
تتباعد المواقف الأمريكية والأوروبية، حيال الوضع في أوكرانيا، بشكل متزايد خاصة بعد الاجتماع الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ورأى كثيرون أنه ليس جيداً على الإطلاق بالنسبة لأوكرانيا ومستقبل أوروبا حيث تعرض حليفها زيلينسكي لهجوم حاد وإهانة من قبل ترامب على الهواء مباشرة.
اتجاهات الأصوات الأوروبية
في الثاني من مارس اجتمع نحو 15 زعيماً أوروبياً في لندن، في محاولة لتأكيد الدعم لأوكرانيا ورسم خطة الدفاع عنها، وسط مخاوف بشأن مستقبل الدعم الأمريكي لها والتي زادت بعد مشادة البيت الأبيض.
وقد أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن القادة ناقشوا الحاجة إلى ضمانات أمنية شاملة، بما في ذلك وضع أوكرانيا في موقف قوة، وضمان حصولها على الوسائل اللازمة "لتحصين وحماية" نفسها.
وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي إن الجميع في أوروبا سيتعين عليهم تقديم مزيد لدعم أوكرانيا، مشيراً إلى مناقشة ضرورة أن تؤدي أوروبا دورها في مجال الدفاع، والخطوات التالية للتخطيط لضمانات أمنية قوية.
بعد الاجتماع، أكد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر رغبة الدول الأعضاء في مراقبة أي اتفاق سلام في أوكرانيا، مع اتفاقهم على استمرار تدفق المساعدات العسكرية وزيادة الضغوط الاقتصادية على روسيا، ورأى أن على "أوروبا تحمّل العبء الأكبر" لضمان السلام في أوكرانيا، لكنه أشار إلى الحاجة للدعم الأمريكي. وقال "على أوروبا تحمّل العبء الأكبر، لكن من أجل دعم السلام في قارتنا، والنجاح في ذلك، يحب أن يحظى هذا الجهد بدعم قوي من الولايات المتحدة".
وقال "لا أريد صراعاً في أوكرانيا، وفي أوروبا، وبالتأكيد ليس في المملكة المتحدة. أريد الاستقرار في المملكة المتحدة.. الطريقة لضمان هذا الاستقرار هي ضمان قدرتنا على الدفاع عن صفقة في أوكرانيا، لأن الشيء الوحيد الذي يخبرنا به تاريخنا هو أنه إذا كان هناك صراع في أوروبا، فسوف ينتهي به الأمر على شواطئنا".
وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك دعت إلى تخفيف أحكام الميزانية المحلية والأوروبية؛ لتسهيل دعم أوكرانيا، وقالت إنها ستدفع من أجل مزيد من المرونة في ميثاق الاستقرار والنمو الأوروبي، وأنها ستعمل أيضاً على إدخال إصلاح جذري لآلية الحد من الديون المنصوص عليها في دستور ألمانيا، لإتاحة تقديم مزيد من المساعدة لكييف.
خلاف أوروبا وإدارة ترامب
لقد وصل الخلاف بين ترامب وزيلينسكي إلى جوهر التحفظات الأوكرانية والأوروبية في وجهة نظر البيت الأبيض بشأن وقف الصراع في أوكرانيا، ففي حين يصر زيلينسكي على أن التسوية يجب أن تتضمن ضمانات أمريكية لردع الهجمات الروسية المستقبلية، قال ترامب إن حقوق الولايات المتحدة في الموارد المعدنية لأوكرانيا ستكافئ المساعدات الأمريكية، ثم أتبع ذلك بقرار أمر فيه بتجميد المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا.
من الجوانب المهمة للخلاف الأوروبي مع إدارة ترامب، أن الأخيرة تريد أن تنفرد بحل وإنهاء الحرب الأوكرانية نتيجة لكون الخطة الأمريكية لا تتناسب مع المواقف الأوروبية، وكان ترامب ومنذ حملته الانتخابية يطلق الوعود بإنهاء الحرب بشكل سريع، وذلك لأنه كان يراهن على أن خطته للسلام في أوكرانيا هي الوحيدة التي تتجنب تقديم أي التزامات أمنية لأوكرانيا، بل كان يرى أن كييف لا تملك أية خيارات أخرى لمعارضة ذلك. لكن التحرك الأوروبي من خلال تقديم خطة تتضمن نشر قوات سلام أوروبية في أوكرانيا، بدأ يقلل من أهمية الدور الأمريكي وقد لا يُمكِّن إدارة ترامب من فرض آرائها على كييف بشكل قوي.
ويعد عدم إشراك الدول الأوروبية في المفاوضات مع روسيا بشأن أوكرانيا، نقطة فاصلة ودرساً مهماً لدول الاتحاد الأوروبي يدفعها إلى العمل على إنشاء نوع من الاستقلال. فرغم امتلاك الدول الأوروبية قوة اقتصادية كبيرة، فإنها ظلت مهمشة سياسياً وهذا ما أفقدها قوة التأثير في الكثير من القضايا الدولية الكبرى.
عليه تخشى الدول الأوروبية من أن خطة ترامب تتضمن التوصل إلى اتفاق بشأن أوكرانيا دون تقديم ضمانات لها، وهذا ما يجعل القوة الميدانية تميل لصالح القوات الروسية على الأرض. بالتالي إبقاء حالة التوتر والتصعيد وهذا يبقي الدول الأوروبية في حالة صدام متوقع بشكل مباشر مع روسيا، لذلك تريد الدول الأوروبية تعزيز الموقف الأوكراني خلال المفاوضات، لكن في المقابل تتجه إدارة ترامب للاهتمام بملفات أخرى بعيدة عن الأمن الأوروبي والتركيز بدلاً من ذلك على الأمريكيتين ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة الصين.
الأوروبيون يعتمدون على أنفسهم في دعم أوكرانيا
تقول واشنطن بوست إن الانهيار العلني للعلاقة بين إدارة ترامب والرئيس الأوكراني أدى إلى إحباط أيام من المحاولات الأوروبية لإصلاح العلاقات بين الجانبين، كما عرض مستقبل المساعدات الأمريكية لأوكرانيا للخطر، وقد كشف انتقاد ترامب لزيلينسكي، عن الهوة بين واشنطن وشركائها الأوروبيين، كما ترك ذلك الزعماء الأوروبيين يتصارعون حول كيفية إصلاح الأمور، وما إذا كانوا قادرين على الانفصال أكثر عن الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا في القتال ضد روسيا (واشنطن بوست – 1 مارس 2025).
ومع تزايد احتمالات اضطرار أوروبا إلى دعم أوكرانيا دون مساعدة الولايات المتحدة، يقوم صناع القرار السياسي الأوروبيون بمراجعة مخزوناتهم من الأسلحة لتقييم حجم التدخل الذي يمكنهم القيام به. وتزيد حالةُ عدم اليقين إلحاحَ الاجتماعات الأخيرة لزعماء أوروبا والتي تكثفت مؤخراً وقد اجتمعوا مرتين بالفعل في باريس وبعدها في لندن للاتفاق على تعزيز المساعدات لأوكرانيا، بما في ذلك نشر محتمل للقوات بعد الحرب، وإيجاد مليارات اليوروات لدعم جيوشهم للتخفيف من الاعتماد على أمريكا.
يرى معهد كيل للاقتصاد العالمي، أن أوروبا تفوقت بشكل واضح على الولايات المتحدة من حيث المساعدات المقدمة لأوكرانيا. ففي المجمل، خصصت أوروبا 70 مليار يورو كمساعدات مالية وإنسانية بالإضافة إلى 62 مليار يورو كمساعدات عسكرية، وهذا مقارنة بـ 64 مليار يورو كمساعدات عسكرية من الولايات المتحدة بالإضافة إلى 50 مليار يورو كمخصصات مالية وإنسانية. وبعد مرور ثلاث سنوات على الحرب، نجح المانحون الأوروبيون في تحسين تنسيقهم ببطء، كما أدخلوا آلياتٍ جديدةً لشراء الأسلحة الصناعية المشتركة لأوكرانيا، ويعد الصندوق الدولي لأوكرانيا وهو آلية تمويل تقودها المملكة المتحدة تجمع الإسهامات من بلدان متعددة لشراء المعدات العسكرية لأوكرانيا أكبر مبادرة شراء متعددة الأطراف، بإجمالي مخصصات يبلغ 1.6 مليار يورو. وتشمل الجهود الأخيرة مبادرة الذخيرة التشيكية وحزمة المساعدات الشاملة لحلف شمال الأطلسي لأوكرانيا (معهد كيل للاقتصاد العالمي – 14 فبراير 2025).
لكن في المقابل يقول المسؤولون والمحللون إنه في ظل وجود إرادة سياسية كافية، قد تتمكن الحكومات الأوروبية من تعويض جزء من المساعدات إلى حد ما، ولكن هذا سيكون مكلفاً ويستغرق وقتاً طويلاً، في ظل معاناة بعض الاقتصادات الرئيسية في القارة وسوف يثبت أنه من الصعب الحفاظ على تدفق الأسلحة والأموال في الأمد البعيد إذا ابتعدت الولايات المتحدة بشكل كامل، وقد يؤدي هذا إلى إرهاق جهود الدول الأوروبية لزيادة الإنفاق على جيوشها (واشنطن بوست – 1 مارس).
قلق أوروبي من تبدل التحالفات الأمريكية
في وقت تجنب عدد من الزعماء الأوروبيين إلى حد كبير توجيه الانتقادات الصريحة لترامب، رأى آخرون التطورات الأخيرة، تأكيداً على تحول تحالفات الرئيس الأمريكي، كما حذر آخرون من واقع جديد، خاصة من قبل مسؤولي بلدان مجاورة لروسيا، حيث تشتد المخاوف من تعرضهم للخطر.
ويرى ترامب أن الأولوية هي لوقف الحرب وتجنب التصعيد مع قوة نووية كبرى هي روسيا، كما يقول ترامب إن الحرب كلفت بلاده أعباء مادية كبيرة، يقدرها بأكثر من ثلاثمئة مليار دولار، ويشكو من أن حلفاءه الأوروبيين لم يقدموا المساعدات بالقدر نفسه، وأن كل ذلك يجب أن "يتوقف ويتغير"، وصعق هذا الموقفُ الحلفاء الغربيين وجعلهم في وضع جديد حافل بالتساؤلات، ليس فقط عن مستقبل حرب أوكرانيا، بل عن مستقبل المعسكر الغربي ذاته، باعتباره تحالفاً بين دول تحمل القيم نفسها وتتقارب مصالحها وتقودها الولايات المتحدة (بي بي سي – 26 فبراير 2025).
كما أن حديث ترامب عن الإنفاق الدفاعي، يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية عدلت سياساتها الخارجية واهتماماتها، خاصة فيما يتعلق بالتعاون مع حلف الناتو، حيث لم تعتد واشنطن مهتمة بالتحالف مع الدول الأوروبية، وهذا ما يدفع هذه الدول ويجبرها على أن تقوي أدواتها الدفاعية.
وتقول لاورا فون دانييلس، رئيسة مجموعة الأبحاث الأمريكية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين: "أعتقد أنه سيكون وضعاً صعباً، وأنه مستعد أيضاً للإضرار بمصالح الاتحاد الأوروبي، سواء فيما يتعلق بالسياسة الأمنية أو السياسة الاقتصادية، على سبيل المثال مع الرسوم الجمركية العقابية. هذا كله صحيح. ولكن ليس من مصلحته أيضاً قطع جميع العلاقات مع أوروبا بين عشية وضحاها"، وتشير فون دانييلس إلى خطط ترامب في السياسة الاقتصادية "على سبيل المثال يضع أوروبا نصب عينيه باعتبارها أهم سوق مبيعات للغاز الطبيعي المسال، ولذلك من المرجح أن يزداد الضغط الاقتصادي مع إمكانية فرض رسوم جمركية على الصلب والألومنيوم في 12 مارس ويجب أن تتوقع أوروبا مزيداً من التعريفات الجمركية على السيارات" (دويتشه فيله – 3 مارس 2025).
وعليه باتت دول الاتحاد الأوروبي مقبلة على تحديات كبيرة تتمثل في محاولة تعويض التخلي الأمريكي عن دعم القوات الأوكرانية، بالإضافة إلى ما هو أعمق من ذلك وهو البحث والنقاش حول تعزيز الأمن الأوروبي، وضرورة التمهيد لمفاجآت أمريكية تتمثل بالتخلي عن التحالف مع أوروبا، وهذا ما يعد صعباً على دول مختلفة فيما بينها وتواجه بعضها أزمات اقتصادية.