تستمر تداعيات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في السيطرة على المشهد الدولي. أحد آخر هذه التداعيات تمثل في التحركات الأخيرة في فنلندا والسويد نحو التقدم بطلب الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). إذ قالت رئيسة وزراء فنلندا سانا مارين في مؤتمر صحافي مع نظيرتها السويدية، ماجدالينا أندرسون، 13 إبريل 2022، إن فنلندا ستتخذ قرار التقدم بطلب الانضمام إلى الناتو خلال الأسابيع القادمة.
رئيسة وزراء فنلندا أكدت على حرصها على بناء توافق في الآراء حول الانضمام إلى الحلف داخل البرلمان الفنلندي، قائلة: "ستكون هنالك فرصة لجميع المجموعات البرلمانية وكذلك الرئيس لاتخاذ القرار في الأسابيع المقبلة". يتوقع معظم المحللين أن تتخذ فنلندا قرارا بشأن التقدم بطلب للحصول على عضوية الحلف قبل قمة الناتو في مدريد في 29 يونيو، (يورو نيوز، 13 إبريل 2022).
من جانبها قالت أندرسون إنه من المقرر أن تقدم الحكومة السويدية تقريرا في أواخر شهر مايو عن خياراتها في أعقاب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. أكدت أيضا أن أي موقف مستقبلي سيشمل استمرار الاصطفاف الأمني الوثيق مع فنلندا. قالت أندرسون: "سنواصل تنسيقنا وتعاوننا الوثيقين، وعلينا مناقشة خيارات مختلفة، ولا يوجد خيار بدون مخاطر". وأضافت: "نريد تحليل الوضع لنرى ما هو الأفضل لأمن السويد".
نشير هنا إلى أن حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي بزعامة أندرسون والعديد من الأحزاب الأخرى في البرلمان السويدي، يتفقون على أن السويد لا ينبغي أن تنضم إلى حلف الناتو بدون جارتها الشمالية فنلندا أو قبلها، فالبلدين لديهما حاليا تعاون دفاعي وثيق للغاية، (بلومبيرغ، 13 إبريل).
وقد بدأ حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي السويدي الحاكم، مناقشة الانضمام إلى الناتو في اجتماع الحزب في 11 إبريل 2022، (يورو نيوز، 11 إبريل 2022). مع العلم أن حزب العمال السويدي ظل رافضا لفكرة الانضمام إلى الحلف حتى فترة قصيرة جدا. فقد رفضت أندرسون طلب زعيم حزب التجمع المعتدل السويدي المعارض، أولف كريستيرسون، الذي طالب الحكومة ببدء مناقشة حول عضوية محتملة في الناتو. علقت أندرسون على هذا الطلب قائلة: "إذا اختارت السويد تقديم طلب عضويتها في الوضع الحالي، فإن ذلك سيزيد من زعزعة الأمن في أوروبا"، (فايننشال تايمز، 9 مارس 2022).
ثم حدث تغير في موقف رئيسة الوزراء السويدية حيث صرحت لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويدية إس في تي (SVT): "لا أستبعد عضوية الناتو بأي شكل من الأشكال، لكنني أريد إجراء تحليل قائم على أسس صحيحة للإمكانيات المتاحة لنا والتهديدات والمخاطر التي تنطوي عليها، حتى أكون قادرة على اتخاذ القرار الأفضل للسويد". (موقع The Local السويدي، 30 مارس 2022). من جهته قال أمين عام الحزب الديمقراطي الاشتراكي السويدي، توبياس بودين، إن النقاش حول الانضمام سيكون أوسع من مجرد سؤال بنعم أو لا بشأن عضوية حلف شمال الأطلسي، وأضاف في بيان: أن "حوار السياسة الأمنية" سيكتمل قبل الصيف، (الغارديان، 11 إبريل 2022).
نشير هنا إلى أن ملف الانضمام إلى حلف الناتو يتمتع بأغلبية في البرلمان السويدي. إذ صوتت جميع أحزاب المعارضة اليمينية الخمسة، بما في ذلك حزب ديمقراطيي السويد القومي، لصالح تبني خيار السعي للحصول على عضوية الناتو كجزء من السياسة الأمنية للبلاد في عام 2020. كان مصدر الرفض الأساسي هو الحزب الحاكم، حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي، الذي أصبح اليوم أكثر انفتاحا على فكرة الانضمام إلى الناتو كما يتضح من تصريحات نخب الحزب.
في فنلندا، تبين استطلاعات الرأي رغبة غالبية الفنلنديين، ولأول مرة، في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. فقد أظهر استطلاع رأي أجرته هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية "إيل" أن 62% يؤيدون الانضمام إلى الحلف، بينما يعارضه 16% فقط. علما بأنه قبل بداية الحرب في أوكرانيا، تراوح الدعم بين 20% إلى 25%.
في السياق نقلت سي ان ان تصريحات عن مسؤول فنلندي، 9 إبريل 2022، مفادها أن العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية أجبرت فنلندا على إعادة التفكير في الأسس التي بنت عليها ترتيباتها الأمنية وعلاقاتها الخارجية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. المسؤول أكد أن علاقة بلاده مع روسيا لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب في أوكرانيا.
يتفق أغلب الخبراء والدبلوماسيين على أنه إذا انضم أيا من البلدين إلى الناتو، فمن المرجح أن يحذو الآخر حذوه. نشير هنا إلى سابقة انضمام البلدين في نفس الوقت إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995. علاوة على ذلك، يرجح تفضيل الحلف انضمام البلدين في نفس الوقت، نظرا إلى موقع البلدين الجغرافي المشترك في شبه الجزيرة الاسكندنافية إلى جانب النرويج (العضو في الحلف). قالت الخبيرة في شؤون شمال أوروبا في مركز بحوث أتلانتيك كاونسل، إن انضمام البلدان إلى الحلف في نفس الوقت يسهل توحيد الترتيبات الأمنية وييسر التنسيق بين البلدين، (فورين بوليسي، 6 إبريل 2022).
نقل موقع فورن بوليسي أيضا عن إريك براتبرغ، الخبير في الأمن عبر المحيط الأطلسي في مجموعة أولبرايت ستونبريدج (Albright Stonebridge)، وهي شركة استشارية مقرها واشنطن، قوله: "إن فنلندا في طريقها إلى العضوية. أعتقد أن السؤال الآن هو متى، وليس إذا". يردف براتبرغ: "أعتقد أن السويد لا تزال تتكيف مع الواقع الجيوسياسي الجديد، لكنهم يتحركون أيضا في نفس الاتجاه".
ترحيب من حلف الناتو
في واقع الحال، يعود قرار قبول السويد وفنلندا، في حال تقدمها بطلب الانضمام، إلى الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، ويتطلب ذلك توافقا في الآراء بين الأعضاء الثلاثين الحاليين، علما بأن السويد وفنلندا هما من ستة شركاء في الفرص المعززة (Enhanced Opportunity Partners) لحلف الناتو، وهي أقرب أشكال الشراكة مع الحلف الذي يعتبر أن فرص هؤلاء الشركاء في الانضمام إليه أفضل من غيرهم، حيث تجمع هذه الدول بالفعل شراكات وثيقة مع الحلف.
ويزيد عدد من العوامل من أهمية مكانة السويد وفنلندا بالنسبة للحلف، منها:
- تطور جيوشهما، وشراكاتهم الدفاعية مع الولايات المتحدة.
- استقرار أنظمتهما السياسية الديمقراطية، وهو أحد شروط الانضمام إلى الحلف.
- موقعهما الجغرافي المحوري على بحر البلطيق بين دول الشمال الأوروبي ودول البلطيق الأعضاء في الحلف.
لقد تجلى ترحيب الحلف في ما أفاد به دبلوماسيون من عدة دول لفورين بوليسي، 6 إبريل 2022، إذ قالوا إن حكوماتهم ستدعم على الأرجح سعي فنلندا والسويد للعضوية. وأشارت سفيرة الولايات المتحدة لدى حلف الناتو، جوليان سميث، في مؤتمر صحفي 5 إبريل 2022، إلى أن واشنطن سترحب بالعضوين الجديدين. وشددت على أن الأمر متروك للحكومتين في هلسنكي وستوكهولم لاتخاذ الخطوة الأولى، مضيفة: "إنهم يمتلكون جيوش قادرة للغاية، وهم بعض من أقرب حلفائنا في أوروبا، ولذا لا أستطيع أن أتخيل أي مقاومة لهذه الخطوة. على العكس تماما، أعتقد أن حلفاء الناتو سيكونون متحمسين بشكل عام".
وفي قمة الناتو في 25 فبراير 2022 دعم الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف قائلا: "إذا قرروا التقديم، وهذا قرار فنلندي وسويدي مئة بالمئة، أعتقد أنه من الممكن اتخاذ قرار الانضمام بسرعة". أرجع ستولتنبرغ إمكانية ضم البلدان إلى الناتو بسرعة إلى: المستوى العالي من قابلية التشغيل البيني بين الناتو وفنلندا والسويد؛ واستيفاء البلدان بالفعل جميع معايير وشروط الانضمام إلى الناتو.
أكد مسؤولين في الحلف على أن العلاقات الوثيقة التي تجمع السويد وفنلندا مع حلف شمال الأطلسي، تجعل من انضمام البلدين إلى الحلف إضافة قيمة للغاية، خاصة في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية. أحد المسؤولين قال إنه في حين أن مستوى تبادل المعلومات الاستخباراتية بين فنلندا والسويد والناتو قد زاد بشكل كبير منذ بداية الحرب، إلا أنه ليس على المستوى الذي سيكون عليه في حال انضم البلدان إلى التكتل. (سي ان ان، 9 إبريل 2022).
تحذيرات روسية
انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو من شأنه زيادة تأجيج التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. إذ يعتبر الكرملين التحالف، الذي نشأ عن التنافس بين الاتحاد السوفيتي والغرب أثناء الحرب الباردة، بأنه أكبر تهديد جيوسياسي له. ففي 11 إبريل، قال ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين للصحافيين إن: "الحلف (الناتو) لا يزال مهيئا للمواجهة". وحذر بيسكوف من أن انضمام البلدين للحلف لن يجلب الاستقرار إلى أوروبا، (بي بي سي، 11 إبريل 2022). لا ننسى أن الحديث عن عضوية أوكرانيا المحتملة في الحلف لعب دورا رئيسيا في قرار موسكو بدء عمليتها العسكرية في البلاد.
لم يكن هذا أول التحذيرات الروسية في هذا الشأن، إذ قال بيسكوف في 7 إبريل إنه سيتعين على روسيا "إعادة التوازن إلى الوضع" إذا انضمت السويد وفنلندا إلى الناتو، مضيفا: "سيتعين علينا تعزيز جناحنا الغربي لضمان أمننا". في اليوم التالي لهذه التصريحات تعرضت فنلندا لهجومين سيبرانيين وانتهاك للمجال الجوي من قبل طائرة روسية مملوكة للدولة، (سي ان ان، 9 إبريل 2022).
في 12 مارس حذر سيرغي بيلياييف، رئيس القسم الأوروبي في وزارة الخارجية الروسية، من خطوة الانضمام، قائلا لوكالة إنترفاكس الروسية للأنباء: "من الواضح أنه في حال انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، وهو منظمة عسكرية في المقام الأول، ستكون هناك عواقب عسكرية وسياسية خطيرة".
إن انضمام فنلندا إلى الحلف يعني زيادة الحدود بين روسيا والناتو بأكثر من الضعف، من حوالي 1200 كيلومتر حاليا إلى ما يقرب من 2570 كيلومتر. كما أنه سيوسع الجناح الشمالي لحلف شمال الأطلسي على طول الحدود قرب منطقتين استراتيجيتين هما مورمانسك الروسية وشبه جزيرة كولا، حيث يتمركز جزء كبير من البحرية الروسية. هذه الخطورة دفعت الكثيرين إلى النظر في احتمالية استخدام موسكو الخيار العسكري لردع انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو.
غبر أن الكثير من الخبراء في الأمن عبر الأطلسي يرون أنه في حين أن روسيا على الأرجح ستدين عضوية فنلندا والسويد، فإنها لا تعتبر انضمامهما للحلف بنفس أهمية انضمام الدول التي كانت جزء من الاتحاد السوفيتي، التي تنتمي لفلك موسكو من وجهة نظر الكرملين. تتفق مع هذا الطرح راشيل ريزو، وهي زميلة غير مقيمة في مركز بحوث أتلانتيك كاونسل، وتقول: "روسيا ستكون غاضبة، لكنني أعتقد أنها سترد بطريقة مختلفة مقارنة بردة فعلها على محاولة أوكرانيا الانضمام إلى الحلف"، (فورين بوليسي، 6 إبريل 2022).
خلاصة ختامية
ازدادت المخاوف الأمنية في فنلندا والسويد منذ بدء العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية. عكست استطلاعات الرأي في البلدين هذه المخاوف، إذ أظهرت زيادة كبيرة في التأييد للانضمام إلى حلف الناتو، يتراوح بين 50%-70%. مع العلم أن التأييد للانضمام إلى الحلف في هذه البلاد، خاصة فنلندا، كان أقل من ذلك بكثير قبل اندلاع الحرب. دفعت الحرب في أوكرانيا هلسنكي وستوكهولم إلى إعادة النظر في ترتيباتهم الأمنية، وفقا لتصريحات مسؤولين من البلدين، يتضمن ذلك إعادة النظر في الانضمام إلى الناتو.
تلقت التحركات الأخيرة من قبل فنلندا والسويد نحو الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي ترحيب من الحلف، اتضح في تصريحات للأمين العام للحلف، وسفيرة الولايات المتحدة لدى الحلف، وعددا من الدبلوماسيين من أكبر الدول الأعضاء، الذين رحبوا جميعا بانضمام البلدين. ويعود هذا الترحيب للأهمية الاستراتيجية لموقع فنلندا والسويد الجغرافي، إلى جانب قدراتهم العسكرية المتطورة.
في المقابل، حذرت موسكو من هذه الخطوة عدة مرات، جاء آخرها على لسان الناطق الرسمي باسم الكرملين. إذ تعتبر موسكو الناتو أكبر تهديدا على أمنها القومي. في نفس الوقت، انضمام فنلندا سيعزز من وجود الناتو على الحدود الروسية، وانضمام السويد سيعزز من تواجد الحلف في بحر البلطيق. سيعد ذلك توسعا كبيرا للحلف، وهو عكس ما تريده موسكو تماما. إذ أرسلت موسكو قبل الحرب في أوكرانيا عدد من المطالب إلى الناتو تتضمن تقديم الناتو ضمانات مكتوبة تؤكد عدم توسعه في المستقبل.