تجدد القتال في مالي.. فرصة ثمينة للتنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل
تشهد مالي منذ أسابيع تصاعد في حدة المواجهات العسكرية بين الحكومة المركزية وما يعرف بتنسيقية حركات أزواد التي يقودها الطوارق، لتنضم البلاد مجدداً إلى جارتها في وسط وغرب إفريقيا والتي تشهد أيضاً توترات وصراعات مستمرة. وما يعقد الوضع أكثر عاملين، الأول هو إمكانية ارتباط هذه المعارك بالصراع الدولي والإقليمي والذي يتركز خاصة في القارة السوداء، أما العامل الثاني، هو وجود التنظيمات المتطرفة والإرهابية التي سرعان ما تسعى لاستغلال أي تطور أمني أو سياسي أو عسكري في المنطقة.
شنت حركات أزواد في 12 سبتمبر، هجوما على مدينة "بوريم" في منطقة غاو شمالي مالي، معلنة السيطرة عليها، ولكن أعلن الجيش المالي أنه تصدى لها، وأفشل مساعيها للسيطرة على المدينة. وفي 17 سبتمبر اشتدت المعارك بين الحركات الازوادية المسلحة من جهة، والجيش المالي ومجموعة "فاغنر"، من جهة أخرى، وهاجمت هذه الحركات معسكر للجيش في منطقة "ليرى" بدائرة نيافونكي بولاية تمبكتو، وعقب ذلك نفذ الجيش المالي هجمات جوية ضد قوات الحركات الازوادية.
في 18 سبتمبر أعلن الجيش المالي عن مقتل خمسة جنود ماليين وفقد 11 آخرين بعد هجوم استهدف ثكنتين عسكريتين، وأوضح الجيش أيضاً أنه فقد طائرة لكنه "قام بتحييد" أكثر من ثلاثين مهاجما خلال معارك في "ليرى"، وأعلنت تنسيقية حركات أزواد مسؤوليتها عن الهجوم.
مسببات الصراع
أعلنت "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" التي تسعى للحصول على حكم ذاتي في يناير 2012 الحرب على القوات المالية من أجل طردها من إقليم أزواد. وقالت الحركة في بيان لها أن انطلاق العمليات الحربية ضد القوات المالية "جاء بعد رفض الحكومة في باماكو الاستجابة لدعوات ومطالب الحركة الداعية إلى حل القضية بشكل سلمي عبر الحوار".
قالت الحركة بعد حوالي شهرين من بدأ المعارك أنها تمكنت من السيطرة على ما يقارب 70 بالمئة من أراضي الإقليم وطالبت القوى الدولية والإقليمية "بتفهم المطالب المشروعة للشعب الازوادي في تقرير المصير، وإنهاء الظلم والمعاناة التي واجهها طوال العقود الماضية".
بسبب الهزائم التي مني بها الجيش المالي وفشله في إنهاء هذا التمرد في شمال البلاد، أعلن جنود ماليون في 22 مارس 2012 تنفيذ انقلاب استولوا من خلاله على السلطة وأطاحوا بنظام أمادو توماني توريه الذي ترأس البلاد لفترتين خلال (2002-2012)، وأكدوا بأنهم سيواصلون قتال الحركة الازوادية.
في 5 أبريل 2012 أعلنت "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" استقلال المناطق التي سيطرت عليها في شمال مالي تحت اسم "جمهورية أزواد" وقالت الحركة إنها قررت بشكل أحادي وقف العمليات العسكرية نزولاً عند طلب المجتمع الدولي وخصوصا مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة وفرنسا ودول المنطقة، لكن المسار تغير مع إعلان الحركة الازوادية الاندماج مع حركة أنصار الدين وإنشاء دولة إسلامية في "دولة أزواد". وعقب انسحاب بعض الأطراف داخلها عن هذا الاتفاق، تعرضت الحركة في يونيو 2012 لضغط عسكري من حركتيْ التوحيد والجهاد وأنصار الدين، مما اضطرها لإخلاء مواقعها في المدن الكبرى وبذلك سيطرت الحركات الإسلامية على المنطقة.
مع تهديد قوات الحركات الإسلامية للعاصمة المالية قررت فرنسا التدخل عسكرياً في مالي بتاريخ 11 يناير 2013، لتعلن إيقاف عملياتها العسكرية في أبريل 2013 وتقرر الإبقاء على ألفي جندي فقط حتى يوليو 2013. تلا ذلك إبرام الحكومة المالية اتفاقاً مع الحركة الازوادية في 18 يونيو 2013 التي كانت مسيطرة حينها على مدينة كيدال في أقصى شمالي البلاد، وينص هذا الاتفاق على إيقاف إطلاق النار وانسحاب المسلحين من المدينة وعودة الجيش إلى هذه المناطق.
توجت هذه التطورات بإبرام اتفاقية الجزائر في مايو 2015 بين الحركات الازوادية والحكومة المالية، وقد تضمنت الاتفاقية تخلي الحركة عن مطلب الانفصال مقابل منحها حكماً ذاتياً موسع الصلاحيات ودمج مقاتلي الحركة في الجيش وتنظيم مؤتمر عام للمصالحة خلال سنتين من توقيع الاتفاق.
ظروف تجدد القتال
وسط تعثر تطبيق الاتفاقيات الخاصة بمطالب الحركات الازوادية السياسية والخاصة بالحصول على حكم ذاتي موسع، ومع اقتراب انسحاب بعثة الأمم المتحدة ارتفعت فرص حدوث مواجهات عسكرية. وقد بدأت الحركة الازوادية خلال الأيام الماضية باستهداف القواعد والثكنات العسكرية في المناطق التي تدخل ضمن نطاق سيطرتهم بسبب الخلاف بشأن مسؤولية إدارة هذه القواعد.
لقد تبين أن الحركة تسعى للضغط على القوات التابعة للحكومة المركزية حيث تقوم بقطع الإمدادات عنها وقطع الطرق والجسور بهدف دفعها للانسحاب وإعلان في المرحلة المقبلة استقلال هذه المناطق أو دفع الحكومة المالية الحالية لتطبيق اتفاقية الجزائر ومنح الحركة حكماً ذاتياً موسع الصلاحيات.
ومن دوافع تحرك الحركة الازوادية التي يقودها الطوارق كما أشرنا، هو أن الدستور الجديد للبلاد لا يأخذ بمطالبهم، كما أنهم يرون بـأن تهميشهم يزداد خاصة مع تنصل الحكومة المركزية في مالي من تطبيق الاتفاقيات السابقة.
الدافع الثاني هو الانسحابات العسكرية الفرنسية والأممية، وهذا ما يشكل فراغا تريد الحركة تعبئته. وبعد حدوث الانقلاب العسكري المزدوج في 2020 و2021، دفع المجلس العسكري القوات الفرنسية التي كانت تنفذ مهاما ضد التنظيمات المتطرفة، إلى مغادرة البلاد في 2022، كما حدث نفس الأمر مع بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) في 2023.
لقد سحب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعثته المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) من البلاد في يوليو، والتي تشكلت في عام 2013 للمساعدة في العمليات السياسية والجهود الأمنية وسط الاضطرابات. وبعد هذا الانسحاب، أعلنت وزارة الخارجية النرويجية أنها ستغلق سفارتها في مالي بحلول نهاية عام 2023 بسبب تصاعد الانقلابات السياسية في السنوات الأخيرة، فضلاً عن قرار الدولة بإنهاء التعاون الأمني مع فرنسا والأمم المتحدة.
التنافس الدولي يزيد من تعقيد الصراع
ما يزيد من التعقيدات في مالي هو بوادر التنافس والصراع بين القوى الدولية هناك، وبالتزامن مع دفع المجلس العسكري في مالي للقوات الفرنسية وعموم ممثلي الدول الغربية ومنظمات الأمم المتحدة وغيرها للخروج من البلاد، فإن هذه السلطات تزيد من علاقاتها مع روسيا التي دفعت المجالس العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر لإقامة تحالف ثلاثي في 16 سبتمبر.
تم الإعلان عن التحالف الثلاثي في 16 سبتمبر بعد ما يزيد قليلاً عن أسبوعين من اجتماع المندوبين الروس مع قادة المجلس العسكري في باماكو وواغادوغو، وبعد إعلان الولايات المتحدة أنها ستستأنف العمليات العسكرية في النيجر في أعقاب الانقلاب الذي وقع في أواخر يوليو.
وبالإضافة إلى مهمة مكافحة الإرهاب، تضمنت معاهدة الدفاع الجديدة المساعدة المتبادلة بين الحكومات الثلاث في حالة "التمرد" أو "العدوان الأجنبي". وقد يؤدي هذا إلى قيام مالي وبوركينا فاسو بتقديم المساعدة للمجلس العسكري في النيجر إذا نفذت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "ايكواس" تهديدها باستخدام القوة العسكرية لإعادة رئيس النيجر المخلوع بازوم. ويعني ذلك أيضًا أن بوركينا فاسو والنيجر يمكنهما مساعدة مالي في حربها المتجددة ضد الفصائل المتمردة في شمال البلاد.
هذه التطورات تشير إلى إمكانية أن تشهد عموم هذه المنطقة حالة من التوتر والصراع على وقع التنافس الأميركي والغربي مع روسيا، خاصة أن إفريقيا تعد أهم المناطق التي يجري الصراع عليها.
فرصة مواتية للتنظيمات الإرهابية
تجيد التنظيمات الإرهابية في مالي استغلال الظروف والتطورات الحاصلة حيث سبق أن شنت هجوماً على الحركة الازوادية في عام 2012، وذلك بعد أن سيطرت على مناطق عديدة انسحب منها الجيش المالي. وما يزيد من فرص حدوث ذلك مرة أخرى هو أن هذه التطورات ترافقت بالفعل مع تحركات للتنظيمات الإرهابية. ويمنح انسحاب القوات الفرنسية والقوات الأممية التي كانت تقاتل هذه التنظيمات الإرهابية فرصة ثمينة لهذه التنظيمات لكي تعيد نشاطها وتستغل ضعف القوات الحكومية وانشغالها بالحرب مع الحركة الازوادية.
وتنشط "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" المرتبطة بتنظيم القاعدة في قسم كبير من شمال مالي ووسطها وصولا إلى أطراف باماكو. وينشط تنظيم داعش، الذي هاجم في أغسطس 2023 قوات عسكرية من جيش مالي كانت في طريقها إلى النيجر، وفق سبوتنيك الروسية. وفي 8 سبتمبر استهدفت عملية انتحارية معسكراً للجيش المالي في غاو شمال البلاد.
الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة في شمال مالي ظلت تحاصر مدينة تمبكتو منذ أغسطس، حيث بدأ نفوذ "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في المنطقة عندما قامت بعثة مينوسما، بإخلاء معسكراتها استجابة لطلب إدارة باماكو.
لقد أصبح الوضع في تمبكتو سيئاً على نحو متزايد، مع توقف النقل الجوي والبري، مما أجبر أكثر من 34,000 من السكان على الفرار من المدينة، وقد تم قطع الطريق المؤدي إلى المدينة منذ أغسطس. وبشكل مأساوي، في 7 سبتمبر، استهدف هجوم صاروخي عبّارة الركاب الوحيدة التي تبحر على مسار تمبكتو-باماكو على نهر النيجر، مما أدى إلى مقتل 49 شخصاً. وما زاد من الفوضى أن مطار تمبكتو واجه تهديدات أمنية، حيث سقطت ثلاث قذائف مدفعية على مقربة منه بشكل خطير، مما دفع سكاي مالي، شركة الطيران الوحيدة التي تخدم تمبكتو، إلى تعليق رحلاتها في 11 سبتمبر 2023. (وكالة الأناضول، 14 سبتمبر، 2023).
في أغسطس أيضاً، قال خبراء من الأمم المتحدة في تقرير إن متطرفي تنظيم داعش ضاعفوا تقريباً الأراضي التي يسيطرون عليها في مالي في أقل من عام. ويستفيد منافسوهم المرتبطون بتنظيم القاعدة من الجمود والضعف الملحوظ للجماعات المسلحة التي وقعت اتفاق سلام عام 2015، وأضافوا أن التنفيذ المتعثر لاتفاق السلام والهجمات المستمرة على المجتمعات أتاح لتنظيم داعش والجماعات التابعة لتنظيم القاعدة فرصة "لإعادة تمثيل سيناريو عام 2012".
لقد عززت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين مواقعها في منطقة ليبتاكو-غورما في الأشهر القليلة الماضية، وذلك بعد معارك وحشية مع ولاية الساحل التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية. وتستفيد كلتا المجموعتين من عدم كفاءة المجلس العسكري المالي ووحشيته، وهو أمر يؤدي إلى تنفير قطاعات كبيرة من السكان في شمال البلاد وجنوبها ووسطها، ويعمل تنظيم الدولة الإسلامية على كسب الدعم من السكان المحليين الساخطين.
بحسب ما ورد من أنباء فقد وافق المجلس العسكري المالي على وقف إطلاق النار مع تنظيم داعش، على أمل استعادة موقعه حول بلدة أنديرامبوكان، التي توفر موقعًا استراتيجيًا على الحدود النيجرية والطريق المؤدي إلى عاصمة النيجر. مع ذلك، لم يتمكن الجيش المالي من الحفاظ على وجوده في هذه المناطق. (The Soufan Center، 20 سبتمبر 2023).
خلاصات
من خلال ما سبق يتبين بأن الأمور تتجه إلى أن تكون أكثر تعقيداً في مالي والدول المجاورة لها، وذلك على وقع الدفع الروسي للسلطات الجديدة بالابتعاد عن الغرب وهذا ما تمثل بإخراج القوات الفرنسية والأممية. ومن المتوقع أن يعمل الجيش المالي على طلب المساعدة من التحالف الذي تم إنشاؤه لضبط الأوضاع في البلاد. لكن من المؤكد بأن جهود هذه السلطات لم تفلح خلال السنوات الماضية بحل هذه المعضلة حيث لم تتمكن من حسم المعارك عسكرياً، كما أنها لم تقدم على حل هذه الملفات سياسياً، بل على العكس فإن الحرب الطويلة بين الطرفين سمحت للحركات المعارضة بتقوية قدراتها.
إن الخطر الأبرز من كل ذلك هو استغلال التنظيمات الإرهابية لهذه التطورات، حيث أصبحت أفريقيا ومنطقة الساحل بشكل خاص مركزاً للنشاط الجهادي العالمي. وتقع مالي في قلب تلك المعركة وسط تحول التحالفات والاضطرابات السياسية في جميع أنحاء القارة. وفي ظل انحسار نفوذ تنظيم القاعدة وداعش في كل من سورية والعراق، فإن هناك فرصة للقاعدة وداعش لتوسيع منطقة نفوذ تمتد من منطقة الساحل إلى نيجيريا، عبر غابات الكونغو، وعلى طول الطريق إلى شواطئ أفريقيا والصومال.