بينما بدأت معالم النظام السياسي الذي بشر به الرئيس التونسي قيس سعيد تتكشف، بإقرار الدستور في الخامس والعشرين من يوليو 2022، والاتجاه نحو سن قانون انتخابي.
بناء على ذلك، بدأت الأسئلة تترى حول شروط وشكل الممارسة السياسية في الحقبة الجديدة، وتأثير التحولات الراهنة على حزب "حركة النهضة"، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، والذي كان مؤثرا في المشهد التونسي منذ انتفاضة عام 2011، التي أسقطت نظام حكم الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي.
الدستور الجديد ألغى النظام البرلماني الهجين الذي كان قائما بموجب دستور عام 2014، وجاء بنظام يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، تجعله الممسك الفعلي بالسلطة التنفيذية، وكل ذلك وسط الحديث عن توجه الاستبعاد التيارات التي وقفت ضد مشروع قيس سعيد من العملية السياسية، خاصة حركة النهضة وحلفاءها من المحسوبين على جماعات الإسلام السياسي (ائتلاف الكرامة)، والذين تم اتهامهم مرارا باستغلال النظام الدستوري القديم؛ للتغلغل في مفاصل الدولة التونسية، بطريقة تنطوي على مخالفات للقوانين والنظم المعمول بها، ما أفسد الحياة السياسية وقاد إلى حالة انسداد مزمنة، كانت من الدوافع الرئيسية وراء الإجراءات التي اتخذها الرئيس بداية من الخامس والعشرين يوليو 2021.
إزاء الخلفيات المشار إليها تثير هذه الورقة البحثية أسئلة حول واقع ومستقبل التيارات ذات المرجعية الإخوانية في تونس، ارتباطا بالتغييرات التي طالت حتى الآن الدستور، وفي ظل التوقعات بوضع نظام انتخابي يمهد لسد الطريق أمام عودة تلك التيارات لتأدية دور مؤثر في المشهد السياسي خلال الفترة المقبلة. في سبيل نقاش تلك التساؤلات تحاول الورقة رسم خريطة لتحرك التيارات الإسلامية في المرحلة الراهنة، من خلال الوقوف على الهامش السياسي والقانوني المتاح أمامها؛ من أجل المناورة والتأثير، ثم تنتقل لاستشراف مستقبلها السياسي انطلاقا من سيناريوهات متعددة.
مأزق إخوان تونس
بعد سنوات من قيادة السلطة التنفيذية أو المشاركة فيها، يبدو أن حزب "حركة النهضة" دخل أزمة عميقة، تجلت في استنزاف رصيده الجماهيري إلى حد بعيد، ثم جاءت الإجراءات المتلاحقة التي اتخذها الرئيس قيس سعيد بداية من 25 يوليو 2021 لتكون بمثابة القشة التي أفقدت الحركة زمام المبادرة، فأصبحت تحركاتها وحساباتها محكومة بمنطق ردات الفعل، بعد أن كانت في دائر من يصنع الأحداث على مدى سنوات خلت، وكل ذلك في مناخ جيوسياسي يتراجع فيه الدعم الإقليمي المقدم لجماعات الإسلام السياسي، وهذا ما نناقشه في النقاط التالية:
أولا، عادة ما يكون الوصول إلى الحكم، من خلال قيادة السلطة التنفيذية أو المشاركة فيها، أحد روافد الأحزاب والتنظيمات لتعزيز رصيدها الجماهيري والسياسي، عبر تطبيق برامجها الانتخابية، وتحقيق إنجازات تحسب لها، لكن في حالة حركة النهضة التونسية كانت الأمور تسير في اتجاه معاكس تماما. دخلت الحركة - التي كانت محظورة حتى عام 2011 - الحياة السياسية في تونس بعد الانتفاضة التي أسقطت زين العابدين بن علي، واكتسبت على الفور شعبية كبيرة، مكنتها من تصدر المشهد، ربما نظرا لأنها كانت الأكثر تنظيما من بين القوى المعارضة حينها، ونظرا للدعاية الإعلامية التي كانت تروج وتنظر لسيطرة تيارات الإسلام السياسي في الدول التي شهدت انتفاضات ضمن ما سمي إعلاميا بـ "الربيع العربي"، وأيضا بسبب الدعم الذي أغدقته الجهات الراعية لذلك الاتجاه في الخارج. لكن بدلا من أن تعزز الحركة قاعدتها الجماهيرية من خلال أدائها في السلطة، ظهر مع مرور الوقت عجزها عن تطبيق الوعود التي قدمتها قبل الوصول إلى سدة الحكم، وبالتالي بدأت الجماهير في الانفضاض من حولها تدريجيا.
في ظل التراجع المستمر لشعبية الحركة دخلت تونس في مشهد سياسي فسيفسائي، سمته البارز الانقسام والتنافر، لا توجد فيه قوة حزبية تمتلك أغلبية واضحة المعالم تضمن لها تشكيل حكومة، وتوفير حزام سياسي مناسب لتمرير برنامجها الانتخابي وتطبيقه على أرض الواقع. كما لم تتمكن الحركة من عقد تحالفات منسجمة ومستقرة مع أطراف من خارج فلك تيارات الإسلام السياسي، خاصة في الفترة التي سبقت تحرك الرئيس، حيث اتهمت بمحاولة الاستفراد بصنع القرار، وعدم تقديم تنازلات كافية لجذب شركاء سياسيين. نتيجة لهذه الحالة أصبح تعطيل عمل الحكومة ظاهرة عادية في تونس تتكرر باستمرار، الأمر الذي فاقم معاناة السكان خاصة بالتزامن مع تفشي وباء كورونا على نطاق واسع عام 2021، وفي ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد منذ انتفاضة 2011، فكانت الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، والتي أظهرت الأمور على نحو مختلف تماما. اتضح من الأحداث التي رافقت إجراءات قيس سعيد أن مصدر قوة حركة النهضة خلال السنوات الأخيرة ليس الدعم الشعبي لها، ولا جاذبية طرحها السياسي والفكري، بل النفوذ الذي خلقته من خلال التغلغل في مفاصل الدولة، وما إن تم تحييد ذلك النفوذ - ولو جزئيا - حتى ظهرت النهضة في موقف ضعيف حد العجز، كما سنرى.
ثانيا، بعد الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد بشكل متتالٍ بداية من يوليو 2021، ظهر أن حركة النهضة لم تعد قادرة على صناعة الفعل السياسي، بعد أن انفضت جماهير كثيرة من حولها، وبعد أن فقدت مراكز نفوذها في مختلف السلطات، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وفي الجهاز البيروقراطي للدولة بشكل عام، وظهر التذبذب والارتباك في موقفها بشكل جلي. في البداية لوح رئيس الحركة ورئيس البرلمان حينها، راشد الغنوشي، باللجوء إلى الشارع لإفشال إجراءات قيس سعيد الاستثنائية، التي وصفتها حركة النهضة بـ "الانقلاب"، لكن حصيلة تحركاته كانت دون رهانات المناصرين، بل ودون توقعات الخصوم، فكان أن عدل من خطابه وبدأ يعترف في بعض الخرجات الإعلامية بأن تياره يتحمل جزء من المسؤولية عن الحالة التي آلت إليها الأوضاع في البلاد، ويطالب بحوار سياسي جامع، دون أن يضع شروطا مسبقة من قبيل عودة البرلمان أو التراجع من طرف الرئيس عن الإجراءات التي تم اتخاذها.
في هذا السياق أشار الغنوشي في مقال له بعنوان "كيف نُقوّم حدث 25 يوليو، وكيف نتعامل معه؟"، نشرته صحيفة "الرأي العام" التونسية، المقربة من النهضة، في الثامن عشر من نوفمبر 2021، إلى أن حركته وحلفاءها فشلوا في إدارة الفرصة التي أعطيت لهم، فالتقطها قيس سعيد، وقال حرفيا: "كل شيء كان يدعو إلى التغيير، والخروج من الوضع الذي تردّت فيه البلاد، ونحن الشركاء، لم نملك الجرأة على اتخاذ قرار المغادرة، ولو من طريق سحب الثقة من تلك الحكومة الميّتة أصلًا، بعد أن فرض عليها سعيد الشلل (..) قرارات الرئيس الاستثنائية جرعة أكسيجين في أجواء مختنقة بالكوفيد". هذا التغير في تكتيكات النهضة لم يغير من مجريات تشكل النظام الجديد، في ظل استطلاعات الرأي التي كانت حينها تظهر تراجع شعبية الحركة على نحو غير مسبوق، مقابل التأييد واسع النطاق للرئيس سعيد وإجراءاته. ومع إقرار الدستور، في الخامس والعشرين من يوليو 2022، بدا أن خيوط المشهد أفلتت من يد الحركة فأصبحت مجبرة على التعامل مع الواقع الجديد، والعمل وفق القواعد الدستورية الجديدة، التي لم تكن شريكة في وضعها، ولا راضية عنها، وسط تقديرات بأن القانون الانتخابي الذي يتوقع أن يصدر قريبا سيكبل عمل النهضة في المستقبل، إن لم يمنعه من الأساس.
ثالثا، كل هذه التطورات جاءت في ظرفية دولية تتسم بتراجع جاذبية قوى الإسلام السياسي، حيث شهدت تلك التيارات انتكاسات في حواضنها التقليدية بالشرق الأوسط، والمغرب العربي، وسط تشكل قناعة جماهيرية واسعة مناهضة لذلك التوجه. القناعة الجماهيرية تأسست على التجارب الفاشلة لتلك التيارات في الحكم، من مصر، إلى المغرب مرورا بليبيا. وكل هذا بالتوازي مع مراجعات على مستوى أولويات القوى الإقليمية والدول التي احتضنت تلك التيارات لسنوات مضت، ووفرت لها ملاذا لجمع التبرعات؛ من أجل تمويل الأنشطة السياسية، والتخريبية أحيانا. وبالتالي، فإن الإخوان المسلمين في تونس لم تعد لديهم تلك الإمكانيات الكبيرة التي تضمن لهم حشد الموارد اللازمة لإعادة ترميم زخمهم السياسي المتراجع في الشارع، في ظل فقد السلطة وتراجع فعالية العامل الخارجي الداعم والمساند لهم. بل إن رهانهم الأساسي في المرحلة الراهنة ربما يكون فقط الخروج بأقل قدر ممكن من الخسائر، على اعتبار حجم وتنوع الشبهات التي تثار حولهم، والتي قد تصل عقوبات بعضها حد حل الجماعة وحظر نشاطها السياسي، فضلا عن سجن بعض كوادرها الفاعلين، بحسب المسار الذي ستسلكه القضايا قيد النظر في أروقة القضاء. حيث إن قادة في الجماعة تثار حولهم شبهات بشأن القيام بأعمال تمس الأمن الوطني، كما هو الحال في الاتهامات المتعلقة بمساعدة بعض الشباب على السفر إلى بؤر التوتر في العراق وسوريا؛ من أجل الالتحاق بتنظيمات إرهابية.
مستقبل الإخوان في تونس
لاشك أن الإجراءات التي اتخذها قيس سعيد - كما سبق وأشرنا - أثرت إلى حد بعيد في الموقع السياسي والجماهيري لحركة النهضة، ودفعتها إلى الخلف، حيث تمت الاستجابة لتلك الإجراءات على عدة مستويات، كلها تظهر المأزق الذي تعيشه الحركة. القيادة العليا ممثلة بالمكتب التنفيذي ورئيسه راشد الغنوشي أظهرت عدم القدرة على تقييم الموقف تقييما دقيقا، ثم التعامل معه بناء على ذلك، وبالتالي ارتبكت ردود الفعل الصادرة عنها تجاه ما حصل. أما على مستوى الكوادر فقد سُجلت استقالات واسعة النطاق، مدفوعة بحالة إحباط من الوضع الذي آلت إليه الأمور، وعلى مستوى الجماهير كان الغضب أكثر وضوحا.
حالة التراجع هذه من المرجح أن تستمر في المدى المنظور، باعتبار أنها تأتي في سياق إقليمي يتسم بتراجع زخم تيارات الإسلام السياسي بشكل عام. ويمكن أن يتحول تراجع زخم حركة النهضة إلى حالة من التفكك أو التلاشي، لكن ذلك يتوقف على الخطوات التي سيتخذها الرئيس قيس سعيد تجاهها من جهة، وما إذا كان سيكسب رهان إنقاذ تونس من الأزمة التي تعيشها منذ سنوات من جهة أخرى، ويقدم البديل التنموي الذي تتطلع إليه الجماهير.
فمن المحركات الأساسية للتيار الشعبي المناهض لإخوان تونس وشركائهم في الحكم خلال السنوات الماضية فشل الحكومات المتعاقبة في الملف الاقتصادي. نجاح أو فشل قيس سعيد في هذا الملف من المبكر الحديث عنه، باعتبار أن الرئيس ما زال في طور وضع الأسس لنظام الحكم الجديد، وبالتالي يكون أيضا من السابق لأوانه الحديث عن مآلات الحركة النهضة. ورغم كل هذا يمكن استشراف مستقبل تيارات الإسلام السياسي في تونس، على المدى المنظور، وفق مجموعة من السيناريوهات على النحو التالي:
السيناريو الأول الاندثار:
تذهب بعض التقديرات إلى ترجيح أن التراجع الذي تعاني منه تيارات الإسلام السياسي في دول المنطقة بشكل عام، بما فيها تونس - التي هي محل البحث الآن - سيؤدي بها إلى التلاشي. هذه التقديرات مردها أن تلك التيارات، وإن كانت نجحت في المعارضة خلال فترات معينة، إلا أنها أثبتت عدم قدرتها على إدارة شؤون الحكم، حين أتيحت لها الفرص المتتالية، باعتراف بعض قادتها، كما هو الحال في اعتراف راشد الغنوشي، الذي أشرنا إليه من قبل. كما اتضح أن الشعارات الإسلامية التي تحملها حركة النهضة لم تعد بتلك الجاذبية، بعد أن اتضح أنها مجرد مطية للوصول إلى السلطة، وعلى اعتبار أن القيم والتعاليم السلفية التي يبشر بها الإخوان المسلمون بشكل عام لا تتطابق مع طبيعة التدين في المجتمع التونسي، الذي يمتح من مرجعيات صوفية في الأساس.
ومع أن هذا الطرح مؤسس إلى حد بعيد، وله نصيب كبير من المنطقية، إلا أنه يغفل جانبا في غاية الأهمية، وهو أن المحرك الأساسي للشارع في تونس هو مطالب اقتصادية تنموية في المقام الأول، وليس نوازع دينية. وبالتالي إذا لم تجد الجماهير إجابات عملية على شواغلها لدى السلطات الجديدة - وهو أمر وارد في ظل التعقيدات التي يعاني منها الاقتصاد التونسي، خاصة بالتزامن مع أزمة اقتصادية عالمية تلوح في الأفق بسبب تبعات الحرب في أوكرانيا، ومخلفات جائحة كورونا - فقد يكون ذلك بوابة لتغيير النظام مجددا وربما عودة تيارات الإسلام السياسي إلى الواجهة، بأشكالها الحالية أو حتى عبر أجسام سياسية جديدة، فقد أثبت تلك التيارات في عدة تجارب قدرتها على التكيف مع أصعب الظروف، من خلال الخمول ثم العودة حين تكون الأوضاع مواتية.
السيناريو الثاني العودة إلى الحكم:
لا يستبعد بعض المحللين عودة تيارات الإسلام السياسي إلى الحكم في تونس مجددا، ويبني ذلك على أساس افتراض أن النظام الحالي قد لا يتمكن من تقديم البدائل الاقتصادية التي تتطلع إليها الجماهير، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وشح الدعم الخارجي، والشروط التي تضعها المؤسسات الدولية المانحة، خاصة صندوق النقد الدولي، والتي قد تتسبب في إشعال موجة احتجاجات ذات طابع اجتماعي بفعل أنها تمس كتلة الأجور، والدعم الحكومي للمواد الأساسية. وكذلك الشروط التي يضعها شركاء تونس الغربيون، والتي تتعلق في جانب أساسي منها بالعودة إلى المسار الديمقراطي، ما يضمن إشراك كافة الطبقة السياسية بما فيها حركة النهضة في المشاورات المتعلقة بشكل النظام السياسي الجديد. وبالتالي قد تفقد التوجهات الجديدة الزخم الكبير الذي رافقها منذ الخامس والعشرين من يوليو 2021، في ظل غياب الشروط الاقتصادية التي تؤمن مرحلة التحول السياسي. أصحاب هذا الطرح يجادلون أيضا بأن نتائج الاستفتاء الأخير على الدستور مؤشر على أن الأمور تسير في الاتجاه الذي يذهبون إليه، إذ كانت نسبة المشاركة في حدود 27,54 في المئة، ما يعني أن الغالبية العظمى من التونسيين لم تستجب لنداء الرئيس بضرورة المشاركة في المسار السياسي، الذي يستهدف القطيعة مع النخبة التقليدية.
هذا الطرح، ورغم أن أصحابه يقدمون بعض المؤشرات حول صوابية رأيهم، إلا أنه بالإمكان مناقشته والطعن فيه من عدة أوجه، إذ أن عدم المشاركة واسعة النطاق من طرف الجماهير في الاستفتاء على الدستور، لا يعني بالضرورة رفضا شعبيا لتوجهات الرئيس قيس سعيد، أو تماهيا مع دعاية الإخوان المسلمين المضادة له، بل إن ذلك يعكس في المقام الأول اتجاها متصاعدا سمته العزوف عن المشاركة السياسية بشكل عام. فإذا نظرنا مثلا إلى آخر انتخابات تشريعية أجريت في تونس عام 2019، نلاحظ أن نسبة المشاركة لم تتجاوز 32 في المئة، ومن المعروف أن الانتخابات التشريعية تجذب الناخبين أكثر من الاستفتاءات، بحكم حضور العامل الشخصي فيها بقوة، إذ يذهب كل ناخب للتصويت على مرشحه الشخصي، أو لصالح حزبه أو جماعته. كما أن المحاججة بأن عدم قدرة الحكومة على تقديم البدائل الاقتصادية ستفتح الباب أمام عودة الإخوان لتصدر المشهد السياسي، فرضية يمكن نقاشها من زاويتين، فمن جهة لا يزال من المبكر الحديث عن فشل النظام في الملف الاقتصادي، حيث لم تكتمل أركانه بعد، ومن جهة أخرى إذا سلمنا بهذا الاحتمال فلن يكون الإخوان المرشح الوحيد لملء أي فراغ سياسي ينتج عنه، بل إن حظوظ التيارات التقدمية، أو ما يعرف في القاموس السياسي المحلي بـ"العائلة الديمقراطية" قد تكون الأوفر.
السيناريو الثالث التأقلم مع حالة التراجع:
بعيدا عن سيناريو الاندثار واحتمالات العودة إلى تصدر المشهد السياسي، يذهب البعض إلى تقدير أن حالة التراجع في زخم تيارات الإسلام السياسي بتونس ستستمر على المدى المنظور، وفي حالة نجاح نظام الرئيس قيس سعيد في تأكيد شرعية، بشكل لا يقبل الطعن، من خلال تحقيق مستوى من التنمية الاقتصادية، يستجيب لتطلعات الجماهير، حينها ستتعزز عزلة تلك التيارات، وقد تشهد مراجعات وربما تفرخ أجساما سياسية ودينية جديدة.
هذا الطرح ينطلق من معطيات بشأن قدرة تيارات الإسلام السياسي على التكيف مع الأوضاع المتقلبة على مر تاريخها في الصراع من أجل الوصول إلى السلطة. على سبيل المثال واجهت جماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر خلال النصف الأخير من القرن العشرين أوضاعا مضطربة، بين التنسيق مع الحكومات حينا، والتصادم معها في أحيان كثيرة، لدرجة حظرها والزج بكوادرها البارزة ورموزها في السجون، لكنها رغم كل التحديات ظلت محافظة على بنيتها الأساسية تنتظر أي هزة تطال نظام الحكم لتقفز إلى واجهة المشهد السياسي، وهذا ما حصل بالفعل في عام 2011. كما أن الرئيس قيس سعيد لم يُظهر حتى الآن توجها واضحا بشأن نيته اجتثاث تلك التيارات الإسلامية بشكل نهائي من المشهد السياسي، وبالتالي، يمكن تقدير أنها على المدى المنظور قد تتعايش مع وضع صعب لا يمكنها فيه الوصول إلى الحكم، لكن تستطيع معه أن تحافظ على كياناتها.