداً بما فيه الكفاية، حسب قوله. وفي سياق معارضة المشروع، صرحت مجموعة محافظة على لسان النائب مارك فرنسوا أنها لن تدعم في هذه المرحلة مشروع القانون الذي وصفته بأنه "كثير الاعتدال". (الجزيرة). وهذا يعني أنّ البحث في نصّه سيعود إلى الواجهة بداية السنة الجديدة. ويجري الحديث عن كلفة الاتفاقية بين بريطانيا ورواندا وعن المبالغ التي تدفعها لندن لكيغالي، والمبالغ المترتّبة على دافعي الضرائب البريطانيين. الخلافات التي تشوب المشروع، لاسيما مسألة إعادة البحث والجدال بشأن نصّه، ومخاوف ومبادئ المحكمة العليا ستمثّل عراقيل للمشروع الذي من المبكر الحديث عن تحوّله إلى قانون ملزم.