على الرغم من انشغال الإدارة الروسية في المرحلة الراهنة بالحرب في أوكرانيا، والمخاطر المحتملة من الزيادة الأخيرة في عمليات قصف محيط أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا، محطة زابوريجيا الأوكرانية، إلا أن ذلك لم يمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 24 أغسطس 2022، من تخصيص اجتماعات مهمة مع المسؤولين في إدارته لمناقشة قضية الحرائق التي اندلعت في بعض غابات روسيا. وحذر بوتين في بث تلفزيوني من مخاطر تدهور الوضع، لافتاً إلى أن الحرائق ليست محصورة بمناطق معينة، أو فقط في الجزء الأوروبي للبلاد، بل امتدت أيضاً إلى مناطق أخرى في الشرق الأقصى، (رويترز، 24 أغسطس 2022).
تأتي سلسلة الحرائق التي تشهدها مناطق مختلفة بالعالم، في إطار التغيرات المناخية التي برزت كأحد أهم التحديات أمام الكثير من الدول. إذ بات ملف المناخ والحياد الكربوني، من أكثر القضايا التي تحظى باهتمام السياسيين والشعوب على حد سواء. ونعالج في هذه الدراسة النظريات المطروحة لمسببات التغير المناخي، وتأثيراتها على السكان، والأمن الغذائي، والاقتصاد، ونتناول الأفكار المطروحة للتعامل مع هذه التغيرات.
النظريات المطروحة لمسببات التغير المناخي
لا تعد مشكلة التغيرات المناخية الأخيرة حدثاً جديداً، فالحرائق، وموجات الجفاف، وحتى الفيضانات التي عصفت بمناطق مختلفة في العالم، هي نتاج مشترك لعوامل عديدة، بعضها عامة تتأثر بها جميع الدول، وأخرى خاصة تنطبق على مناطق محددة، وتفاقم من مخاطر التغير المناخي هناك.
أولاً: العوامل العامة
زيادة الانبعاثات الكربونية
أدت زيادة الانبعاثات الكربونية، سواءً بسبب زيادة استخدام الوقود الأحفوري، أو بسبب السياسات التي تتبعها العديد من الدول، في مجال الصناعة، وغيرها، إلى زيادة التأثيرات السلبية على البيئة. فقد وجد مؤشر " World Population Review " الخاص بالبيانات الديمغرافية والسكانية، ومركزه في الولايات المتحدة الأمريكية، أن الاحتباس الحراري كان له تأثيرات بيئية خطيرة، مثل زيادة الفيضانات، والعواصف الشديدة على مستوى البحر. ويبين المؤشر أن إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية ارتفع بين عامي 2010 و2019، من 33.1 جيجا طن إلى 38 جيجا طن ومن المتوقع أن يواصل ارتفاعه في السنوات المقبلة.
ارتفاع درجات الحرارة
ارتفاع درجات الحرارة الناتج إلى حد كبير عن الانبعاثات الكربونية، هو واحد من أهم العوامل المؤثرة في هبوب الرياح الساخنة، وذوبان الثلوج في المناطق القطبية، واندلاع الحرائق في العديد من مناطق العالم في الفترة الماضية، بما فيها دول أوروبية مثل فرنسا وإسبانيا. وبحسب الأمم المتحدة، فقد كان العقد 2011 -2020 هو أكثر العقود المسجلة دفئاً، حيث سجل متوسط درجة الحرارة العالمية في عام 2019، زيادة بلغت 1.1 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ويزداد الاحترار العالمي الناجم عن النشاط البشري حالياً بمعدل 0.2 درجة مئوية لكل عقد.
تصاحب هذه الزيادة في درجات الحرارة جملة من التداعيات السلبية الخطيرة على البيئة الطبيعية وصحة الإنسان، بما في ذلك ازدياد مخاطر حدوث تغيرات خطيرة وربما كارثية في البيئة العالمية. ويتجلى ذلك في الحرائق التي اندلعت في منطقة جيروند بجنوب غرب فرنسا خلال شهر أغسطس، والتي كانت نتيجة ارتفاع درجات الحرارة. إذ قاست مجموعة من الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية درجات حرارة (عظمى) على سطح الأرض، ووجدت بأنها تجاوزت 45 درجة مئوية في بريطانيا، و50 درجة في فرنسا، و60 في إسبانيا قبل اندلاع الحرائق، أي في شهري يونيو ويوليو، (فرانس 24، 12 أغسطس 2022).
ثانياً: العوامل الخاصة
عوامل جيوسياسية:
على مستوى منطقة الشرق الأوسط، تتمثل أحد الانعكاسات الجيوسياسية على المناخ في الجفاف الذي ضرب وسط وجنوب العراق، بسبب ما يعتبره بعض السياسيين في البلاد، نتيجة غياب اتفاقيات تراعي تقسيم الموارد المائية تحديداً مع إيران وتركيا، ومن جهة أخرى، بسبب قيام إيران بتحويل الروافد المائية لنهري دجلة والفرات إلى الداخل الإيراني، بدلاً من توزيع الحصص مع الجانب العراقي، وهو ما أدى إلى تفاقم حدة التغيرات المناخية على العراق، من خلال تصحر الأراضي، وزيادة ملوحتها نتيجة غياب المياه. وبحسب ما نقله موقع ذا إندبندنت الناطق باللغة العربية في 11 يونيو 2022، فقد أدى قطع إيران المياه الواصلة من أنهر فرعية إلى الأراضي العراقية عبر محافظتي ديالى والبصرة إلى جفاف نسبة كبيرة من الأراضي في شرق العراق، وهو ما انعكس على زيادة نسبة الملوحة في شط العرب.
تأثيرات الحروب
على الرغم من عدم وجود تقارير حديثة تشير إلى كيفية تأثير الحرب في أوكرانيا على التغيرات المناخية، إلا أنه يمكن تحليل الانبعاثات الصادرة عن عدة حروب سابقة وتأثيرها على الغلاف الجوي، وارتفاع درجات الحرارة. وبحسب تقرير صادر عن مجلة "Capital and Capitalism" البيئية، فإن الحرب الأمريكية في العراق منذ 2003 وحتى 2008 فقط، كانت مسؤولة عن 141 مليون طن متري على الأقل من ثاني أكسيد الكربون، أي بمعدل سنوي يصل إلى 28.2 مليون طن. أضف إلى ذلك أن انعكاسات الحروب تطال الأراضي الزراعية، فعلى سبيل المثال، أدت الحرب الأمريكية في العراق إلى تلف الأراضي الزراعية، والتي لم يعد بعضها صالحاً للزراعة.
تداعيات التغيرات المناخية
الأمن الغذائي
يؤثر المناخ بشكل أساسي على الأمن الغذائي من خلال اتجاهين مترابطين، هما الإنتاج والأسعار، فبحسب دراسات علمية صادرة عن مجلة المؤسسة الأكاديمية الأمريكية "PNAS"، من المرجح أن ينخفض الإنتاج العالمي للخضروات والبقوليات مع استمرار انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في مسارها الحالي، بنسبة 35% بحلول العام 2100، في ظل ندرة المياه، وزيادة الجفاف. هذا الانخفاض في الإنتاج من شأنه أن يسهم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتفاقم خطر انعدام الأمن الغذائي في العالم.
المجلة بينت أيضاً أن إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية من الذرة، على سبيل المثال، قد ينخفض بمقدار النصف في حال ارتفعت درجة حرارة الأرض بمعدل 4 درجات، أما في حال بقيت عند حدود درجتان، وهو هدف اتفاقية باريس للمناخ الموقعة عام 2016، فقد ينخفض الإنتاج إلى 18% فقط. فضلاً عن ذلك، بينت الدراسة أن الدول الأربعة الكبرى في إنتاج الذرة (الولايات المتحدة الأمريكية، البرازيل، الأرجنتين، أوكرانيا) ستخفض إنتاجها بمعدل 7% مع زيادة الحرارة بمعدل درجتين.
وفي ظل التوقعات أن يرتفع عدد السكان إلى ما يقرب من 10 مليارات بحلول عام 2050، فمن الطبيعي أن يزداد الطلب على الغذاء، ولكن في ظل هذه الأرقام التي تنذر بانخفاض مستويات إنتاج المواد الغذائية، فإن النتيجة الحتمية، هي نقص الإمدادات وارتفاع الأسعار بشكل كبير، ما سيدفع العديد من الناس إلى حافة الفقر.
التجارة العالمية
أولاً: التوجه نحو الحمائية:
ارتفاع أسعار المواد الغذائية، سيجعل العديد من الدول تتخذ سياسات حمائية، بهدف الحفاظ على نظامها الغذائي، وهو ما سينعكس بدوره على آليات التجارة العالمية، وخاصة تجارة المواد الغذائية. فمع ارتفاع الأسعار، وشح المواد والسلع، ستمتنع العديد من الدول من تصدير منتجاتها، ما سيخلق فقاعة في أسعار هذه السلع من جهة، بحيث سيتضاعف سعرها، ومن جهة أخرى، ستعاني الدول المستوردة للغذاء من نقص الإمدادات.
هذا العام، نتيجة الحرب في أوكرانيا، عطلت دول تصدير بعض منتجاتها الغذائية، بما في ذلك الهند في 14 مايو 2022، بحسب بيانات نشرتها صحيفة نيويورك تايمز. ويرجح أن تتبع العديد من الدول المنتجة للغذاء هذه السياسة الحمائية، ما سيكون له تأثير سلبي على تجارة المواد الغذائية.
ثانياً: تضرر قطاعات النقل واللوجستيات
من غير المستبعد أن تؤدي الفيضانات والسيول إلى تضرر قطاع النقل واللوجستيات، وهو قطاع حيوي يدخل في استراتيجية التحولات الاقتصادية للعديد من الدول. ففي العديد من الدول التي تعرضت للفيضانات، كان لافتاً اضطراب حركة النقل والشحن، خاصة إن كانت المناطق المتضررة من الفيضانات هي مناطق زراعية. ففي فبراير 2022، وبحسب ما ذكرته صحيفة الجارديان البريطانية في 2 فبراير 2022، فقد أضرت الفيضانات في جنوب أستراليا بأكثر من 300 كيلومتر من خط السكك الحديدية الوحيدة التي تجلب الطعام والإمدادات إلى غرب أستراليا من الساحل الشرقي، وهو ما أدى بحسب السلطات إلى عزل غرب أستراليا عن كافة المناطق الأخرى في البلاد.
التأثيرات الديمغرافية
تصاحب التغيرات المناخية انعكاسات ديمغرافية خطيرة، إذ يعد النزوح والهجرة من العوامل التي تضع ضغطاً كبيرا ًعلى اقتصادات الدول التي يقصدها اللاجئون، إلى جانب الدول التي ينتمون إليها. وتتخذ الهجرة في هذا الصدد نوعان، الأول الهجرة الداخلية أو النزوح بشكل أدق، فيما يتمثل الثاني في الهجرة الخارجية، أي الانتقال إلى بلد آخر. وأحد أحدث أمثلة النزوح الداخلي الناتج عن التغيرات المناخية اتضح في النزوح داخل العراق، فقد ذكرت قناة فرانس 24 في 24 أغسطس 2022، أن أكثر من 3300 عائلة عراقية قد نزحت بسبب (عوامل مناخية) في عشر محافظات في الوسط والجنوب، والسبب (شح المياه، أو الملوحة المرتفعة فيها، أو نوعية المياه السيئة).
هذا المثال يأتي ضمن سلسلة من حركة النزوح عالمياً، وبحسب تقرير لمركز مراقبة النزوح الداخلي، وهو مركز لتحليل البيانات المتعلقة بالنزوح الداخلي في العالم تابع للمجلس النرويجي للاجئين "NRC"، فإنه خلال العام 2020، دفعت الصراعات 9.8 مليون شخص على الفرار والنزوح، فيما دفعت الكوارث الطبيعية 30.4 مليون على النزوح.
وتبين أن أكثر من 80% ممن أُرغموا على النزوح من منازلهم عام 2020 كانوا في آسيا وإفريقيا، وخاصة من الدول الفقيرة، ما يقدم نوعاً جديداً من اللجوء إلى الدول الغنية، بالإضافة إلى اللجوء السياسي والإنساني، وهو اللجوء البيئي الذي يفاقم الضغط على الدول التي تتمتع بأنظمة سياسية تعطي الحق باللجوء، على غرار الدول الأوروبية، إذ من غير المستبعد، أن يسعى العديد من الفقراء في دول آسيا وإفريقيا إلى اللجوء للدول ذات الأنظمة السياسية المرنة التي تسمح باستقبال اللاجئين، وهو ما يضع تحديات سياسية على الأحزاب الحاكمة في هذه البلاد من قبل الأحزاب المعارضة، فعلى سبيل المثال، سيسعى اليمين المتطرف في أوروبا إلى الضغط على الرأي العام، لتغيير الطبقة الحاكمة نتيجة لموجات اللجوء أو النزوح البيئي.
التداعيات على قطاع الصناعة
على الرغم من أن الصناعة بمفهومها الواسع، تعد مسبباً للتأثيرات المناخية، بسبب انبعاثات الكربون والغازات الدفيئة، ولكن للتغيرات المناخية دور سلبي على العديد من القطاعات الصناعية، فقد أفادت أرقام أحصتها مؤسسة زيورخ للتأمين، ومقرها سويسرا، بأن الأعاصير في الولايات المتحدة الأمريكية لها تأثيرات سلبية على قطاع الصناعة. على سبيل المثال، إعصار هارفي في عام 2017 تسبب في خسائر بقيمة 125 مليار دولار أمريكي، شملت العديد من القطاعات من ضمنها القطاع الصناعي، حيث أغلقت بعض المصانع بسبب الأضرار التي لحقت بها.
وفي بعض الدول الأوروبية، عانى قطاع صناعة الترفيه من تأثيرات المناخ، فبحسب تقديرات مؤسسة زيورخ، من المرجح أن تتضرر منتجعات التزلج بسبب إمكانية أن تنخفض العواصف الثلجية نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، وأن تصبح أقصر بمعدل 50% في العام 2050، وبمعدل 80% مع حلول عام 2090.
الأفكار المطروحة للتعامل مع هذه التغيرات
أولاً: الاعتماد على الطاقة المتجددة: بدأت الكثير من الدول في البحث عن آليات جديدة لتوفير الطاقة، باستعمال مصادر أقل تلويثاً، ومن ضمنها زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة. ويساعد ذلك في تخفيف حدة التغيرات المناخية من خلال تخفيف استخدام الوقود الأحفوري، تماشياً مع معاهدة باريس للمناخ، التي تطالب بضرورة خفض الانبعاثات الكربونية. ومن أمثلة التوجه نحو الطاقة المتجددة، أظهرت بيانات حكومية صادرة في يونيو 2022، أن المملكة المتحدة في الفترة الماضية، زادت من إجمالي توليد الطاقة المتجددة بنسبة 9.3% بين الربع الأول من عام 2021 والربع الأول من عام 2022.
ثانياً: السعي إلى زيادة المساحات المزروعة: طرحت في مؤتمر "COP26" المناخي، الذي عقد في مدينة غلاسكو في المملكة المتحدة، عدة مبادرات للتعامل مع التغيرات المناخية من ضمنها زيادة المساحات الزراعية. إذ تعهدت 137 دولة بحماية الغابات وعكس اتجاه تدهور الأراضي الزراعية بحلول عام 2030. وفي هذا السياق كان لجمهورية مصر العربية مبادرة بيئية، تمثلت في تكليف مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء المصري، في 10 أغسطس 2022، المحافظين ببدء تنفيذ المبادرة الرئاسية لزراعة 100 مليون شجرة لمواجهة التغيرات المناخية.
التوصيات الخاصة بدولة الإمارات
أولاً: اعتماد (الاقتصاد السلوكي)، وهو الاقتصاد الذي يجمع بين عناصر الاقتصاد، وعلم النفس، لتوجيه الناس نحو سياسات معينة تفرضها الدولة. في دولة الإمارات، هناك توجه نحو الاقتصاد الرقمي، والمعرفي، وجذب رؤوس الأموال، ولكن التحديات البيئية الحاصلة، قد تفرض على السلطات اعتماد الاقتصاد السلوكي لتوجيه المواطنين، والوافدين، وحتى النخب العالمية، نحو ابتكار مشاريع بيئية. ومن شأن اعتماد الاقتصاد السلوكي أن يساعد في جذب الرأي العام نحو هذه المشاريع، باستخدام وسائل تحفيزية، مثل، منح الإقامة الذهبية لأصحاب المشاريع البيئية، وتوفير تحفيزات ضريبية لهذه المشاريع. ومن شأن اعتماد هذه الأساليب أن يشجع أصحاب المشاريع والمستثمرين في ضخ أموالهم في قطاع الطاقة المتجددة. أضف إلى ذلك أن قطاع الزراعة العمودية، أي إنشاء مزارع عمودية (معلقة) فوق بعضها، في بيئة مكيفة، قد يكون من ضمن المشاريع الجاذبة لتخفيف تأثير التغير المناخي.
ثانياً: تشجيع القروض المصرفية الخاصة بمشاريع البيئة، على غرار دعم المشاريع ذات الأهداف المستدامة، أو مشاريع التنمية الاقتصادية، صحيح أن دولة الإمارات تشجع تمويل المشاريع البيئية، ولكن عن طريق مصرف الإمارات للتنمية التابع للحكومة في البلاد، إلا أن تشجيع المصارف الخاصة والتجارية حتى تتمكن من زيادة القروض المصرفية الخاصة بالمشاريع البيئية، أو مشاريع التنمية الزراعية، يعد جزءاً مهماً لمواجهة التغيرات المناخية.