خلال قمة مجموعة العشرين في الهند العام الماضي، استضاف رئيس الوزراء ناريندرا مودي قمة افتراضية بعنوان "صوت الجنوب العالمي للتنمية التي تركز على الإنسان"، أعلن خلالها أن بلاده ستكون صوت الجنوب العالمي، وأوضح أجندته التي تمثلت في الدفع بقضايا مهمة، مثل الإقراض المستدام، والأمن الغذائي، والبنية التحتية الصحية، وإصلاح البنوك المتعددة الأطراف، والتغير المناخي، ومعالجة قضايا التنمية والحوكمة، لتلعب نيودلهي بذلك دور الوسيط بين شركائها الاستراتيجيين في الغرب ودول العالم الثالث.
ونتيجة لذلك، فقد تم إعطاء قدر كبير من الاهتمام لهذه المسألة، خاصة وأنها تنافس بذلك الصين في قيادة الجنوب العالمي، على الرغم من الفرق الكبير بين دورهما التاريخي وتغير موقعهما اليوم في السياقين الجيوسياسي والاستراتيجي. فما هو الجنوب العالمي؟ ولماذا تطورت فكرة السيطرة عليه؟ وهل ترحب الدول التي تقع في نطاقه بالهند أو الصين كصوت لها؟ وما التحديات المرتبطة بقيادته؟
الجنوب العالمي
"الجنوب العالمي" Global South هو تصنيف وصفي لدراسة قضايا البلدان النامية على الصعيدين الدولي والمحلي. وعلى الرغم من عدم دقة هذا التعريف، ولكنه حسب الوصف الاستعماري القديم يمثل الدول التي كانت تخضع للاحتلال الغربي، وبمعنى أدق "العالم الثالث". ولكن الدكتورة مانجاري تشاترجي ميلر الأستاذ المشارك في جامعة بوسطن، حددت مفهوم الجنوب العالمي لصحيفة هندوستان تايمز في 29 يناير 2024، بأنه لا يمثل نطاقا جغرافيا لدول بعينها، بل يمثل مجموعة من البلدان المصنفة على أنها منخفضة أو متوسطة الدخل، وتشمل العديد من بلدان شمال إفريقيا وأميركا اللاتينية، وجميعها تقع في نصف الكرة الشمالي.
ومن المعروف أن تصنيف المجتمع الدولي تم في عام 1952 من قبل عالم الديموغرافيا الفرنسي ألفريد سوفي، الذي قسمه إلى عوالم يفصل بينها الدخل والأيديولوجية. حيث كان العالم الأول يتألف من الغرب الرأسمالي، والثاني يتألف من الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه الاشتراكيون، أما الثالث فيمثل الدول التي تم إنهاء احتلالها والفقيرة. وفي عام 1969 أطلق الناشط اليساري الأميركي كارل أوجليسبي على العالم الثالث اسم "الجنوب العالمي"، عندما أعرب عن أسفه لـ"هيمنة الشمال على الجنوب العالمي".
ويعد مؤتمر آسيا-إفريقيا الذي انعقد في باندونغ بإندونيسيا عام 1955 من أوائل اجتماعات الجنوب العالمي. ولم يشمل الحضور فقط الدول التي نعتبرها اليوم جنوبا عالميا، ولكن أيضا دولا مثل السعودية والأردن وتركيا (ذُكرت وقائع المؤتمر في موقع ديلي نيوز - سريلانكا، في 13 مايو 2012). وكانت تطلعات الصين والهند آنذاك لقيادة هذا القسم من العالم مصدر احتكاك بينهما. وتنافست الصين ممثلة برئيس مجلس الدولة آنذاك تشو إن لاي والهند ممثلة برئيس الوزراء جواهر لال نهرو لعرض أوراق اعتمادهما الحقيقية في مكافحة الاستعمار، وقدرتهما على مناصرة الدول التي تحررت. وبعد باندونغ، برزت الهند باعتبارها الصوت الرائد لحركة عدم الانحياز. أما الصين، فقد بدأت دورها في تقديم المساعدات للعديد من دول العالم الثالث المحررة. ولكن بعد الحرب الباردة، أصبحت مناهضة الاستعمار وحركة عدم الانحياز أقل أهمية كحلقة وصل مشتركة بين دول الجنوب العالمي. كما تم استبعاد السعودية من هذا المصطلح، نظرا لثرواتها النفطية.
وعن التحول المنظم للجنوب العالمي من مجرد مصطلح إلى كيان معترف به، ذكرت الباحثة أليسيا أميجيني على موقع المعهد الإيطالي للسياسات الدولية في إبريل 2024، أن ذلك تم في عام 1964 بعد إنشاء مجموعة الـ77، أو ما يعرف بالإعلان المشترك للدول السبع والسبعين النامية الصادر في ختام الدورة الأولى لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في جنيف. ولا تزال أكبر منظمة حكومية للبلدان النامية توفر وسيلة للتعبير عن مصالحها الاقتصادية الجماعية وتعزيز قدرتها التفاوضية بشأن قضايا الاقتصاد الدولية الرئيسية، مع استمرار فكرة معارضة الهيمنة الغربية. وقتئذ بدأ التنافس الفعلي بين الصين والهند على قيادة الجنوب العالمي.
وبناء على ذلك، فإن هذا المصطلح، برز في الأدبيات والدوائر السياسية المتعلقة بالتجارة والتنمية الدولية كوسيلة لتحديد محيط الاقتصاد العالمي، أي مجموعة البلدان النامية، التي تهيمن عليها إلى حد كبير مجموعة من البلدان الصناعية الناشئة، كالصين والهند.
التنافس الهندي الصيني على القيادة
خلال العقود الأخيرة أصبح الجنوب العالمي عنصرا أساسيا في سياسة بكين الخارجية. ومن خلال مبادرة الحزام والطريق تم تسهيل منح القروض والاستثمارات للاقتصادات النامية، وقدمت الصين نفسها كبديل للنظام الأميركي في جنوب العالم. كذلك قدمت الهند - العاجزة عن مجاراة الاستثمارات والتمويل الصيني – نفسها باعتبارها الدولة التي تتفهم مصالح هذا القطاع، وتحظى أيضا بآذان الغرب. ولكن هل تبقى قبضة الصين قوية على الجنوب العالمي أم تتراخى لصالح الهند؟
لقد ظلت الصين تتودد إلى البلدان النامية المحبطة من سياسات الغرب، وركزت على تنميتها من خلال التجارة والقروض ومشاريع البنية التحتية، حيث أرسلت مليارات الدولارات إلى الدول الفقيرة طامعة في قيادتها وتحقيق مصالحها فيها. لكنها في الوقت ذاته أصبحت تواجه منافسة قوية من الهند على قيادة العالم الثالث، والتي قدمت نفسها كزعيم من نوع مختلف للدول النامية، وفي وضع سياسي أفضل من الصين في عالم يتزايد فيه الاستقطاب.
وللهند أصوات مدافعة عنها في المحافل الإعلامية الدولية، حيث صرح كيشور محبوباني، السفير السنغافوري السابق لنيويورك تايمز في 12 سبتمبر 2023، بأن هناك تحولات هيكلية تحدث للنظام العالمي، وأن قوة الغرب آخذة في الانخفاض، وثقل وقوة الجنوب العالمي آخذ في الازدياد. وقال إن دولة واحدة فقط يمكن أن تكون جسرا بين الغرب وبقية العالم، وهي الهند.
وفي وقت يبدو فيه أن حربا باردة جديدة تدور بين الولايات المتحدة والصين، فإن خطاب الهند أصبح يتمتع بجاذبية واضحة. فلا تحظى واشنطن ولا بكين بشعبية خاصة بين الدول النامية. كما تتعرض الولايات المتحدة لانتقادات بسبب تركيزها على القوة العسكرية أكثر من المساعدات الاقتصادية. وقد أثار الجزء المميز من التواصل الصيني (القروض المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق) ردود فعل عنيفة، حيث قاومت بكين إعادة التفاوض على الديون الساحقة، وتركت العديد من البلدان تواجه خطر التخلف عن السداد، وهو ما أوضحناه في دراسة سابقة للمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية بعنوان "الحزام والممر".
وفي الواقع، مع النمو السريع الذي يشهده الاقتصاد الهندي وبحث الغرب عن حلفاء لمواجهة الصين، تجد نيودلهي نفسها في موقف بالغ الأهمية. فعندما قرر الزعيم الصيني شي جين بينغ عدم حضور قمة مجموعة العشرين العام الماضي، اعتبر البعض ذلك دليلا على أن بكين لم تعد مهتمة بتشكيل النظام العالمي بقدر اهتمامها باستبداله. وبهذا، كان لدى الهند فرصة، ركزت خلالها على أشكال نفوذها. ومع نمو اقتصادها، قامت بتوسيع تجارتها مع الجنوب العالمي، واعتمدت على جالياتها الكبيرة الناجحة.
وفي اعتقادنا أن الاختلاف بين الرغبات الصينية والهندية في قيادة الجنوب العالمي واضح تماما، فالصين غزت هذا الجنوب بمشروعات الحزام والطريق، ولا تستطيع الهند منافستها في ذلك، خاصة مع وجود اختلاف بين أهدافهما الاستراتيجية لإصلاح النظام العالمي، فالصين تريد مشاركة واشنطن في قيادة العالم، أما الهند فترغب في تعاون الشمال والجنوب، وإصلاح النظام العالمي دون منافسة واشنطن على القيادة.
ولكن هل تشعر بكين بالقلق؟ فمن المؤكد أنها تعتبر الهند منافسا رئيسيا، خاصة في آسيا، ولكن ليس من حيث قيادة الجنوب العالمي. فهي واثقة من أن الهند لا تستطيع التنافس معها في المجالات الرئيسية التي تهم البلدان النامية. وهي لا تنوي التنازل عن وضعها في تلك الدول، لكنها ستظل حذرة من ميل نيودلهي نحو الغرب كوسيلة لاحتواء صعود الصين. وهو ما تعكسه رؤية الإعلام الصيني لهذا التنافس، وعلى سبيل المثال، جاء في مقال لصحيفة جلوبال تايمز، الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الصيني، في 10 سبتمبر الماضي، أن الغرب بقيادة واشنطن يريد استخدام الهند لتقسيم الجنوب العالمي، وإضعاف مكانة الصين فيه.
صعود الجنوب العالمي وتحديات المنافسة
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، أدى الدور المتزايد الذي تلعبه الاقتصادات الناشئة الكبيرة في التجارة والاستثمار الدوليين إلى الاهتمام بسبل التعاون بين بلدان الجنوب العالمي، وتحقيق التكامل الاقتصادي داخلها، بزيادة التفاعل والاعتماد المتبادل والتحول الهيكلي، والانخراط في تدفقات الاستثمار والتجارة مع البلدان المتقدمة، وتطوير قوة اقتصادية وسياسية تساهم في ظهور إنتاج وتجارة أكثر تعددا.
وبشكل أكثر تحديدا، وحسب تقرير نُشر مؤخرا للمعهد الإيطالي للسياسات الدولية، بلغت الحصة العالمية من صادرات الصناعات التحويلية الناشئة في الجنوب العالمي 47% في عام 2015. كما أن الاتجاه السائد لتدفقات التجارة العالمية لهذه الدول، لم تعد موجهة للعالم المتقدم فحسب، بل تدفقت بين الجنوب والجنوب، بعد أن نما ليصبح مركزا مستقلا نسبيا للقوة الاقتصادية العالمية.
ووفقا للتقرير، يعكس التوزيع الجغرافي للناتج المحلي الإجمالي العالمي مع مرور الوقت باقتدار ظاهرة "صعود الجنوب"، حيث كانت البلدان النامية مسؤولة عن زيادة سريعة في حصص الناتج المحلي الإجمالي العالمي من حوالي 15% في أوائل السبعينيات إلى أكثر من 40% بحلول عام 2022، وتأثرت النسب قليلا مع جائحة كوفيد-19. لكنها بدأت خلال عامي 2023 و2024 تتزايد مرة أخرى تدريجيا. وكان هذا مدفوعا بشكل خاص بالتنمية الاقتصادية السريعة في دول آسيا. وقد بدأت حصة الصين في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تنمو بأكثر من 3% بعد عام 1997، وارتفعت إلى 18% بحلول عام 2022، وهو ما لم تستطع الهند أن تجاريها فيه. وعلى النقيض من آسيا، لم تشهد البلدان النامية في إفريقيا وأميركا اللاتينية نموا ملحوظا. ويبدو أن صعود الجنوب في الناتج المحلي الإجمالي العالمي كان مدفوعا بمشاركة آسيوية أكبر بكثير في التجارة العالمية.
على أية حال، تكمن التحديات الرئيسية التي تواجه الهند والصين والتي تحسم مسألة قيادة الجنوب العالمي، في مدى قدرة كل منهما على توفير التدفقات المالية الخارجية للدول النامية، التي تجعل من الممكن استيراد تكنولوجيا تؤدي إلى تراكم أسرع للمعرفة وزيادة إنتاجية العامل الإجمالي، وتحسين كفاءة الشركات المحلية لمنافسة نظيراتها في الدول المتقدمة. كما يشكل جلب الاستثمار الأجنبي المباشر إليها أيضا تحديا كبيرا، فهو وسيلة مهمة للتدفقات المالية، وجلب قدرات إدارية متقدمة. وزيادة المنافسة المحلية، مما يرفع من مستوى الصادرات. فضلا عن قدرة كل منهما في المساهمة لحل القضايا السياسية والأمنية الشائكة في تلك البلدان.
خاتمة
إن المصطلحات التي تميز الشمال والجنوب أصبحت تميل إلى أن تبدو تصادمية، ولا تسمح بإجراء دراسة مناسبة لسلاسل الاعتماد المتبادل بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب. ومع ذلك، فإنها تسهم بشكل كبير في فهمنا للمدى الذي أصبح فيه الجنوب محوريا للاقتصاد العالمي ومركزيا للعلاقات التجارية.
وليس من الواضح أن الجنوب العالمي، رغم استعداده التام في بعض الأحيان لقبول الدعم الصيني والهندي، يرى أيا منهما قائدا له. على سبيل المثال، كان إحجام الصين عن التعامل مع أزمة الديون العالمية وإساءة استغلالها للموارد الطبيعية في غرب إفريقيا سببا في خلق احتكاكات صعبة.
من ناحية أخرى، تعتبر الهند دولة عنيدة وشائكة في التعامل معها، وكانت عرقلتها للمنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، ومعارضتها لقضايا تهم الجنوب العالمي، مثل إعانات دعم مصايد الأسماك، سببا في خلق حالة من سوء النية. وباختصار، تطلعت كل من الصين والهند في الاضطلاع بدور رائد في الجنوب العالمي لعقود من الزمن. ولكن يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه التطلعات ستتحقق.