تحول السودان إلى مصدر مخاوف إقليمية ودولية متزايدة، منذ بداية الحرب في 15 أبريل 2023، بين الجيش بقيادة الفريق الأول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق الأول محمد حمدان دقلو (حميدتي)؛ لما تحمله من تداعيات خطِرة تهدد دول الجوار خاصة، والأمن العالمي بشكل عام. نبحث في سلسلة "الجوار السوداني وتأثير الحرب" تداعيات الوضع الجديد إقليمياً، حيث ننظر إلى الملفات المشتركة بين السودان وجيرانها، وأوجه تأثرها جراء الصراع.
في هذا الجزء من السلسلة نتناول العلاقات بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى والتداعيات المحتملة الناجمة عن الحرب الجارية في السودان على كلا البلدين، ارتباطا بالمعطيات السياسية والاقتصادية والأمنية، إضافة إلى القرب الجغرافي والحدود المشتركة والتقارب العرقي.
تاريخ معقد
يمكن إرجاع العلاقة بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى إلى العصور القديمة عندما ربطت طرق التجارة حضارات وادي النيل بمملكة كوش الواقعة في السودان الحالي. سهل هذا التفاعل التبادل الثقافي، وأصبح السودان مع مرور الوقت، بوابة مهمة للتجارة بين شمال ووسط إفريقيا. في القرن التاسع عشر، أدى التدافع على إفريقيا من قبل القوى الأوروبية، إلى استعمار البلدين. أصبح السودان تحت السيطرة البريطانية، بينما تم تقسيم إفريقيا الوسطى بين العديد من المستعمرين الأوروبيين، بما في ذلك فرنسا وبلجيكا وألمانيا. أثرت الحدود الاستعمارية لاحقا على الديناميات السياسية بين السودان ووسط إفريقيا.
واجه السودان، بعد حصوله على الاستقلال في عام 1956، تحديات في تحديد هوية خاصة وإقامة حكم مستقر، الأمر الذي أثر على العلاقات مع الدول المجاورة، بما في ذلك تلك الموجودة في وسط إفريقيا. واحدة من القضايا الرئيسية التي توترت على إثرها علاقات السودان مع إفريقيا الوسطى كانت الحرب الأهلية في جنوب السودان. وقد أدى النزاع بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق دي مابيور ، إلى نزوح جماعي وخسائر في الأرواح وتوتر الاستقرار الإقليمي.
امتد الصراع في السودان إلى دول وسط إفريقيا المجاورة، ونركز هنا على تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى. وشهدت هذه البلدان موجات من اللاجئين والفصائل المسلحة التي تبحث عن المأوى والدعم، مما أسهم في حالة عدم الاستقرار الإقليمي. واتهم السودان بدعم الجماعات المتمردة في البلدين، مما زاد من تعقيد العلاقات معهما. إجمالا، كان تاريخ العلاقات بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى مزيجا من التعاون والصراع والديناميكيات الإقليمية المتشابكة.
مصالح وتضارب
يشترك السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى في العديد من المصالح بسبب قربهما الجغرافي وروابطهما التاريخية. وتشمل هذه المصالح مجالات مختلفة، بما في ذلك الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية. تنشط حركة تجارية واسعة بين البلدين، وتعتبر مدينة أم دافوق والتي تقع على بعد 370 كلم غربي مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، إحدى أكبر المناطق الحدودية التي تربط السودان بأفريقيا الوسطى، والمعبر الرئيسي لحركة التجارة بين البلدين. وطبيعة النشاط الاقتصادي في محلية أم دافوق، نشاط رعوي، يمتد بين السودان ودولة أفريقيا الوسطى، مما أدى إلى وجود تداخل شعبي في المناطق الشرقية لأفريقيا الوسطى، مثل منطقة جبل فاطمة ومنطقة مأمون وغيرها، كما أدى التداخل إلى وجود مجموعات إثنية توزع وجودها بين السودان وأفريقيا الوسطى.
وتنتعش في أم دافوق التجارة الموازية، وذلك بفضل الحماية التي توفرها الجماعات المسلحة. وتنطلق الشاحنات التجارية من السودان نحو أفريقيا الوسطى محملة بالسلع السودانية مثل الزيت والبنزين وغيرها من السلع الاستهلاكية، بعد تفريغ السلع في أفريقيا الوسطى يُعاد تحميل الشاحنات بسلع محلية في مقدمتها البن لإعادة بيعها في السودان. يعود هذا الشكل من أشكال التجارة الموازية بفائدة كبيرة على الجماعات المسلحة، والتي تعدها مورداً مالياً مهماً بفضل “الرسوم” التي تفرضها مقابل حماية القوافل.
وفيما يلي بعض المصالح المشتركة الرئيسية بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى:
1/ الأمن والاستقرار: لكل من السودان وإفريقيا الوسطى مصلحة مشتركة في الحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي للآخر، حيث يمكن أن يكون لعدم الاستقرار في أي من البلدين آثار مباشرة وغير مباشرة على الآخر، من تدفق اللاجئين وتهريب الأسلحة وزيادة خطورة تهديد الجماعات المسلحة. يعتبر التعاون بين البلدين في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة، مثل الجريمة العابرة للحدود، والإرهاب، أمر بالغ الأهمية لضمان السلام والاستقرار في المنطقة، وفي المقابل، تهديده يفاقم من الأخطار.
2/ التعاون الاقتصادي: التنمية الاقتصادية والتجارة ضروريان لكلا البلدين وهما يملكان موارد طبيعية كبيرة، بما في ذلك النفط والمنتجات الزراعية والمعادن التي على رأسها الذهب واليورانيوم والنحاس. ويمكن للتعاون في التجارة والاستثمار وتطوير البنية الأساسية أن يعزز النمو الاقتصادي، ويخلق فرص العمل، ويحسن مستويات المعيشة. كما توفر منافذ السودان على البحر الأحمر طريقا تجاريا استراتيجيا لبلدان وسط إفريقيا الحبيسة، بما في ذلك إفريقي الوسطى.
3/ أمن الحدود: يشترك البلدان في حدود طويلة، يعتبر تأمينها أولوية مشتركة. الجهود التعاونية في مراقبة ورصد الأنشطة الحدودية، ومكافحة التهريب والتجارة غير المشروعة، ومنع تسلل الجماعات المسلحة، حاجة أساسية للحفاظ على الأمن والاستقرار. ويمكن أن يسهم تعزيز آليات إدارة الحدود وتعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية في تحقيق المصالح الأمنية للبلدين.
ومن المهم أن نلاحظ أنه في حين أن هناك مصالح مشتركة بين السودان وإفريقيا الوسطى، قد تكون هناك أيضا خلافات وتوترات عرضية ناشئة عن عوامل تاريخية أو سياسية أو اقتصادية. ومع ذلك، فإن الاعتراف بالمصالح المشتركة وتعزيزها يمكن أن يسهم في بناء علاقات أقوى وأكثر تعاونا بين البلدين.
قبل الحرب
في خضم النزاع المسلح بأفريقيا الوسطى، تمددت حركة النزوح تجاه إقليم دارفور، أيضاً أشارت تقارير أممية إلى أن مستوطنين جدد من دول عديدة، بينها أفريقيا الوسطى احتلوا أراضي النازحين في دارفور، حيث أبلغت جهات غير حكومية، فريق خبراء تابع لمجلس الأمن الدولي، عن احتلال أجانب من تشاد وأفريقيا الوسطى ومالي والنيجر ونيجيريا، أراضي النازحين واللاجئين في إقليم دارفور.
وقد ظلت أفريقيا الوسطى المستعمرة الفرنسية السابقة، لعقود من الزمن تحت نفوذ باريس، ومؤخرا تمدد إليها النفوذ الروسي بشكل كبير عن طريق الرئيس السابق عمر البشير، الذي رعى في فبراير عام 2019م مفاوضات سلام بين المتمردين والحكومة بالعاصمة الخرطوم شارك فيها مسؤولون روس رفيعو المستوى. عقب إسقاط البشير في أبريل 2019م، تواصل التمدد الروسي في الحدود بين السودان وأفريقيا الوسطى، ووصل إلى وجود عسكري شمل حتى العاصمة بانغي.
قبل ذلك وبعد انفجار الحرب الأهلية بأفريقيا الوسطى في عام 2013م، أشارت تقارير إعلامية إلى تدخل البشير ، عسكرياً إلى جانب أحد الأطراف المتصارعة، وأشير في مناسبات عدة إلى تدخلات نظامه في شئون إفريقيا الوسطى ووفق تقرير أصدره مركز أبحاث النزاعات المسلحة البريطاني وأعاد نشره موقع راديو دبنقا ، بعنوان: المجموعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة في جمهورية افريقيا الوسطى، دعم البشير مليشيا السيليكا المسلمة، بالمرتزقة والسلاح، ضد حكومة الرئيس فرانسوا بوزيزي في عام 2013 في الحرب التي انتهت إلى مجازر بين المسلمين والمسيحيين.
في 3 يناير 2023، أعلن نائب رئيس مجلس السيادة في السودان الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، إغلاق الحدود مع إفريقيا الوسطى، مرجعاً ذلك إلى "مؤامرة" لتغيير النظام في الدولة المجاورة، انطلاقاً من داخل الحدود السودانية. وقال حميدتي الذي يتولى أيضاً قيادة قوات الدعم السريع السودانية، إنه كشف هذه المؤامرة، ومن يقف خلفها، دون أن يعلن الجهات المسؤولة عنها. وأكد اعتقال متورطين في "المؤامرة"، مشيراً إلى أنهم كانوا يحاولون تنفيذ المخطط مع إلصاق التهمة بقوات الدعم السريع.
وأضاف: "تم القبض على المتورطين، وإغلاق الحدود مع إفريقيا الوسطى، درءاً للفتنة، وحفاظاً على حسن الجوار (..) تلك الجهات، قامت بتجميع قوات من كل القبائل، إضافة إلى عسكريين سابقين، ووفرت لهم زياً رسمياً مكتملاً، لقوات الدعم السريع، وأدخلتهم إلى منطقة أم دافوق (منطقة سودانية على الحددود مع إفريقيا الوسطى)، وأرادت تنفيذ المخطط.. قوات الدعم السريع ستفتتح معسكرات في أم دافوق، وأم دخن، لضبط وتأمين الحدود".
منصة "دارفور 24" تحدثت في 29 يناير 2023 عن وقوع معارك طاحنة يومي 27 و28 يناير 2023، بين مقاتلين سودانيين ومقاتلين من حركة سيليكا من جهة؛ وعناصر من شركة فاغنر الروسية من جهة أخرى، بالمناطق الحدودية بين السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، حيث مناجم الذهب؛ الأمر الذي أدى لسقوط عشرات القتلى، بينهم عناصر من فاغنر.
صحيفة "لو موند" الفرنسية من جهتها نقلت عن مصادر لم تسمها قولها إن الإدارة الأميركية أرسلت في منتصف ديسمبر الماضي إلى رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، فوستان-آرشانج تواديرا، رسالة حددت فيها الميزات التي ستنالها بلاده في حال فكت ارتباطها بـ"مجموعة فاغنر" الروسية والتداعيات في حال لم تفعل. جرى ذلك على هامش القمة الأميركية - الإفريقية التي استضافتها واشنطن بين 13 و15 ديسمبر 2022، حيث منحت واشنطن بانغي مهلة 12 شهراً لإبعاد المرتزقة الذين بدأوا ينتشرون في إفريقيا الوسطى إثر إبرام الأخيرة اتفاقية في هذا الشأن مع روسيا عام 2018 ، حيث يقود "مجموعة فاغنر" في إفريقيا الوسطى فيتالي بيرفيليف، العضو في الفيلق الأجنبي الروسي، ووسع أعضاؤها هناك أنشطتهم من حماية الرئيس ودعم جيشه إلى التعدين وحماية المواكب وضبط الجمارك وحتى إنتاج مشروبات كحولية محلياً.
مع تزايد نشاط التعدين التقليدي سواء كان في دارفور أو أفريقيا الوسطى، ارتفعت وتيرة الحركة بين الشعبين في الوقت الذي تمددت فيه الشركات الروسية في عمليات تعدين محمومة بالبلدين، أصبحت تطيح بالمعدنيين التقليديين السودانيين، حيث قامت قوات عسكرية تتبع للشركات الروسية في مارس الماضي بمطاردة المعدنين السودانيين من أفريقيا الوسطى إلى داخل الحدود السودانية، وقتلت الكثيرين منهم.
بحسب "لو موند"، أضافت وزارة الخزانة الأميركية في 26 يناير 2023، عدة أسماء إلى قائمة الشخصيات والكيانات الخاضعة للعقوبات المالية، من ضمنهم: المستشار الأمني السابق لرئاسة جمهورية إفريقيا الوسطى، فاليري زاخاروف؛ ورئيس "رابطة الضباط من أجل الأمن الدولي"، ألكسندر إيفانوف؛ وشركة "سيوا للخدمات الأمنية"، التي تسيطر عليها مجموعة فاغنر، وتوفر الحماية لكبار المسؤولين في حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى"؛ وشركة "كراتول للطيران" التي تسمح لفاغنر بنقل الأفراد والمعدات بين جمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي.
تداعيات الحرب
منذ بداية الحرب في 15 أبريل، كانت جمهورية إفريقيا الوسطى التي تربطها حدود طولها 174 كيلومترا مع السودان من بين أكثر الدول تضررا من التداعيات. ذكر موقع "reliefweb" المتخصص في بيانات العمليات الإنسانية أن تأثر إفريقيا الوسطى بما يجري في السودان يظهر بشكل جلي في شمالي البلاد، من خلال:
1/ الاضطرابات الأمنية على طول الحدود بين البلدين، وتأثيرها حركة المرور بينهما، مما أدى إلى زيادة كبيرة في أسعار السلع الأساسية.
2/ يزوّد السودان العديد من البلدات في إفريقيا الوسطى بالسلع الأساسية، كما هو حال مناطق في محافظتي فاكاجا وبامينغوي بانغوران.
3/ خلال موسم الأمطار، الذي يمتد من أبريل وحتى أكتوبر، تواجه إفريقيا الوسطى تحديات كبيرة، ويزيد الاعتماد على السودان.
4/ بالنسبة إلى بعض السلع، زادت الأسعار في إفريقيا الوسطى بمقدار الضعفين، فمثلا سعر كيس السكر الذي يزن 50 كيلوغراما كان قبل اندلاع الحرب بالسودان 40 ألف فرنك محلي (70 دولارا)، وصار يباع بـ 80 ألفا (140 دولارا) بعدها.
المنطقة الشمالية من جمهورية إفريقيا الوسطى كانت تعاني بالفعل من هشاشة الأمن الغذائي، وهو حال يتوقع أن يصل إلى ذروته في أغسطس المقبل ما لم تكن هناك استجابة كافية. وذكر استعراض خاص بالاحتياجات الإنسانية لعام 2023، صدر في نوفمبر 2022:
1/ أن هناك 120 ألف شخص بحاجة إلى مساعدة إنسانية في شمالي جمهورية إفريقيا الوسطى، في حين أن القدرات على تلبية الاحتياجات الإضافية محدودة للغاية.
2/ مع بداية الحرب فر أكثر من 12 ألف سوداني واستقر بهم الحال في إفريقيا الوسطى هربا من القتال في بلادهم، وتناقش السلطات المحلية إمكانية نقلهم إلى منطقة بيراو.
3/ وصلت فرق إغاثة إلى منطقة بيراو ليس فقط لتقييم الوضع، بل لتقديم المساعدة الطارئة بما في ذلك المياه النظيفة. (سكاي نيوز عربية، 29 أبريل 2023)
استنتاجات
الروابط الجغرافية والعرقية التي تجمع السودان وإفريقيا الوسطى، تمنح كلا البلدين قدرة التأثير على الآخر، مما يجعل التوترات الداخلية لأي منهما مصدرا للمخاوف الأمنية والاقتصادية والسياسية بالنسبة للآخر. الوضع الأمني الداخلي لكل من البلدين يظل هشا إلى حد كبير، يفاقمه عامل التنافس الدولي على النفوذ في القارة الإفريقية الغنية بالموارد.
هذا التنافس تتعدد أقطابه، غير أن التركيز حين يتعلق الأمر بالسودان وإفريقيا الوسطى يتمحور حول المنافسة الروسية الأمريكية. وفضلا عن الحرب الدائرة في السودان يمكن لهذه المنافسة أن تطيل أمد الصراعات في البلدين، مع استمرار الدعم العسكري والمالي لأطراف تخدم مصالح دولية وإقليمية.