ازدادت المخاوف بشأن الأمان النووي العالمي في الأشهر الماضية منذ بداية الحرب في أوكرانيا، خاصة في أعقاب التواتر الأخير في عمليات قصف محيط محطة زابوريجيا النووية الأوكرانية. ومن جهة أخرى، تسبب تعثر المفاوضات النووية مع طهران في فيينا، في مخاوف جدية حول انتشار الأسلحة النووية في العالم.
في هذا السياق، شدد أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في كلمة ألقاها أمام مجلس الأمن، على أهمية عودة الدول إلى الالتزام "بالجلوس إلى طاولة المفاوضات لتخفيف التوترات وإنهاء سباق التسلح النووي بشكل نهائي".
في السياق تخضع محطة زابوريجيا الأوكرانية للطاقة النووية بحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية لسيطرة القوات الروسية منذ مارس، ولكن يتولى تشغيلها موظفوها الأوكرانيون. وقد تعرَّض الموقع لقصف متكرر خلال اغسطس، وشهد الأسبوع الأخير من نفس الشهر انقطاعاً مؤقتاً في اتصاله بخطٍ لنقل الكهرباء، وهو الخط الوحيد المتبقي من بين خطوط نقل الكهرباء الخارجية العاملة.
أهمية السلامة النووية
لقد بات التفكير بالسلامة النووية في زمن الحرب حتميا. ولحد الآن، سبق أن تم تصور سيناريوهات لهجمات إرهابية، لكن في ضوء الهجوم الروسي على أوكرانيا، فقد باتت مسألة اعتماد قواعد دولية في هذا الإطار مطروحة على الطاولة.
وقد طالبت السلطات الأوكرانية دون جدوى، الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإجبار الدول الأعضاء على الالتزام باحترام نطاق خمس كيلومترات حول المنشآت النووية، وحظر دخول أي قوات عسكرية إليها.
حاليا، عززت الحكومة الأوكرانية قواتها المدافعة عن المحطات النووية. في السياق، قال بيترو كوتين، رئيس "إنيرجوآتوم" المؤسسة الوطنية للطاقة النووية الأوكرانية لفرانس برس: "بات لدينا جنود مزودين بأسلحة مضادة للدبابات (صواريخ جافلن وقاذفات صواريخ محمولة على الكتف)، لحماية المحطات. لقد تمت مباغتتنا في زابوريجيا حيث لم يكن يتواجد أي سلاح في المحطة. لا أدري بالتحديد ما هي المعدات العسكرية المستخدمة، إنها معلومات سرية لست مخولا للاطلاع عليها".
في المقابل، لجأ مسؤول المحطات الأوكرانية إلى منع نقل أي مواد نووية على كامل أراضي البلاد بهدف تعزيز مستوى الأمن. حتى إن نقل الوقود النووي الضروري لعمل المفاعلات بات مقيدا بشرط انتهاء الحرب. إجراء لا يجب أن يعيق الأداء السليم للحظيرة النووية لأن كييف تتبع نصائح الخبراء الأمريكيين الذين أرسلوا بعد اندلاع الحرب في دونباس عام 2014.
ضمن هذا الإطار، يوضح كوتين: "اتبعنا توصياتهم ببناء وحدات تخزين جديدة للوقود النووي على الأراضي الأوكرانية للسماح باستغلال مفاعلاتنا خلال سنتين. في حال استمرت الحرب لأكثر من سنتين، سنرى إذا ماذا سنفعل".
وفي وقت يبدو فيه أن السلام في أوكرانيا يبقى احتمالا بعيد المنال، يبقى أن السلامة النووية هي مسألة تتطلب مستوى أمن مثالي. في الزمن المنظور، لا يمكن استبعاد اندلاع معركة بين القوات الأوكرانية والروسية للسيطرة على محطة زابوريجيا، حيث إن أوكرانيا أعلنت عزمها على استعادة كافة المناطق المحتلة خلال الأشهر القادمة. يبقى أن حدوث معارك عنيفة للسيطرة على أي موقع نووي، هو بمثابة الكابوس لدول أوروبا قاطبة.
في هذه الدراسة نتناول الأمان النووي من حيث تعريفه وأسسه، وأخطر التهديدات التي واجهته في السابق، وتلك التي تفرض نفسها في الوقت الراهن وفي المستقبل المنظور.
مفهوم الأمان النووي
تعرف الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) الأمان النووي بأنه المنع والكشف عن سرقة أو تخريب أو الوصول غير المأذون به أو النقل غير المشروع للمواد النووية أو غيرها من المواد المشعة، وتأمين المنشآت النووية من مختلف الأضرار التي قد تلحق بها.
تستخدم المواد والتقنيات النووية في العديد من التطبيقات السلمية مثل توليد الطاقة، والعلاج الإشعاعي، وتجهيز الأغذية، والصناعة. غير أن المواد النووية وغيرها من المواد المشعة يمكن أن تضر بالمجتمع والبيئة إذا استخدمها أشخاص غير مأذون لهم، ولا سيما إذا حصل الإرهابيون على تلك المواد، إذ يشكل ذلك تهديداً خطيراً للأمن العالمي. من هنا تأتي أهمية الأمان النووي، لحماية المنشآت والمواد النووية من مختلف الأضرار التي قد تتعرض لها.
وتقوم أسس الأمان النووي على ما يلي:
أولاً: تأمين المنشآت النووية من الأعمال الخبيثة، مثل: سرقة المواد النووية، أو التخريب المقصود منه إطلاق النشاط الإشعاعي أو المواد النووية إلى خارج المنشأة.
ثانياً: ضمان الاستخدام السلمي للمنشآت النووية، من خلال الكشف المكبر عن أي محاولات لاستخدام المواد النووية في أغراض عسكرية.
ثالثاً: حماية المنشآت والعاملين داخلها والمجتمع من الحوادث، سواء كانت نتيجة الإهمال أو الكوارث الطبيعية.
سوابق المخاطر الكارثية النووية
تتعدد أوجه التهديدات النووية التي قد تواجه العالم، معرضة أمنه وبقاءه للخطر، ويتمثل أخطرها في انتشار الأسلحة النووية بمختلف أنواعها، نظراً لقدراتها التدميرية واسعة النطاق. وقد وصل التهديد النووي إلى أعلى مستوياته خلال الحرب الباردة، وخاصة في عام 1983، حين بين نظام الإنذار المبكر في الاتحاد السوفيتي بالخطأ أن الولايات المتحدة قد أطلقت مجموعة صغيرة من الصواريخ تجاه الاتحاد السوفيتي، كما سبق ذلك إنذار كاذب آخر في الولايات المتحدة عام 1979.
علاوة على خطر الأسلحة النووية، لا تخلو الاستخدامات السلمية للمواد النووية من المخاطر. آخر الأمثلة على ذلك، تمثل في كارثة فوكوشيما، التي تطورت بعد زلزال اليابان الكبير في 11 مارس 2011 ضمن مفاعل فوكوشيما 1 النووي، حيث أدت مشاكل التبريد إلى ارتفاع في ضغط المفاعل، تبعه مشكلة في التحكم بالتنفيس نتج عنها زيادة في النشاط الإشعاعي.
تبرز كارثة فوكوشيما أن الكوارث الطبيعية تشكل تهديداً حقيقياً على المنشآت النووية، حتى وإن تم اتباع إجراءات الأمان بالمستوى المطلوب. مصدر التهديد الآخر هو عدم اتباع المواصفات والمعايير المطلوبة في تأسيس المنشآت النووية، وقد شهد العالم مخاطر ذلك في كارثة تشرنوبل عام 1986. أضف إلى هذه التهديدات، خطر استغلال منشآت الطاقة النووية في أغراض عسكرية، كما هو الحال مع البرنامج النووي الإيراني.
فضلاً عن ذلك تمثل كارثة محطة تشرنوبل النووية في شمال أوكرانيا في أبريل 1986 الأخطر في تاريخ الكوارث النووية. فخلال الحرب الباردة اختار الاتحاد السوفيتي أوكرانيا لتضم عدة محطات نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية. وفي العام 2022 كانت أربع محطات نووية فقط لا تزال في الخدمة، وتنتج 20% من إجمالي الكهرباء الأوكرانية. شبح حصول كارثة نووية جديدة في أوكرانيا ظهر ثلاث مرات حتى الآن خلال الحرب الروسية - الأوكرانية.
المرة الأولى كانت خلال العمليات العسكرية الروسية للسيطرة على منطقة محطة تشرنوبل النووية في الأيام الأولى للحرب. القوات الروسية سيطرت على المنطقة التي تحتوي على مستويات عالية جداً من الإشعاع، وذلك قبل أن تنسحب منها في أواخر أبريل لتستعيدها القوات الأوكرانية.
المرة الثانية جاءت في مطلع مارس مع اندلاع الاشتباكات بين القوات الروسية والأوكرانية في محيط محطة زابوريجيا النووية، في جنوب أوكرانيا، على نهر دنيبر. سيطرة القوات الروسية على المنطقة خفضت من هذه المخاوف، وذلك حتى مطلع شهر أغسطس الجاري.
ففي 5 أغسطس، تبادلت موسكو وكييف الاتهامات بالمسؤولية حول قصف استهدف محطة زابوريجيا النووية، وهي أكبر محطة طاقة نووية في أوروبا.
وفي 20 أغسطس، أصيب 12 شخصاً على الأقل بقصف روسي على بعد 12 كلم من محطة بريفدينوكراينسك، ثاني أكبر محطة نووية في أوكرانيا. العمليات العسكرية للجانبين الروسي والأوكراني زادت من المخاوف باحتمال حصول كارثة نووية، إلا أن الطرفين لا يزالان يظهران الإصرار على عدم التراجع. ففي مساء 23 أغسطس استهدفت القوات الأوكرانية مستودع ذخيرة روسي في مقاطعة زابوريجيا.
التركيز الروسي - الأوكراني على المحطات النووية ينبع من العوامل التالية:
أولاً: أهمية المحطات النووية في جنوب وشرق أوكرانيا، وسواها من البنى التحتية الحيوية، لجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك وشبه جزيرة القرم، بما يدعم المساعي الروسية لتحقيق الاكتفاء الذاتي لهذه المناطق، فضلاً عن تشجيع عودة الكثير من سكانها الذين لجأوا إلى داخل الأراضي الروسية. أوكرانيا بالمقابل تحاول عرقلة الجهود الروسية. فالقصف المتكرر لمحيط محطة زابوريجيا جاء بالتزامن مع زعم أوكرانيا بأن روسيا تعمل على فصل محطة زابوريجيا النووية عن الشبكة الأوكرانية لربطها بشبه جزيرة القرم (واشنطن بوست، 20/08/2022). القصف الأوكراني يمثل عملياً محاولة لإيقاف هذا الربط، وذلك بالرغم من إنكار أوكرانيا أنها تقوم بالقصف في المقام الأول.
ثانياً: التأثير على الرأي العام الدولي والضغط على الدول الغربية للتدخل. روسيا من جانبها تراهن على المخاوف الأوروبية من التداعيات المختلفة للحرب الروسية - الأوكرانية، وتحاول إظهار رعونة القوات الأوكرانية في استخدام الأسلحة التي قدمتها الدول الغربية لها بعد أن باتت هذه الأسلحة تستخدم بشكل متكرر في استهداف خطر لمحطة زابوريجيا النووية الأوكرانية.
هذا السعي الروسي لثني الغرب عن تقديم المزيد من الأسلحة جاء بعد أن بدأت أوكرانيا لأول مرة، مطلع هذا الشهر، باستهداف القواعد العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم، في مواقع تبعد أكثر من 200 كيلومتر عن خطوط التماس، مما يشير لحصول أوكرانيا على أسلحة غربية تتجاوز الخطوط الحمراء الروسية (موقع بولتيكو الأمريكي، 22/08/2022).
أما أوكرانيا فتحاول إضافة اتهام آخر لقائمة الاتهامات الموجهة لروسيا بتهديد الأمن العالمي، بعد الاتهامات السابقة لها بتهديد الأمن الغذائي عبر منع خروج شحنات القمح الأوكراني من ميناء أوديسا.
تراهن أوكرانيا على أن تقود المخاوف الغربية بانكشاف حالة الأمان النووي إلى تدخل يضغط على روسيا لتقييد حرية عملياتها العسكرية في محيط منطقة زابوريجيا، وغيرها من المحطات التي تعتمد عليها أوكرانيا في توليد الكهرباء. أبرز التحركات الغربية حتى الآن هو إصدار بيان في 12 أغسطس يطالب القوات الروسية في محيط محطة زابوريجيا بسحب قواتها من المنطقة للسماح لفريق خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفقد المنشأة والتحقق من إجراءات السلامة فيها. البيان وقعت عليه دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وتركيا ودول أخرى.
ثالثاً: تراهن روسيا على استخدام التهديد النووي، بمختلف أوجهه، للضغط على الناتو، وخصوصاً على الولايات المتحدة لدفعها نحو التفاوض وتجديد اتفاقية "START" للحد من الأسلحة النووية. المسؤولون الروس لوحوا بشكل متكرر لإمكانية استخدام بلادهم للسلاح النووي. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن في 16 أغسطس أنه ما من حاجة من المنظور العسكري لاستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا. إلا أن تصريح بوتين حمل تهديداً ضمنياً بأن استخدام الأسلحة النووية سيبقى مرهوناً بتطورات المنظور العسكري الروسي لما يجري في الميدان الأوكراني.
تحليلات وآراء
لا تزال مصادر التهديدات التقليدية على المنشآت النووية تشكل خطراً على الأمان النووي العالمي، غير أن نظام الأمان النووي يقوم على أساس التعامل مع هذه التهديدات بشكل فعال. ويجادل الخبراء أن الخطر الأكبر على أمن المنشآت النووية، في الوقت الراهن وفي المستقبل، يتمثل في الهجمات السيبرانية على المنشآت، التي تزداد وتيرتها ودقتها مع مرور الوقت.
يذكر الخبيران سوزان بيكرينغ وبيتر ديفيز أن: "البصمة العالمية المتزايدة للطاقة النووية تجلب معها مخاوف بشأن السلامة والأمن، المادي والسيبراني على حد سواء. ويتطلب هذا التوسع، وإدخال تكنولوجيات جديدة في المنشآت النووية، سياسات وتقنيات شاملة لإدارة المخاطر المتزايدة التعقيد. على وجه الخصوص، وينبغي أن يقترن الاستخدام المتزايد للبنية التحتية الرقمية في مجال الطاقة النووية وما يتبعه من التعرض لمخاطر سيبرانية بتقييم كامل لمخاطر النظام، وزيادة التنظيم والتوجيه على الصعيدين الوطني والدولي"، (مجلة جورج تاون للشؤون الدولية، 22 يناير 2022).
يؤكد الدكتور بيج ستوتلاند في مقال نشرته منصة (The Nuclear Threat Initiative) التهديد السيبراني للأمان النووي، ويوضح أن الهجمات السيبرانية "يمكن استخدامها لتقويض أمن المواد النووية وعمليات المرافق، كما يمكن أن تعرض للخطر أنظمة القيادة والتحكم النووية". ويحذر ستوتلاند من أن التهديدات السيبرانية تصبح أكثر تقدماً وتعقيداً كل يوم، وأن الحكومات عليها العمل على مواكبة هذه الوتيرة السريعة لتطور الخطر السيبراني على المنشآت النووية، وفهم نقاط الضعف والتعامل معها.
قراءة ختامية
من المرجح أن الرهانات الروسية والأوكرانية على استخدام المخاوف الدولية حول الأمان النووي لتغيير مسار الحرب العسكري أو السياسي تبقى رهانات ضعيفة. ففيما يخص المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، أعلنت الإدارة الأمريكية في 19 أغسطس عن دفعة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بقيمة 775 مليون دولار. وفي 23 أغسطس، ظهرت تسريبات على أن الإدارة الأمريكية تحضر لدفعة مساعدات عسكرية جديدة بقيمة 3 مليارات دولار، والتي ستكون الدفعة العشرين والأكبر لأوكرانيا منذ أغسطس 2021، وسيأتي الكشف عنها، يوم الأربعاء 24 أغسطس، في ذكرى مرور ستة أشهر على انطلاق الحرب الروسية - الأوكرانية.
كما يستبعد حصول خرق دبلوماسي بما يرضي الجانبين الروسي والأوكراني بهدف تحييد المنشآت النووية عن العمليات العسكرية، خصوصاً أن محطة زابوريجيا تقع بالقرب من خطوط التماس على نهر دنيبر. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أعلن في 23 أغسطس رفضه لأي مسعى لما وصفه بتجميد الجبهات، وذلك لمنع روسيا من إعادة تجميع قواتها تحضيراً لموجة جديدة من الهجمات.
يبقى من المحتمل أن يتم التوصل لاتفاق محدود لتجنب استهداف المنشآت النووية البعيدة عن خطوط التماس، وإجراء زيارات دولية من وكالة الطاقة الذرية للمنشآت النووية الأوكرانية، بما في ذلك المناطق التي تسيطر عليها روسيا، للتحقق من سلامتها.