المفاوضات الأمريكية-الإيرانية: الغموض سيد الموقف

استشرافات

المفاوضات الأمريكية-الإيرانية: الغموض سيد الموقف

30-Jun-2025

عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 24 يونيو/حزيران الجاري، الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران (فرانس 24، 24 يونيو/حزيران 2025)، تزايدت التوقعات الخاصة بإمكانية تجدد المفاوضات بين الأخيرة والولايات المتحدة الأميركية حول البرنامج النووي، أو بمعنى أدق ما تبقى من هذا البرنامج بعد الضربات العسكرية التي تعرض لها، وهى المفاوضات التي توقفت بعد أن قامت تل أبيب بشن الحرب ضد طهران في 13 من الشهر نفسه.

 

مواقف متعارضة

هذه التوقعات استندت إلى أن تجدد المفاوضات قد يكون جزءاً من التفاهمات التي جرت بين العواصم الثلاثة وانتهت بالوصول إلى الاتفاق الذي أنهى حرب الإثنى عشر يوماً. وقد أضفى الرئيس ترامب زخماً خاصاً على ذلك عندما أشار، بعد يوم واحد، إلى أن مفاوضات جديدة سوف تعقد مع طهران خلال الأسبوع التالي. (صحيفة الخليج، 26 يونيو/حزيران 2025)

لكن خلافاً لتلك التوقعات، أكدت إيران أنها غير معنية بتجديد المفاوضات مع واشنطن في هذا التوقيت، على نحو أضفى مزيداً من الضبابية على مستقبل البرنامج النووي الإيراني والمسارات المحتملة التي يمكن أن يتجه إليها في النهاية، باعتبار أنه العنوان الرئيسي للمواجهة التي جرت بين طهران من جهة وكل من واشنطن وتل أبيب من جهة أخرى.


دلالات عديدة

يطرح إصرار الرئيس ترامب على إجراء مفاوضات جديدة مع إيران دلالتين رئيسيتين:

1.    الأولى، أن الولايات المتحدة الأميركية باتت ترى أن الضربات العسكرية التي وجهتها إلى المفاعلات الإيرانية الثلاث: فوردو وأصفهان ونطنز، لم تفلح في القضاء على البرنامج النووي، وأنها يمكن أن تكون قد ساهمت، على أقصى تقدير، في تأخيره لعدة سنوات. ويعني ذلك أن واشنطن تدرك أنه ما زال لدى طهران ما يمكن أن تتفاوض به وتعقد صفقة حوله.

2.    الثانية، أن واشنطن ترى أن هناك ملفات أخرى سوف تكون حاضرة على طاولة المفاوضات، إلى جانب البرنامج النووي. وتتمثل أبرز تلك الملفات في برنامج الصواريخ الباليستية الذي كان له دور رئيسي في الحرب عندما استخدمته إيران في توجيه ضربات مؤثرة داخل إسرائيل، إلى جانب النفوذ الإقليمي وعلاقة إيران مع وكلائها في المنطقة، لا سيما في كل من اليمن والعراق، بعد أن تعرض الوكلاء الآخرون لضربات عسكرية قوية خلال العامين الماضيين، خاصة حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية.

 

المراوحة بين العصا والجزرة

من هنا، كان لافتاً أن الرئيس ترامب من أجل تحفيز إيران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مجدداً بدأ في تبني مقاربته التقليدية القائمة على "المراوحة بين العصا والجزرة". فقد بدأ مبكراً في التلويح بإمكانية رفع القسم الأكبر من العقوبات الأميركية المفروضة على إيران في حالة إنجاز صفقة جديدة. وقال، في 29 يونيو/حزيران الحالي، أن واشنطن قد تفكر في رفع العقوبات في حالة أبدت إيران حسن النية (العربية، 29 يونيو/حزيران 2025)، بل إنه زاد على ذلك بقوله، قبل ذلك بأربعة أيام، أن الصين يمكن أن تستورد مزيداً من النفط الإيراني. (سكاي نيوز عربية، 26 يونيو/حزيران 2025)

لكن في مقابل ذلك، بدأ ترامب أيضاً في تهديد طهران بإمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري مرة أخرى في حالة ما إذا أصرت على موقفها الحالي، وألمح في الوقت نفسه إلى أن العمل العسكري المحتمل قد يشمل اغتيالات على مستوى عالٍ بعد أن أشار إلى أنه "أنقذ المرشد خامنئي من موت محقق وشنيع". (سي إن إن، 27 يونيو/حزيران 2025)

 

الكرة في ملعب طهران

هنا، انتقلت الكرة إلى ملعب طهران، التي بدا لافتاً أنها وجهت رسائل متناقضة في آن واحد. فقد نفى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في 27 يونيو/حزيران الجاري، ما جاء على لسان الرئيس ترامب بشأن عقد مفاوضات قريبة، مشيراً إلى أن هذه التكهنات ليست صحيحة (روسيا اليوم، 26 يونيو/حزيران 2025)، لكنه عاد بعد ذلك بيوم واحد، ليشير إلى أن إيران مستعدة للتفاوض إذا تراجع ترامب عن اللهجة التي يستخدمها تجاه المرشد خامنئي. (سويس انفو، 27 يونيو/حزيران 2025)

هذا الموقف المتناقض من جانب إيران يطرح بدوره دلالتين أخريين:

1.    الأولى، أن طهران لم تستقر بعد على الخيار الذي سوف تتبناه خلال مرحلة ما بعد انتهاء الحرب، التي فرضت معطيات استراتيجية جديدة على الأرض، بعد أن خسرت قسماً من برنامجها النووي وبعض علماءها النوويين وقادتها العسكريين. إذ لا يمكن استبعاد حدوث انقسام في دوائر صنع القرار بشأن الآليات التي يمكن استخدامها في التعامل مع الضغوط والتهديدات الأميركية والإسرائيلية، بين فريق يدعو إلى إجراء مفاوضات جديدة، وآخر يضغط من أجل تبني نهج أكثر تشدداً يعتمد على أن إيران رغم خسائرها في الحرب استطاعت استيعاب ذلك والرد عبر 22 موجة من الهجمات الصاروخية ضد إسرائيل وواحدة ضد الولايات المتحدة الأميركية.

2.    الثانية، أن طهران ربما تحاول استثمار الغموض الحالي حول نتائج الضربات العسكرية لبرنامجها النووي من أجل تعزيز موقفها في مواجهة واشنطن وتل أبيب، وهو الغموض الذي يبدو أنه سوف يستمر لفترة قد لا تكون قصيرة، في ظل اختلاف الروايات حول ما حدث، وعدم قدرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية – وهى الطرف الرئيسي الذي يمكن أن يقوم بتقييم تداعيات الحرب – على الوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية بعد مشروع القانون الذي أصدره مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، في 26 يونيو/حزيران الحالي، بتعليق التعاون معها، والذي حظى بموافقة مجلس صيانة الدستور – الذي يتولى صلاحية البت في مشروعات القوانين التي يصدرها مجلس الشورى - في اليوم التالي (الشرق للأخبار، 27 يونيو/حزيران 2025)، ليصبح قانوناً نافذاً.

 

مسارات محتملة

على ضوء ذلك، يمكن القول إن الأزمة العالقة بين طهران من جهة وكل من واشنطن وتل أبيب من جهة أخرى قد تتجه إلى أحد سيناريوهات ثلاثة رئيسية:

1.    الأول، أن تجري مفاوضات بالفعل بين طهران وواشنطن تنتهي بالوصول إلى صفقة جديدة تُجنِّب الأولى الانخراط في حرب مباشرة مجدداً أو التعرض لضربات عسكرية قوية تقضي على ما تبقى من برنامجها النووي، ويرفع بمقتضاها القسم الأكبر من العقوبات الأميركية المفروضة عليها.

2.    والثاني، أن تجرى مفاوضات بين الطرفين تنتهي بالفشل في الوصول إلى صفقة جديدة، في ظل الخلافات القائمة والتي لم تصل إلى حل، خاصة حول أحقية إيران في مواصلة عمليات تخصيب اليورانيوم، على نحو قد يؤدي إلى تعرض الأخيرة ليس فقط لمزيد من العقوبات الأميركية، وإنما أيضاً لعقوبات دولية، باعتبار أن الدول الغربية سوف تتجه في هذه الحالة إلى تفعيل آلية "الزناد" أو Snapback، والتي تعني إعادة تطبيق العقوبات الدولية التي فرضت بمقتضى ستة قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي وتم تعليقها بعد الوصول إلى الاتفاق النووي الحالي بين إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو/تموز 2015.

3.    والثالث، أن تتجدد الحرب المباشرة مرة أخرى بين الأطراف الثلاثة، وهو احتمال لا يمكن استبعاده في ظل إصرار طهران على الاحتفاظ بمختلف مكونات برنامجها النووي بما فيها مواصلة عمليات تخصيب اليورانيوم، وحرص واشنطن وتل أبيب على تفكيكه.

 

فترة حرجة للأطراف الثلاثة

من هنا، تبقى الفترة القليلة المقبلة حرجة بالنسبة للأطراف الثلاثة، حيث قد تشهد مزيداً من التصعيد على المستوى السياسي، خاصة بعد أن عاد المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي للتقليل من أهمية تصريحات الرئيس ترامب، حيث قال أن "الأخير يبالغ في تهويل ما حدث ولم ينجزوا شيئاً" (العربية، 29 يونيو/حزيران 2025). وربما لا يخلو الأمر من محاولات لتنفيذ عمليات استخباراتية داخل إيران نفسها تستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين وربما سياسيين وعلماء نوويين، لإقناعها بأن المضي قدماً في تحدي الضغوط الأميركية والإسرائيلية قد تكون كُلفته عالية، وربما يمهد المجال أمام تبني الخيار الأصعب وهو استخدام القوة العسكرية مجدداً.

 

92