مقالات تحليلية

نزع سلاح حماس: واقعية القرار أم تكتيك مرحلي؟

16-Oct-2025

في خطوة لفتت الأنظار رُفع سلاح حركة حماس من جديد بعد بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، لكن هذه المرة ليس في وجه قوات الاحتلال، بل ضد عشيرة دغمش في غزة، ما يثبت أن ملف السيطرة الداخلية والنفوذ ما زال محفوفا بالتوتر. هذه المصادمات كشفت أن الحركة لم تفقد بعد رغبتها في الاحتفاظ بآليات القوة والتأثير المحلي، وأن ملف نزع السلاح بالكامل قد لا يكون واردا عمليا في المستقبل القريب.

منذ اندلاع المواجهة الدامية في أكتوبر عام 2023، ظل ملف نزع السلاح أحد أكثر القضايا حساسية وتعقيدا في المشهد الفلسطيني. فبعد مرور عامين على الحرب وما تبعها من دمار وضغط سياسي كبير، برزت مجددا فكرة تسليم سلاح الحركة تحت إشراف دولي، كجزء من خطة وقف إطلاق نار واسعة وإعادة حوكمة القطاع.


أبرز التطورات والمؤشرات الأخيرة:

خلال الأيام التي أعقبت تنفيذ وقف إطلاق النار، بدا أن حماس أعادت تموضع قواتها المسلحة وقوى الأمن الداخلي في عدة مناطق بغزة، حيث انتشر مسلحوها وموظفي الشرطة الفلسطينية التابعين لها في الشوارع، في محاولة واضحة لإعادة فرض السيطرة الأمنية بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من بعض النقاط. صحيفة غارديان أشارت في 13 أكتوبر الجاري إلى أن هذه الخطوة تأتي في سياق استعادة النفوذ وملء الفراغ الأمني الذي خلفته الحرب.

وقد فسر تصريح الرئيس دونالد ترامب في كلمته بقمة شرم الشيخ للسلام ذلك، حين قال إن حماس نالت موافقة للعمل كقوة أمنية محلية مؤقتة في غزة، ضمن المرحلة الانتقالية، في إشارة إلى أن التسليم الكامل للسلاح لم يُطلب تنفيذه فورا، وإنما تدريجيا. هذا التصريح يعد مؤشرا على أن الأطراف تنظر إلى الدور الأمني المحلي كممر وسيط بين التسليم الكامل للسلاح والبقاء في السيطرة الميدانية.

تحليليا، يمكن فهم تصريح ترامب من زاويتين متكاملتين، كل منهما تعكس جانبا من الواقع السياسي والإعلامي الجاري. الأولى، يمكن اعتباره محاولة لتسويق مشهد الاستقرار النسبي بعد وقف إطلاق النار، خاصة في ظل ضغوط دولية تتساءل عن قدرة خطة الهدنة على حفظ الأمن ومنع الفوضى. فترامب، الذي يسعى إلى إظهار نجاحه الدبلوماسي في إنهاء الحرب، يريد أن يعطي الانطباع بأن الوضع تحت السيطرة بطريقة لا تظهر تنازل واشنطن عن مطلب نزع السلاح مستقبلا.

أما من الزاوية الثانية، فإن التصريح قد يكون محاولة لتبرير الواقع الميداني أكثر من كونه إعلانا عن سياسة مخططة. فمع انتشار مقاطع وصور تظهر فوضى أمنية في غزة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، بدا واضحا أن ثمة فراغا أمنيا لم تستطع أي جهة تعبئته سوى عناصر حماس. لذلك يحاول ترامب أن يُظهر أن هذا الوجود مصرح به مؤقتا، حتى لا يفسر على أنه فشل أو ارتباك في تطبيق بنود خطته.


حماس بين الجدية وكسب الوقت

في الواقع يثبت الوصول إلى تلك المرحلة من تنفيذ خطة ترامب، أن موقف حماس يحمل مزيجا من الانفتاح الحذر والبراغماتية السياسية من جهة، والتشبث بالإيديولوجيا والمكتسبات الميدانية من جهة أخرى. فالحركة، التي فقدت جزءا كبيرا من قدرتها العسكرية، تدرك أن استمرار القتال يفاقم المعاناة في غزة ويضعها تحت ضغط شعبي متزايد، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع المجازفة باتخاذ قرار متعجل بتسليم سلاحها كاملا دون ضمانات قوية تكفل بقاءها كفاعل سياسي على الساحة الفلسطينية. ومن ثم، فإن ما يصدر من إشارات حول استعدادها لتسليم السلاح ينبغي قراءته بوصفه خطوة تفاوضية تالية محسوبة، وليس قرارا نهائيا.

وفقا لنيويورك تايمز (8 أكتوبر 2025) قال آدي روتيم، ضابط المخابرات الإسرائيلي المتقاعد الذي خدم في فريق التفاوض الإسرائيلي بشأن الحرب حتى ديسمبر 2024: "قد تكون حماس مستعدة للتخلي عن بعض أسلحتها، لكنها لن تستغني عنها تماما". وأضاف: "الأسلحة جزء أساسي من هوية حماس"، وبناء عليه هناك صعوبات تنفيذية شديدة الحساسية في هذا الملف.


أهم الصعوبات التنفيذية

عمليا، يرى جيريمي سكاهيل، المحلل السياسي في موقع دروب سايت، أن الأمر يواجه صعوبات بنيوية وسياسية معقدة. أولها يتعلق بطبيعة السلاح وتشتته اللوجيستي، إذ إن ترسانة حماس ليست مركزية، بل موزعة في شبكة من الأنفاق والمخازن داخل المناطق السكنية، مما يجعل عملية الجمع والإحصاء أمرا بالغ الصعوبة، ويحتاج إلى إشراف دقيق وتعاون ميداني وتفاوض صعب.

إضافة إلى ذلك، يثور تساؤل أساسي حول الجهة التي ستتسلم السلاح، فبينما تتحدث تسريبات غير مؤكدة عن لجنة فلسطينية مصرية، ترى إسرائيل أن أي عملية موثوقة تستوجب مراقبة دولية صارمة، وهو ما ترفضه حماس خشية المساس بسيادتها الميدانية. لقد صرح موسى أبو مرزوق، المسؤول البارز في حماس، ليورو نيوز (7 أكتوبر 2025)، بأن "الحركة مستعدة لتسليم أسلحتها إلى هيئة فلسطينية مستقبلية تدير غزة"، لكن لم يرد ذكر ذلك في أي بيان رسمي للحركة حتى الآن.

هناك أيضا صعوبات تتعلق بالبعد الداخلي للحركة نفسها، فحماس ليست كتلة واحدة منسجمة، بل تضم تيارات متعددة تتراوح بين جناح سياسي يميل إلى التفاوض، وجناح عسكري متشدد يرفض التنازل عن السلاح باعتباره "رمز المقاومة ووسيلة البقاء". هذا التباين من الممكن أن يجعل أي التزام رسمي بنزع السلاح عرضة للاهتزاز أو النقض في أي لحظة، خاصة إذا شعرت القيادات الميدانية بأن الاتفاقات تهدد وجودها.

كذلك، تقف مسألة الثقة بين الأطراف عقبة لا تقل خطورة، فذاكرة الصراع الطويلة بين حماس وإسرائيل، وتجارب الفصائل الفلسطينية السابقة في اتفاقات مع حماس لم تحترم، تترك أثرا من الشك العميق يجعل أي تعهد جديد محفوفا بالقلق. في هذا السياق قال محمد الهندي، كبير المفاوضين السياسيين في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، في مقابلة مع موقع دروب سايت (5 أكتوبر 2025): "فيما يتعلق بفصائل المقاومة، فإن اختصاصنا يقتصر على قضايا تبادل الأسرى مقابل وقف العدوان والانسحاب وإدخال المساعدات ووقف سياسة التهجير ضد شعبنا". وأضاف: "أما القضايا الوطنية، كنزع السلاح مثلا، فإن فصائل المقاومة ليست مخولة بالحديث عنها وحدها، فهي تهم جميع قوى الشعب الفلسطيني في كل مكان".


تجارب دولية لنزع سلاح الجماعات المسلحة

شكلت برامج نزع السلاح أحد أبرز التحديات أمام جهود بناء السلام الدولي، إذ لم يعد كافيا إنهاء الحرب من دون معالجة البنية القتالية التي راكمتها الجماعات على مدى سنوات الصراع. من التجارب البارزة في هذا المجال تجربة كولومبيا مع حركة القوات المسلحة الثورية (فارك)، التي توصلت عام 2016 إلى اتفاق سلام شامل تضمن تسليم السلاح إلى بعثة الأمم المتحدة، مقابل إدماج المقاتلين في الحياة السياسية من خلال تأسيس حزب الكومونز. لكن تقرير البعثة في عام 2017 ذكر أن بطء تنفيذ البنود الاقتصادية والتنموية دفع الحركة إلى التسلح مرة أخرى.

وتعد تجربة جنوب إفريقيا على حد قول جيريمي وينشتاين في كتابه "التمرد من الداخل"، من أنجح تجارب الدمج، حيث تم استيعاب جناح المؤتمر الوطني الإفريقي العسكري ضمن الجيش الوطني الجديد خلال عامي 1994 و1996، تحت إشراف لجنة ضمت ممثلين عن جميع الفصائل. لكنه رصد أيضا فشل محاولات مشابهة في سيراليون وليبيريا، نتيجة التركيز على جمع السلاح دون توفير بدائل وضمانات للمقاتلين، وهو ما خلق أسواق سوداء للسلاح.

في آسيا، كشف تقرير لمجموعة الأزمات الدولية عن نجاح إندونيسيا بعد اتفاق هلسنكي عام 2005، الذي أنهى تمرد حركة أتشيه الحرة، في نزع سلاحها ومنح الحكم الذاتي للولاية. كذلك حققت الفلبين تقدما في نزع سلاح جبهة مورو الإسلامية خلال الفترة (2014 – 2019).

أوروبا أيضا مرت بتجارب مماثلة، فقد مثلت تجربة إيرلندا الشمالية نموذجا فريدا لنزع السلاح التدريجي، بعد إعلان عام 2001 بتفكيك الجيش الجمهوري الإيرلندي، تحت إشراف لجنة مستقلة بريطانية أيرلندية ضمن إطار اتفاق الجمعة العظيمة، واستمر التنفيذ حتى عام 2005. تزامن ذلك مع دمج ممثلي الحركة في حزب شين فين ومشاركتهم في المؤسسات التشريعية.


تقديرات لنسب نجاح نزع سلاح حماس

من ناحية واقعية، ومن خلال فحص وتحليل كافة التصريحات والتحليلات الإعلامية الصادرة حتى الآن، تبدو احتمالات نجاح نزع السلاح الكامل منخفضة في المدى القريب. وفي ضوء كافة المعطيات، تتبلور أمامنا ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل الملف:

السيناريو الأول: الأكثر تفاؤلا، ويتمثل في بدء التفاوض على اتفاق جديد مع بدء التفاوض على المرحلة الثانية من خطة ترامب، يفضي إلى تسليم جزء من الأسلحة تحت إشراف لجنة دولية مشتركة وبضمانات متبادلة. وهو سيناريو لا تتجاوز نسب تحقيقه 10 إلى 15%.

السيناريو الثاني: الأرجح في المدى القريب، ويتمحور حول تسوية مؤقتة تبقي على التوازن الحالي، بحيث تتعهد حماس بعدم استخدام السلاح الثقيل، مع بقاء قدرات دفاعية محدودة. وذلك بتسليم فئات محددة من الأسلحة، كالصواريخ والذخائر الثقيلة. ويمكن تقدير فرص نجاح هذا النمط الجزئي بنحو 40 إلى 50%.

السيناريو الثالث: الأكثر تشاؤما، ويتمثل في انهيار مراحل المفاوضات التالية، سواء بسبب الانقسامات داخل الحركة أو رفض متبادل للشروط، ما قد يؤدي إلى جولة جديدة من العنف وتدهور الوضع الإنساني بشكل أكبر، مع مزيد من الدمار وتراجع ثقة المجتمع الدولي في آليات الوساطة. ويظل هذا السيناريو قائما بنسبة تقارب 30 إلى 40%.


خاتمة

إن مجرد طرح فكرة نزع السلاح على طاولة المفاوضات لأول مرة بهذا الشكل يعكس تحولا مهما في المشهد الإقليمي والدولي، إذ لم يعد السلاح بحد ذاته هو القضية الوحيدة، بل أصبح جزءا من رؤية أشمل لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني تحت مظلة عربية ودولية. هذا التحول، إن كتب له الاستمرار، قد يشكل بداية مرحلة جديدة تتجاوز منطق المواجهة الدائمة إلى منطق التوازن والتفاوض، وإن كان الطريق إليها لا يزال طويلا وشائكا.

على أية حال، من الصعب الجزم بالمسار الذي ستسلكه الأحداث في المراحل التالية من الاتفاق، غير أن المؤشرات الحقيقية يمكن رصدها في خطوات ملموسة على الأرض، مثل إعلان رسمي عن آلية جمع السلاح، أو مشاركة مراقبين دوليين في مناطق محددة، أو توافق حول جدول زمني لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في غزة. وحتى تتحقق تلك المؤشرات، ستظل مسألة نزع سلاح حماس أقرب إلى المناورة السياسية منها إلى التحول الاستراتيجي الفعال.

63