في الرابع من سبتمبر أعلن مسؤول أمني كبير، أن إيران جهزت 51 من مدنها وبلداتها بأنظمة دفاع مدني لإحباط أي هجوم أجنبي محتمل، وسط تصاعد التوترات مع إسرائيل بشكل خاص.
نقلت وسائل إعلام إيرانية عن الجنرال مهدي فرحي نائب وزير الدفاع قوله إن معدات الدفاع المدني تمكن القوات المسلحة الإيرانية من "تحديد ومراقبة التهديدات باستخدام برامج تعمل على مدار الساعة وفقاً لنوع التهديد والخطر". وقال فرحي: "في هذه الأيام، بناءً على قوة الدول، أصبح شكل المعارك أكثر تعقيداً"، مضيفاً أن الأشكال الهجينة للحرب، بما في ذلك الهجمات الإلكترونية والبيولوجية والإشعاعية، حلت مكان الحروب الكلاسيكية. ولم يشر المسؤول إلى أسماء الدول التي يمكن أن تهدد إيران.
واتهمت إيران إسرائيل وأمريكا بشن هجمات إلكترونية في السنوات الماضية أضرت بالبنية التحتية للبلاد. كما اتهمت إيران إسرائيل، بتخريب منشآتها النووية، وهو ما لم تؤكده تل أبيب أو تنفه، حسبما ذكرت وكالة (Reuters) البريطانية. ويمنح النظام الإيراني أنظمة الدفاع المدني أهمية كبيرة في ظل تزايد الهجمات على منشآتها الحيوية في السنوات الأخيرة. وسبق أن دعا المرشد علي خامنئي مسؤولي الدفاع المدني إلى تعزيز الجهود للتصدي "لتسلل الأعداء"، قائلاً: "في مواجهة ممارسات العدو المعقدة، ينبغي لدفاعنا المدني.. التصدي للتسلل بإجراءات علمية ودقيقة وحديثة"، وفق وسائل إعلام إيرانية.
سنبحث في هذا المقال الأسباب التي تفسر قلق إيران من هجوم أجنبي في المرحلة الحالية، والأطراف التي تخشى إيران قيامها بمثل تلك الهجمات، مع التوقف عند أنواع الهجمات التي تقلق إيران. كذلك سنناقش التداعيات المحتملة لأي هجمات على إيران على الشرق الأوسط.
الأطراف التي تخشى إيران قيامها بمثل تلك الهجمات
تزامن الإعلان عن هذه الاستعدادات الخاصة بأنظمة دفاع مدني، مع تحذير القائد البارز في الحرس الثوري غلام علي رشيد، يوم السابع من سبتمبر، أن أي دولة تتورط في عدوان إسرائيلي على إيران "ستدفع الثمن"، وذلك بعد أن وصلت المحادثات بين طهران وواشنطن بشأن إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 إلى طريق مسدود.
ونقلت وكالة "تسنيم" الإيرانية عن غلام علي رشيد قوله: "يشكل النظام الصهيوني (إسرائيل) تهديداً رئيسياً لأمن إيران.. كل الحكومات التي ستتعاون مع هذا النظام في عدوانه على أمن إيران ستدفع الثمن". وهذه الرسالة قد تكون موجهة إلى أمريكا، والغرب عموماً، وكذلك إلى دول الخليج العربية.
وتعتبر إسرائيل، التي سبق أن حذرت من شن عمل عسكري ضد المواقع النووية الإيرانية إذا فشلت الدبلوماسية في كبح جماح أنشطة طهران النووية، أكثر الدول التي يتوقع أن تشن هجمات ضد أهداف أمنية وعسكرية ونووية وغيرها داخل إيران، وهو أمر لطالما قامت به، وإن كانت السيناريوهات المستقبلية بشأن تنفيذ مثل هذه الأعمال قد تكون مختلفة، سواء من حيث نوعية الأهداف وحجم الضربات.
وعلى الرغم من أن المسؤول الدفاعي الإيراني لم يذكر أسماء الدول التي يمكن أن تهدد إيران، إلا أن هذا الإعلان الإيراني يأتي مباشرة بعد إعلان إسرائيل عن شراء ناقلات للتزود بالوقود ستساعدها في مهاجمة المواقع النووية الإيرنية، حسبما ذكرت صحيفة (The Jerusalem Post) الإسرائيلية. وبالرغم من أنه من المرجح أن تصل الطائرات الأربع الجديدة في عام 2025، وهو ما يعني أنها لن تشارك في أي عملات عسكرية متوقعة ضد أهداف إيران قبل هذا الموعد، فإن أنباء شرائها تأتي في الوقت الذي يتحدث فيه المسؤولون في تل أبيب عن أن إسرائيل تحتفظ بحقها في العمل عسكرياً ضد مصادر التهديد في إيران حتى لو ذهب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إحياء الاتفاق النووي مع طهران مستقبلاً.
وقال وزير الدفاع الإسرائيلي غانتس، في بيان يوم الأول من سبتمبر، إن "طائرات التزود بالوقود التي نشتريها جنباً إلى جنب مع شراء سرب جديد من طراز (F-35) وطائرات هليكوبتر للنقل الثقيل وغواصات وأسلحة متطورة ستخدم الجيش الإسرائيلي وسط التحديات الهائلة، القريبة والبعيدة، التي على وشك أن نواجهها". إن ربط الحصول على هذه الأسلحة، بأي هجوم على إيران، يعني، كما سبق وذكرنا، أن هذا الهجوم قد لا يقع قبل أقل من عامين، وهو ما يفتح الباب أمام احتمال اقتناع إسرائيل بأن عقد اتفاق نووي بين واشنطن وطهران، قد يمنحها بعض الوقت للتحضير لأي عملية عسكرية مفتوحة ضد الأهداف النووية الإيرانية. وما قد يرجح هذا الخيار هو أن إسرائيل قد تأمل في أن يصل رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض في عام 2024، ولا يستبعد أن يكون من صقور إيران، كما هو حال الرئيس دونالد ترامب، وينسحب من الاتفاق النووي مرة أخرى: أمام هذا السيناريو سيكون أمام إسرائيل الرد على عودة إيران إلى تطوير برنامجها النووي والحصول على سلاح نووي. الرد سيكون عسكرياً، وفي وقت من المتوقع أن يكون لدى الإسرائيليين ما يكفي من الأسلحة والمعدات التي تمكنهم من القيام بمثل هذا الهجوم، الذي من المحتمل أن يكونوا بحاجة فيه إلى دعم خارجي.
الطرف الثاني المتوقع أن يقوم بعمل عسكري أو هجمات سيبرانية ضد أهداف إيرانية، هو أمريكا. وهذا الهجوم أو الهجمات المحتملة قد تكون بالتعاون الوثيق مع إسرائيل. وسيزيد احتمال حدوث مثل هذا السيناريو خلال ولاية الإدارة الأمريكية الحالية في حال انهارت المفاوضات النووية الجارية في فيينا - والتي لا تزال تواجه عقبات كبيرة بالرغم من اقترابها من مراحل نهائية- وذهبت إيران إلى استئناف تطوير برنامجها النووي كنتيجة لانهيار المفاوضات وعدم رفع العقوبات الأمريكية، بما يقربها أكثر من امتلاك سلاح نووي.
هنا من المفيد العودة إلى تعهد جو بايدن لرئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد في نهاية أغسطس الفائت، بأن أمريكا لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي. وقال البيت الأبيض في بيان إن "الرئيس شدد على التزام أمريكا بعدم السماح لإيران مطلقاً بامتلاك سلاح نووي" خلال اتصال بحث فيه أيضاً مع لابيد "التهديدات التي تشكلها إيران"، حسبما نشرت وكالة (Reuters). وهذا الموقف ليس وليد اللحظة بالرغم من مساعي بايدن الكثيفة لإعادة إحياء الاتفاق النووي. فخلال لقائه نظيره الإسرائيلي ريئوفين ريفلين في البيت الأبيض في يونيو 2021، كأول اجتماع يعقده مع مسؤول إسرائيلي كبير منذ توليه مهمامه الرئاسية، تعهد بايدن بأن إيران لن تمتلك السلاح النووي في عهده. وخاطب بايدن ريفلين قائلاً: "أستطيع أن أقول لك إن إيران لن تحصل أبداً على سلاح نووي وأنا في السلطة"، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية.
وبعد ذلك، وتحديداً في ديسمبر 2021، أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في اجتماع مع نظيره الإسرائيلي في واشنطن، أن إدارة بايدن "مستعدة للتحول إلى خيارات أخرى" لوقف برنامج طهران النووي إذا فشلت المحادثات الدبلوماسية في القيام بذلك. كما أكد البيت الأبيض أن الرئيس أمر موظفيه بإعداد "إجراءات إضافية" للتعامل مع الملف النووي الإيراني، في حين كشفت تقارير إعلامية عن المناقشات الأمريكية الإسرائيلية أن "الخيار الآخر" يقال إنه توجيه ضربة عسكرية مشتركة لمنشآت إيران النووية.
إمكانية تدمير الأهداف النووية داخل إيران
يقول البعض إنه من الصعب تدمير الأهداف النووية الإيرانية بالكامل لعدة أسباب. وهنا من المفيد إجراء مراجعة سريعة للضربات الإسرائيلية السابقة لمكافحة الانتشار النووي. استفاد هجوم الجيش الإسرائيلي على الموقع النووي السوري في دير الزور في سبتمبر 2007 من قرار سريع مما وفر عنصراً رئيسياً من المفاجأة. واعتمد الموقع النووي السوري فقط على التمويه والإخفاء لأن بشار الأسد كان قد قدر أن السرية ستوفر أكبر قدر من الحماية للمشروع. وجعل هذا التقييم المشروع عرضة للكشف الاستخباراتي. ولم يقتصر الأمر على أن المفاعل السوري لم يكن لديه حماية من صواريخ أرض - جو "SAM"، ولكنه كان أيضاً محصناً بشكل معتدل وموجود فوق الأرض.
كان مفاعل أوزيراك في العراق، الذي استُهدف في غارة إسرائيلية عام 1981، هدفاً سهلاً وانفرادياً بالمثل. بالإضافة إلى أنظمة "SAM" العراقية سيئة الإعداد، جاءت الضربة الإسرائيلية في خضم الحرب الإيرانية العراقية، في وقت كانت أنظمة الدفاع الجوي المركزية العراقية منشغلة باستمرار بسبب القصف الجوي الشديد لإيران.
أعطى هذا لإسرائيل إمكانية التستر على الهجوم وكذلك مفاجأة تكتيكية حيوية حول اتجاهها.
لا يتطابق أي من هذه الشروط مع الوضع الحالي لإيران، وسيحدث هجوم أمريكي-إسرائيلي في بيئة استراتيجية مختلفة اختلافاً جوهرياً، ولن يكون هناك أي استفادة من عنصر المفاجأة، حيث تستعد إيران منذ سنوات لمثل هذه الضربات المحتملة ضد مواقعها المحصنة بشكل كبير. وتنتشر أبحاث إيران، وإنتاج أجهزة الطرد المركزي، وتعدين اليورانيوم ومعالجته، ومنشآت إنتاج الأسلحة المحتملة على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد. علاوة على ذلك، يستفيد الإيرانيون من مستويات مختلفة من التشديد وأنظمة الدفاع الجوي وإجراءات الحرب الإلكترونية. وتقع منشأة نطنز على عمق 20 متراً تحت الأرض، وفوردو تحت 80 متراً من الصخور في الجبال. هذه أهداف صلبة ومدفونة، مما يعقد الاستهداف والتخطيط التشغيلي ويؤثر سلباً على معدلات النجاح التشغيلي، حسب تحليل نشره مركز (Middle East Institute) الأمريكي في يناير 2022.
وتعتبر مثل هذه العملية حملة عسكرية واسعة النطاق. ووفقاً لخدمة أبحاث الكونغرس، ستحتاج القوات الجوية الإسرائيلية أو الأمريكية إلى مئات الطائرات وآلاف الطلعات الجوية لتوصيل ما يكفي من القنابل على أهداف متعددة بالإضافة إلى الحفاظ على الاستدامة التشغيلية لإجراء تقييم ما بعد الضربة للنجاح. بالإضافة إلى ذلك، قد تتطلب العملية الهجومية، وخاصة فوردو، أكثر من ضربة واحدة لضمان التدمير الفعال.
وستحتاج أمريكا وإسرائيل أيضاً إلى تصميم خطة لتعمية نظام الدفاع الجوي الوطني الإيراني في جميع أنحاء البلاد نظراً لعمق المواقع النووية داخل إيران. ومع ذلك، استثمرت طهران بشكل كبير في أنظمة الدفاع الجوي أيضاً. لقد جعلتها مشتتة جغرافياً، وخلقت صواريخ سام سلبية لامركزية ومرنة للتشويش، وحسنت قدرتها على الحرب الإلكترونية بمساعدة روسية، وتستخدم بطاريات أصلية غير معروفة. وهي تشغل بنية متعددة الطبقات من المدى القصير إلى الطويل، محلية الصنع إلى الإصدارات المستوردة من صواريخ سام. هناك القليل من البيانات حول قدراتها التشغيلية وبعض الإصدارات، مثل Bavar-373 وأنظمة 3-Khordad SAM الجديدة ، غير معروفة في الغالب، على الرغم من أن 3-Khordad أسقطت RQ-4A الأمريكية في عام 2019. قمع هذه الأصول ليس بعيداً عن عملية صغيرة الحجم مثل الحالتين السورية والعراقية.
ولتجاوز هذه العقبات، أو بعضها، يرى تحليل نشره مركز (American"Enterprise Institute) الأمريكي المحافظ في يوليو 2022، أن ضرب العديد من الأهداف وتمكين التزود بالوقود للسماح بعودة الطيارين سيتطلب أولاً تحييد المطارات الإيرانية وبطاريات الصواريخ المضادة للطائرات ومراكز القيادة والسيطرة الخاصة بها". ولأن العديد من المواقع النووية الإيرانية تحت الأرض، فإنه "مع استخدام صواريخ كروز لتخفيف الضغط على الطيارين، فإن ذلك يعني أيضاً طلعات جوية متعددة لضمان تدمير المنشآت. وقد تحتاج إسرائيل أيضاً إلى إدخال بعض وحدات القوات الخاصة في إيران للقضاء على الأفراد الرئيسيين (وكذلك تحريك شبكتها الاستخباراتية الواسعة في الداخل الإيراني)، ورسم الأهداف وتقييم الأضرار جراء العملية.
إلى أي حد يمكن أن تحبط الهجمات البرنامج النووي الإيراني؟
خلال أشهر الصيف الفائت، نقلت الصحافة الغربية، والأمريكية بشكل خاص، عن مصادر مطلعة في تل أبيب، أن إسرائيل بدأت بتكثيف حملتها لإحباط برامج إيران النووية والصاروخية والطائرات بدون طيار من خلال سلسلة من العمليات السرية التي تستهدف مجموعة أوسع من الأهداف الرئيسية. وجاءت تلك التحركات كأحدث تطور لاستراتيجية أطلق عليها رئيس الوزراء نفتالي بينيت "عقيدة الأخطبوط"، والتي تهدف إلى جلب معركة إسرائيل ضد إيران إلى الأراضي الإيرانية بعد سنوات من استهداف عملاء إيرانيين ووكلاء طهران خارج البلاد في المنطقة، وخاصة في سوريا.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة (The Wall Street Journal) الأمريكية، في يونيو الماضي، فقد "صعدت إسرائيل حملتها في العام الماضي، بضربات بطائرات مسيرة صغيرة لضرب منشآت نووية إيرانية، وهجوم على قاعدة إيرانية للطائرات بدون طيار، بحسب الأشخاص المطلعين على الحملات"، مضيفة أن "الوفيات الأخيرة لعدد صغير من الإيرانيين المشاركين في برامج الأبحاث النووية والعسكرية في البلاد أثارت تساؤلات حول ما إذا كانت إسرائيل مسؤولة عن مقتلهم".
لكن في الوقت نفسه يقول محللون إن التصعيد المستمر منذ سنوات يشير إلى أن الحملة السرية الإسرائيلية فشلت في وقف أو إلحاق ضرر كبير بقدرة إيران على تطوير سلاح نووي. وهذا في الواقع قد يدفع إسرائيل في نهاية المطاف إلى شن حرب عسكرية علنية ومفتوحة ضد الأهداف النووية الإيرانية، وهي بحاجة لموافقة أمريكا ودعمها، لتنفيذ عملية من هذا النوع. فقد سلطت النقاشات الأخيرة الضوء على محدودية القدرات العسكرية لإسرائيل لتنفيذ هجوم واسع ضد المواقع النووية الإيرانية وهو ما يعني أن أي عملية واسعة، لا تكتيكية/وقائية، ستتطلب تعاوناً أمريكياً.
لكن هناك انقسام شديد في واشنطن وتل أبيب حول الحل العسكري بين أولئك الذين يجادلون بأن التهديد بالحرب والضربة العسكرية ضد المواقع النووية يمكن أن يكون حلاً وأولئك الذين يجادلون بأن العمل العسكري لن يؤدي إلا إلى تسريع برنامج إيران النووي. هذا الاختلاف في الرأي هو أيضاً جوهر الاختلاف في تقييمات المخابرات الأمريكية والإسرائيلية.
ما هو واضح أنه من غير المرجح أن تتخلى طهران عن برنامجها النووي في حال لم تتمكن الضربات العسكرية من تدمير المواقع الرئيسية الإيرانية. من وجهة النظر هذه هناك حدود عملياتية جادة لنجاح مثل هذه العملية التي ستمكن طهران في النهاية من إعادة تشغيل مناطق رئيسية من نشاطها النووي، بعد الهجوم. وقد تكون الضربة العسكرية حافزاً لبناء تقييم لصالح الفوائد الأمنية لامتلاك قنبلة نووية، ما يؤدي في النهاية إلى تفاقم ديناميكيات عدم الانتشار في المنطقة. ويتفق تحليل (American Enterprise Institute) المذكور مع الرأي القائل بأن مشكة الضربة العسكرية الإسرائيلية المحتملة والتي "لا تطيح بالنظام" الإيراني، هو "أنها ستؤخر الاختراق النووي الإيراني لكنها لن تنهيه".
الحرب السيبرانية
تكمن نقاط ضعف إيران في أنها لا تواجه فقط واحدة من أقوى الدول في الحرب السيبرانية، إسرائيل، بل إن الأخيرة تتلقى دعماً قوياً من أمريكا، أقوى دولة بالعالم في التكنولوجية السيبرانية، في هذه الحرب. كما أن إيران تملك أهدافاً عالية الحساسة تركز عليها إسرائيل، بدعم من الأمريكيين، مثل المواقع النووية. وبخلاف الهجمات السيبرانية الإيرانية، التي حققت نجاحاً محدوداً ضد إسرائيل، أظهرت الهجمات الإسرائيلية ضدها أنها أكثر فعالية. وفي حين لم يتضح بعد حجم الخسائر الناجمة عن الهجمات السيبرانية التي استهدفت منشأة نطنز، زعمت الخارجية الإيرانية بأنه لا توجد خسائر في الأرواح البشرية، ولم يتم رصد أي تسريب لإشعاعات، وهناك عدة مؤشرات تظهر أن الخسائر أكبر مما صرحت به الخارجية الإيرانية. فبحسب تقارير إعلامية عديدة، أشار مصدر استخباراتي أمريكي إلى أن الهجمة قد تُعيد البرنامج النووي الإيراني 9 أشهر إلى الخلف- فور دخولها الخدمة دليلاً على أن البرنامج النووي الإيراني منكشف لدى الإسرائيليين من قبل، وذلك عبر أحد سيناريوهين: الأول- ستاكسنت: استهداف نظم التحكم الصناعي يضع افتراضية أن الجيل الثاني من برمجية ستاكسنت، التي قد تكون متصلة بالإنترنت على عكس الجيل الأول، قد دخلت الخدمة بالفعل، وإن لم تكن متصلة بالإنترنت، فعلى الأقل هناك جاسوس داخل المنشأة أعطى أوامر للبرمجية بالتشغيل. الثاني- ثغرات صفرية: إن لم يكن ستاكسنت أو إحدى البرمجيات الأكثر تطوراً، فعلى الأقل هناك ثغرات صفرية معروفة لدى الإسرائيليين في نظم التحكم الصناعي الموجودة بالمنشأة النووية، تم رصدها من قبل وتحديدها واستغلالها في الهجمة مؤخراً. كما أن استهداف نظم إمداد الكهرباء قد يؤدي إلى خروج عدد كبير من أجهزة الطرد المركزي عن الخدمة.
وبالرغم من ذلك، فإن توقف الهجمات السيبرانية الإيرانية منذ هجوم نطنز، يحيلنا إلى فرضيتين: الأولى، أن الإسرائيليين يعملون بشكل سري جداً، قد يكون بالتعاون مع الأمريكيين، على التحضير لهجمات سيبرانية قوية في المستقبل من شأنها أن توقع أضراراً كبيرة بالبرنامج النووي الإيراني. الثانية، هي تطور القدرات الدفاعية السيبرانية الإيرانية وإغلاق الثغرات التي سبق أن استغلها الإسرائيليون في هجماتهم السابقة، وبالتالي تعقيد مهمة تل أبيب في استهداف هذه المواقع النووية، في الوقت الراهن على الأقل.
الرد الإيراني
استثمرت طهران بالفعل مليارات الدولارات بالإضافة إلى رأس مال سياسي وأمني كبير في مشاريعها النووية. وفي الدعاية المحلية، اعتبرت قدرة إيران النووية مصدر فخر وطني وأحد النجاحات الرئيسية للثورة الإسلامية. بالإضافة إلى الإذلال الذي قد يسببه العمل العسكري ضد إيران، فإن التحول الفوري في السياسة في أعقابه سيكون له تكاليف سياسية كبيرة على نظام الجمهورية الإسلامية أيضاً. ولن يكون ضبط النفس الذي يمارسه صناع القرار في طهران، حتى اللحظة، لحفظ ماء الوجه، خياراً، لأنه لن يكون هناك إنكار معقول لأمريكا /أو إسرائيل. وبالتالي، فإن الإذلال العلني الناجم عن الهجمات على المواقع النووية الإيرانية من شأنه أن يضع خامنئي تحت ضغط سياسي هائل للرد. وبحسب تحليل نشره مركز (American Enterprise Institute) الأمريكي المحافظ في يوليو 2022، فإن "الجانب السلبي لمثل هذه الضربة العسكرية، هو أنها ستبرر الخطاب الإيراني حول حاجة إيران إلى أسلحة نووية. وقد يلتف الإيرانيون أيضاً حول النظام. كانت الثورة الإسلامية تتأرجح عندما هاجم الديكتاتور العراقي صدام حسين وسمح لآية الله روح الله الخميني بتعزيز سلطته.
وهناك العديد من السيناريوهات المحتملة للرد الإيراني:
في حال كانت الهجمات غير مدمرة للبرنامج النووي الإيراني، قد تعمل إيران على اتخاذ عدد من الخطوات العسكرية والنووية. والعودة إلى إشعال التوترات في مضيق هرمز، وضرب أهداف أمريكية في العراق وسوريا، إلى جانب اتخاذ المزيد من الإجراءات السياسية والتشريعية والفنية والتقييدية التي تؤدي في النهاية إلى توسيع أنشطتها النووية. كما ذكرت "مجموعة الأزمات الدولية"، فقد تضمن الرد على اغتيال محسن فخري زاده في 27 نوفمبر 2020 صدور مشروع قانون في البرلمان الإيراني يفرض "بدء تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% وتراكم 120 كجم سنوياً على هذا المستوى؛ 500 كجم من إنتاج اليورانيوم المخصب شهرياً؛ وتركيب أجهزة طرد مركزي إضافية من طراز IR-2 وIR-6؛ وإطلاق مصنع فلز اليورانيوم في غضون خمسة أشهر، وبدء العمل فيه؛ والتحضير لإعادة مفاعل الماء الثقيل في أراك إلى التكوين السابق لخطة العمل الشاملة المشتركة؛ وتعليق تنفيذ البروتوكول الإضافي لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إذا لم يقدم الموقعون على خطة العمل المشتركة الشاملة على أي تخفيف للعقوبات في غضون شهرين من سن القانون".
كذلك كانت الاستجابة لاستهداف منشأة نطنز في أبريل 2021 قراراً مشابهاً لتخصيب 60٪ من اليورانيوم وإعادة بناء ورشة عمل محمية جديدة في نفق أسفل الجبل.
وبحسب تحليل نشره مركز (Middle East Institute) الأمريكي في يناير 2022، فقد "أتاح الهجوم على نطنز لإيران فرصة فريدة لاختبار قدراتها التقنية للتخصيب بالقرب من مستوى الأسلحة وجعل منشآتها مقاومة لمحاولات التخريب المحتملة في المستقبل". وبحسب التحليل المذكور فقد "ردت إيران في أعقاب عملية التخريب ضد مصنع إنتاج أجهزة الطرد المركزي في كرج في يونيو 2021 بمنطق مماثل. وألحق التخريب أضراراً بالمنشأة وأوقف إنتاجها لكنه تسبب أيضاً في تعمية كاميرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولكن بعد استئناف أنشطتها في الموقع بعد شهرين تقريباً، مُنعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية من تركيب كاميرات جديدة".
ويرى تحليل (Middle East Institute) أنه "بهذه الطريقة، أظهر القادة الإيرانيون قدرتهم على صياغة إجماع محلي واستعداد سياسي لتصعيد التوترات واستخدام سياسة حافة الهاوية عندما تكون التهديدات للنظام عالية. وتمكن المعرفة النووية المحلية لطهران من إعادة بناء المنشآت المدمرة وإعادة بناء برنامج أقوى. ومع ذلك، يمكن القول إن رد طهران قد يشمل أكثر من مجرد عدد من الإجراءات التكتيكية، أو القيود على الوكالة الدولية للطاقة أو إعادة النظر في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية".
لكن في حالة سيناريو الهجوم الواسع على المواقع النووية الإيرانية وإلحاق أضرار كبيرة بها، وما يتبع ذلك من مواجهات عسكرية مسلحة، من المرجح أن تعتمد استراتيجية طهران على استخدام ترسانتها العسكرية والبشرية وصد جوي باستخدام الأراضي السورية والعراقية لاستهداف الطائرات الإسرائيلية. وهنا قد يصبح الوضع أكثر تعقيداً. وقد تستهدف عبر قدراتها الصاروخية وطائراتها المسيرة، وباستخدام وكلائها، الأهداف الأمريكية في الخليج، بالتزامن مع فتح جبهات واسعة ضد إسرائيل من لبنان وغزة وحتى من سوريا واليمن. ولا يستبعد بعض المحللين، بالرغم من التقدم الحاصل في العملية الدبلوماسية بين دول الخليج العربية وإيران، أن ترد الأخيرة على على السعودية والإمارات عبر صواريخ الحوثيين وطائراتهم بدون طيار.
كذلك من المحتمل أن ترد إيران باستهداف المواقع النووية الإسرائيلية. وهذا يعني أن المخططين الأمريكيين والإسرائيليين سيحتاجون إلى إيجاد طريقة لتحييد قدرة الهجوم الإيراني. كل هذا يضاف إلى وصفة لسيناريو حرب شاملة لا يمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال بالعمليات الإسرائيلية منخفضة التكلفة في العراق وسوريا.
الرد الإيراني السيبراني
في سياق استراتيجيتها الساعية إلى تعويض نقاط ضعفها في الاقتصاد والأمن والدفاع، خاصة في ظل العقوبات الغربية التي أدت إلى تدهور اقتصادها وقدرته على التأثير في الخارج، عززت إيران من انخراطها في السلوك غير المشروع الذي يستهدف خصومها ومنافسيها الإقليميين والدوليين. ولزيادة الضغط على منافسيها اعتمدت إيران غالباً على الاستراتيجيات التي وصفها الكثيرون بأنها "حرب ناعمة": وسائل أقل تنظيماً وغير متكافئة لتحقيق أهدافها في الخارج عبر الحفاظ على صراعات منخفضة المستوى لفترات طويلة من الزمن. إحدى الاستراتيجيات الأساسية لإيران في هذا الصدد هي الحرب الإلكترونية، بما في ذلك العديد من الهجمات -بدرجات متفاوتة من النجاح- ضد أهداف القطاعين العام والخاص في البلدان المتنافسة أو المعادية، كإسرائيل.
وتمثل الضربات السيبرانية ضد مواقع في إسرائيل، التي تعد أحد أبرز أهداف الهجمات الإيرانية، دليلاً على تطور قدرات إيران في هذا المجال، وإن كانت طهران تعاني في المقابل من الهجمات الإسرائيلية الأكثر ضرراً. فعلى مدار العامين الماضيين، اخترقت جهات إيرانية عشرات الشركات في إسرائيل بهجوم واحد من برامج الفدية، ومن الأمثلة على هجمات إيران، توقف عدة مواقع حكومية إسرائيلية في مارس الماضي، جراء هجوم سيبراني وُصف بأنه "الأكبر ضد إسرائيل"، بحسب ما أفادت الهيئة الوطنية للأمن السيبراني الإسرائيلي، حيث شملت الهجمات السيبرانية المكثفة التي استمرت لنحو ساعة ونصف الساعة، وزارات وهيئات رسمية مختلفة، بما فيها الصحة والعدل والرعاية الاجتماعية والداخلية ومكتب رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت.
وفي يونيو الفائت، نفذت إيران هجوماً إلكترونياً على أنظمة الإنذار المبكر الإسرائيلية في مدينتي تل أبيب وإيلات. وفي الشهر نفسه استهدف المتسللون مسؤولين إسرائيليين سابقين وعسكريين وسفيراً أمريكياً سابقاً في إسرائيل. وذكرت شركة أمن إلكتروني إسرائيلية أن الجهات الفاعلة المرتبطة بإيران استخدمت حملة تصيد للوصول إلى صناديق البريد الوارد الخاصة بالأهداف ومعلومات التعريف الشخصية ووثائق الهوية. ويقول مركز (The Institute for National Security Studies) الإسرائيلي في تحليل نشره في يناير 2022، إنه "رغم أن الهجمات الإيرانية ليست معقدة من الناحية الفنية، إلا أن بعضها ناجح بما يكفي لتمثيل عمليات التأثير. وينبع نجاحها من انخفاض مستوى الأمن وعدم كفاية الوعي بالحاجة إلى الاستثمار في الدفاع السيبراني للقطاع الخاص المدني في إسرائيل، فضلاً عن الاهتمام الكبير في وسائل الإعلام الإسرائيلية بالهجمات".
ومن هنا، يمكن القول إن إيران تعمل بكثافة استعداداً للمواجهات السيبرانية المستقبلية، وإن كانت قدراتها لا تزال ضعيفة مقارنة مع إسرائيل، التي يتم تصنيفها ثاني قوة سيبرانية في العالم، بعد أمريكا.
توقعات
لا توجد رغبة أمريكية للقيام بعمل عسكري ضد إيران على المدى المنظور، إلا ربما في سيناريو اختراق نووي إيراني واضح. وقد تتجنب إيران الوصول إلى هذه الحافة لتجنب هجوم أمريكي. مثل هذا السيناريو يمكن أن يترك إسرائيل وحيدة في مواجهة تهديد متصاعد أكبر مما ينبغي لها. وتأخذ إسرائيل في الاعتبار أن دول الخليج العربية لن تشاركها أي عملية عسكرية ضد إيران، وقد تعارض بعضها مثل هذه الحرب، خاصة في حال لم يكن أي هجوم إسرائيلي مدعوم من قبل الإدارة الأمريكية.
استناداً إلى ما سبق، يمكن القول إن التعقيدات التي تواجه إسرائيل لمهاجمة برنامج إيران النووي تدفع الكثير من المحللين إلى القول إن أقصى ما يمكن أن تقوم به تل أبيب، في حال لم تشارك أمريكا بقوة وبشكل علني في هذا الهجوم، هو تنفيذ بعض الضربات الوقائية. بخلاف ما فعلته إسرائيل ضد العراق في عام 1981 وضد سوريا في عام 2007، ومن المهم القول إن الوضع بالنسبة لإيران مختلف جداً: بخلاف البلدين العربيين، فإن البرنامج النووي الإيراني منتشر في جميع أنحاء البلاد وسيشمل أكثر من عشرة أهداف، بعضها محصن بالفعل. كما أن إيران، التي تبلغ مساحتها أربعة أضعاف حجم العراق ونحو تسعة أضعاف مساحة سوريا، أكبر وأبعد من الدولتين (وهذا قد يجعل الحاجة للقواعد الأمريكية في الخليج حاسمة في الدعم اللوجستي، وهو أمر ليس من الواضح إن كانت السعودية أو قطر أو الإمارات أو البحرين ستكون راغبة في تقديمه).