دراسات أمنية

استقراء للمحطات بعد عام على الحرب الروسية الأوكرانية

24-Feb-2023

شكلت الحرب الروسية – الأوكرانية، والتي دخلت عامها الثاني، الحدث الأبرز على الساحة العالمية لما حملته من تأثيرات على جميع الصعد والجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية. ولا تزال الأنظار تتجه إلى نتائج هذه الحرب وسط تضارب التوقعات ما بين التصعيد المتزايد في الفترة المقبلة، وإمكانية التوصل إلى حل ينهي هذا الصراع، أو يؤدي إلى تهدئة.

قراءة في النتائج الميدانية

في بداية العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا -كما أسماها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين- في 24 فبراير 2022، كان حماس الروس في أوجه؛ لفرض انتصار ساحق على الأوكرانيين. وهذا كان واضحاً عندما وصلت القوات الروسية في شهر فبراير 2022 إلى ضواحي العاصمة كييف، وسيطرت في 2 مارس على مدينة خيرسون الجنوبية وجزءٍ كبيرٍ من المنطقة المجاورة، بما في ذلك محطة زابوريجيا للطاقة النووية، أكبر محطة في أوروبا.

بعد ذلك، بدأ التعثر يظهر على أداء الجيش الروسي، وخاصة أمام الطائرات بدون طيار وسلاح المدفعية الأوكرانية، لتعلن روسيا في 29 مارس الانسحاب من كييف ومناطق أخرى، قائلة إنها ستركز على المنطقة الصناعية الشرقية لمنطقة دونباس. وفي 16 مايو، وافق المدافعون الأوكرانيون عن مصنع الصلب العملاق "آزوفستال" -آخر معقل أوكراني متبقٍ في ماريوبول- على الاستسلام للقوات الروسية بعد حصار استمر قرابة ثلاثة أشهر. وبذلك، قطع سقوط ماريوبول أوكرانيا عن ساحل آزوف وأمن ممراً برياً من الحدود الروسية إلى شبه جزيرة القرم.

لكن، مع بداية شهر يونيو، بدأت نتائج الدعم الغربي للقوات الأوكرانية تظهر في الميدان بشكل واضح، بما في ذلك قاذفات الصواريخ "HIMARS" التي قدمتها الولايات المتحدة الأميركية. وفي 30 يونيو، انسحبت القوات الروسية من جزيرة الأفعى، الواقعة قبالة ميناء أوديسا على البحر الأسود، ثم شنت القوات الأوكرانية، في 6 سبتمبر، هجوماً مضاداً مفاجئاً في منطقة خاركيف الشمالية الشرقية ، مما أجبر روسيا على الانسحاب بسرعة من مناطق واسعة.

وفي 9 نوفمبر، أعلنت روسيا انسحابها من مدينة خيرسون في ظل هجوم مضاد أوكراني. وبعد أشهر من القتال الضاري، أعلنت روسيا الاستيلاء على بلدة سوليدار في 12 يناير 2023، وتواصل موسكو هجومها للسيطرة على معقل باخموت الأوكراني.

هل تعثرت روسيا في تحقيق أهدافها؟

يقول المحلل السياسي المتخصص في الشأن الأوكراني، ألكسندر تشالينكو، إن "الكرملين راهن في الأيام الأولى من الحرب على إحداث انقسامات في النخبة السياسية والعسكرية الأوكرانية، وسط دعوات كان يوجهها بوتين إلى العسكريين الأوكرانيين لإلقاء السلاح تارة، والانقلاب على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وتولي السلطة تارة أخرى"، إلا أن ذلك لم يحدث، بينما "أقدمت الدول الغربية على تقديم دعم عسكري ومالي غير مسبوق لأوكرانيا، وفرضت عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا وصلت إلى حد حظر إمدادات نفطها المنقول بحراً إلى أوروبا".

وعلى الرغم من أن القوة العسكرية غالباً ما تقاس بالقوة النارية، إلا أن هناك أهمية كبرى لجودة المعدات، ومدى صيانتها، وتدريب وتحفيز الأفراد الذين يستخدمونها، كما تزداد أهمية الحفاظ على المجهود الحربي، ومرونة الأنظمة اللوجستية لضمان وصول الإمدادات إلى الخطوط الأمامية حسب الحاجة، مع استمرار الصراع. بحسب موقع قناة (الحرة) الأميركية نقلاً عن (مجلة فورين أفيرز ، 15 يونيو 2022)، قد تمكن  المعدات العسكرية المتفوقة والقوة النارية القوات من السيطرة على الأراضي، لكنها أقل فاعلية بكثير من الإدارة الناجحة لتلك الأراضي. وهناك فرق بين طريقة القيادة المتبعة في الغرب والتي تعتمد بشكل متزايد على تشجيع المرؤوسين على أخذ زمام المبادرة للتعامل مع الظروف، مقابل القيادة الهرمية التقليدية التي تجبر الجنود على إطاعة أوامر بحذافيرها تصدر عادة من جهات بعيدة عن ميدان القتال، ولذلك يرى عديد من المراقبين أن روسيا أصبحت عالقة في حرب يصعب الفوز بها ولا يمكن تحمل خسارتها. 

في الحديث عن تحقيق روسيا لأهدافها، هناك جانبان لتقييم ذلك. يشير الجانب الأول إلى تعثر كبير وفشل في تحقيق حسم عسكري ضد القوات الأوكرانية، بينما يشير الجانب الثاني إلى تمكن روسيا من تحقيق إنجاز، نوعاً ما؛ لأنها تمكنت من التدخل عسكرياً في دولة حليفة لحلف "الناتو"، وعلى حدود الأخير. وبالتالي، مهما كانت النتائج الميدانية، يتم تقييم السيطرة حتى وإن كانت محدودة على أنها إنجاز يبنى عليه في المستقبل.

تأثير الحرب على العلاقات الدولية

أدت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى تغير كبير في العلاقات بين القوى الإقليمية والدولية، وأسهمت في إعادة رسم التحالفات. إذ أثرت الحرب بشكل أساسي على العلاقات الأميركية-الخليجية بعد أن رفضت دول كثيرة، منها دول الخليج العربي، دعم القرارات المناهضة لروسيا في الأمم المتحدة، فضلاً عن عدم الانضمام للعقوبات الغربية رغم محاولات الأميركيين والأوروبيين. هذا ولم تخضع دول كثيرة لإملاءات الغرب في سياستها بشأن سوق النفط، واستمرت في التعاون مع موسكو في إطار "أوبك+" بعد أن عارضت خفض أسعار الطاقة العالمية.

كذلك، أثرت هذه الحرب على العلاقات الروسية-الإسرائيلية إلى حدٍ ما؛ حيث كانت تل أبيب -وخاصة خلال الحكومة السابقة- تميل إلى الموقف الغربي والأميركي ما أدى إلى انزعاج روسيا من الموقف الإسرائيلي، وأثر ذلك على التفاهمات الروسية-الإسرائيلية بخصوص سوريا، إذ تراجعت موسكو عن التزاماتها هناك بخصوص تقليص النفوذ الإيراني، وفي 16 أكتوبر 2022، حذر ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، إسرائيل من تداعياتِ تزويدها لأوكرانيا بالأسلحة، قائلًا في بيانٍ رسميّ إنّ "أيّ خطوة تَصُبُّ في إطار دعم القوّات الأوكرانية ستَضُرُّ بشدّةٍ بالعلاقات الثنائيّة" في رد على أنباء عن عزم تل أبيب تزويد كييف بمنظومات القبّة الحديديّة الصّاروخيّة وغيرها من المَعدّات العسكرية.

وعلى عكس ما سبق، أسهمت هذه الحرب بزيادة التعاون الروسي-الإيراني، إذ تقول القوى الغربية إن موسكو تعتمد خلال المعارك في أوكرانيا على طائرات مسيرة إيرانية، وإن هذا الدعم أسهم بأن تكون هناك "شراكة استراتيجية روسية-إيرانية"، وقالت الولايات المتحدة إن "العلاقات بين روسيا وإيران تحسنت لتصبح شراكة دفاعية كاملة"، فيما أشار المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، إلى أن "روسيا تمنح مستوى غير مسبوق من الدعم العسكري لإيران"، وأضاف أن "الولايات المتحدة اطلعت على تقارير تفيد بأن البلدين يفكران في الإنتاج المشترك لمسيرات قاتلة". وفقاً لـ(بي بي سي، 10 ديسمبر 2022).

أما الصين، التي تعتبر حليفة روسيا، فلم تكن متشجعة للمشاركة في الحرب، وكان موقفها متذبذباً حيث أعلنت عن تفهمها للهواجس الأمنية لروسيا، والتي دفعتها لاستخدام القوة، وحمّلت بكين حلف شمالي الأطلسي المسؤولية الكبرى عن وقوع النزاع، لأنه وافق على البحث في طلب عضوية كييف. لكن الصين في المقابل تمسكت بمبدأ سيادة الدول، وبمبادئ القانون الدولي الذي يعتمد على حل النزاعات بالطرق السلمية.

وراء الموقف الصيني اعتبارات استراتيجية حساسة تفرضها مصالح الدولة العليا، بصرف النظر عن المواقف السياسية. وهذه المواقف تميل نحو روسيا عند أغلبية القيادات الصينية التي تدرك أن خسارة روسيا في المواجهة مع الغرب، سيجعل الصين الهدف التالي، وربما يمهّد إضعاف روسيا لحصار الصين في المستقبل؛ ذلك لأن النمو الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري الصيني يُشكل خطراً أشد إيلاماً للولايات المتحدة من الخطر الذي تسببها روسيا، لكن المصالح التجارية الصينية مع الدول الغربية وأوكرانيا أكثر أهمية، وأكبر حجماً من مصالحها مع روسيا، والوقوف العلني مع موسكو، ومساندتها عسكرياً فيه مغامرة كبرى، وستؤدي إلى خسارة تجارية كبيرة تقوِّض النمو الصيني. وبالفعل، هدد الرئيس الأميركي، جو بايدن، بفرض عقوبات قاسية إذا قدّمت الصين مساعدة عسكرية لروسيا.

الغرب أيضاً لم يسلم من هذه الحرب التي كادت أن تقسم الحلفاء فيما بينهم، وذلك بخصوص تقديم الدعم للقوات الأوكرانية. وكان ذلك خاصة بين الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا التي امتنعت في البداية عن تقديم دبابات "ليوبارد" النوعية للقوات الأوكرانية. وأظهر ذلك الموقف نوعا من انعدام الثقة بين هذه الدول.

سيناريوهات الحرب

في ظل تزايد الدعم الغربي للقوات الأوكرانية، وزيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الأخيرة إلى كييف، وإصرار روسيا في المقابل على تحقيق نصر عسكري ساحق، والحديث عن معركة الربيع المقبل، وطرح الصين مبادرة لإنهاء الصراع؛ تبرز سينايرهات عدة للحرب الروسية-الأوكرانية، على النحو التالي:-

السيناريو الأول: إصابة الخطوط الأمامية بالركود، وتحول الحرب في نهاية المطاف إلى صراع مجمّد دون الإعلان عن التوصل إلى حل أو تهدئة. 

السيناريو الثاني: اتجاه التطورات إلى التصعيد إذا ما عملت روسيا على شن هجوم قوي في الربيع المقبل أو قبله، ما سيؤدي إلى تصعيد كبير خاصة بعد الدعم الغربي المقدم إلى القوات الأوكرانية. وفي هذا الصدد، قال نائب رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية، فاديم سكيبيتسكي، إن بلاده "تعتقد أن روسيا تخطط لشن هجوم جديد في الربيع، سيكون حاسما لمسار الحرب"، معتبرا أنه "إذا فشل الهجوم الروسي الكبير المخطط له، فسيكون سقوطا لروسيا". وتوقع الجنرال المتقاعد بالجيش الأميركي، مارك هيرتلنغ، أن الحرب الروسية في أوكرانيا قد "تشتعل" في الربيع، موضحا أن "الربيع سيكون نقطة انعطاف رئيسة في الحرب".

السيناريو الثالث: اتجاه الطرفين إلى المفاوضات بدفع من الصين ودول أخرى، والتوصل إلى حل أو تهدئة. ففي 19 فبراير 2023، أعلن وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، أن "بكين مستعدة لتقديم اقتراحها للسلام بشأن أوكرانيا" وأن "هذه الحرب لا يمكن أن تستمر في الاشتعال، وأن وحدة الأراضي وسيادة جميع الدول سيتم احترامها في اقتراح الصين".

الرؤية

من خلال ما سبق، يتضح أن الحرب الروسية-الأوكرانية تحولت إلى حرب استنزاف؛ حيث تشجعت روسيا في البداية وكانت متحمسة للسيطرة على كافة البلاد إلا أن التدخل الغربي والدعم الاستخباراتي والعسكري للقوات الأوكرانية تسبب بتعثر القوات الروسية. وفي حين يساعد الدعم الغربي كييف على المقاومة، إلا أنه من الصعب عليها حسم الحرب والانتصار على الجيش الروسي.

نتيجة لذلك، فإن السيناريو الأول والمتعلق بتجميد الجبهات دون الإعلان عن حل نهائي للصراع هو المرجح، مع إمكانية أن يكون هذا السيناريو بعد أن تستعيد روسيا بعض المواقع التي خسرتها، حيث يستبعد أن يكون هناك تصعيد كبير وسيطرة حاسمة لأي طرف، كما يستبعد أن تتوصل أي مفاوضات إلى حل ينهي الصراع.

وفيما يخص استبعاد حدوث تصعيد حاسم، يقول المؤرخ بجامعة "بريمن" الألمانية، نيكولاي ميتروخين: "أوكرانيا وروسيا ليس لديهما أسلحة كافية، لا يمكن لروسيا ولا أوكرانيا تحقيق أهدافهما في هذه الحرب. لن تتمكن روسيا حتى من احتلال كامل المنطقة الجنوبية الشرقية من دونباس، ناهيك عن تدمير أوكرانيا كدولة. ولن تتمكن أوكرانيا من العودة إلى حدود يناير 2014، قبل ضم شبه جزيرة القرم ودعم روسيا للانفصاليين في دونباس".

أما بخصوص استبعاد نجاح أي مفاوضات، فيتفق المحللون على نطاق واسع على أن الصفقة الديبلوماسية لإنهاء الصراع تبدو وكأنها عديمة الجدوى. فبوتين -الذي يشعر بالاستياء بالفعل من الأداء الضعيف لجيشه فيما وصفه بـ "العملية العسكرية الخاصة"- لا يطيق أن يُنظر إليه على أنه يتراجع عن معركة بدأها. وبحسب تقديراته كان ينبغي أن يكون قادراً على الفوز بسهولة.

وبالنسبة لزيلينسكي، فإن الخطر كبير؛ إذ أظهر مسح في سبتمبر 2022 أن معظم الأوكرانيين ثابتون في رفض التنازلات الإقليمية لروسيا. ويقول أستاذ التاريخ في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، لفلاديسلاف زوبوك: "بوتين لا يستطيع سياسياً تحمل توقيع صفقة تفاوضية إذا كان ذلك يعني التخلي عن أي منطقة (..) لقد رهن بوتين حياته السياسية كلها على ضم شبه جزيرة القرم ولم يكن على وشك أن يتركها تمر بسهولة"، بحسب ما نقلت (National Public Radio  في 19 فبراير 2023).

50