علاقات دولية

الجوار السوداني وتأثيرات الحرب: مصر

03-May-2023

تحول السودان إلى مصدر مخاوف إقليمية ودولية متزايدة، منذ بداية الحرب في 15 أبريل 2023، بين الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)؛ لما تحمله من تداعيات خطِرة تهدد دول الجوار خاصة، والأمن العالمي بشكل عام. نبحث في سلسلة "الجوار السوداني وتأثير الحرب" تداعيات الوضع الجديد إقليمياً، حيث ننظر إلى الملفات المشتركة بين السودان وجيرانها، وأوجه تأثرها جراء الصراع. 

ننطلق في هذه السلسة من جارة السودان الشمالية، مصر، التي تجمعها بالسودان علاقة متشعبة ومعقدة بحكم الروابط العميقة المتجذرة في تاريخهما وديناميكيتهما الإقليمية وتراثهما الثقافي. تاريخياً، مرت هذه العلاقة بمراحل مختلفة وتقلبات عديدة، غير أن أهمية كل من البلدين بالنسبة للآخر تبقى هي العامل الثابت على مر الزمان. هذه الأهمية المتبادلة تمثل حجر الأساس والدافع الأقوى للتعاون بينهما على مختلِف المستويات، الأمنية والسياسية والاقتصادية، كما تحتم وضع كل منهما الآخر في قمة الحسابات الإقليمية، والانتباه لشتى تطورات شأنه الداخلي.


تاريخ معقد

تجعل الروابط بين البلدين من القاهرة إحدى أكثر القوى الإقليمية قدرة على التأثير على مسار النزاع، علاوة على ما تمثله من دافع قوي للسعي نحو تهدئة الوضع الأمني، والتوصل إلى اختراق يضمن الاستقرار في البلاد وسلامة المصالح المشتركة، وتجنباً لانحدار العلاقات الثنائية نحو مرحلة جديدة من التوتر، فقد سبق ومرت العلاقات بين البلدين بفترات مختلفة من التشنج منذ استقلال السودان. جاء أخطر هذه المراحل مع استيلاء الإسلاميين على السلطة في السودان في انقلاب عسكري عام 1989، مما أدى إلى توتر العلاقات مع مصر.

في السياق، أشارت دراسة صادرة عن مركز مالكولم كير كارنيغي الأمريكي، بعنوان "الحدود المصرية - السودانية: قصة وعد لم يتحقق" (2021)، للباحث شريف محيي الدين إلى أنه "منذ استقلال السودان عن الحكم الثنائي البريطاني - المصري عام 1956، أسفرت سياسات الحدود التي اتبعتها مصر والسودان عن تحويل هذه المنطقة إلى مجال للشكوك والتوترات، ورغم الجهود التي بذلت لتغيير هذا المنحنى، فإن إرث الماضي لا يزال يعوق مسار العلاقات".

تطرقت الدراسة إلى جذور "الخلاف" والقيود التي فرضتها مصر في أعقاب ثورة 1952 على عبور المواطنين إلى السودان، ونزاع حلايب وأبو رماد وشلاتين، والإشكالات التي برزت خلال عهد الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، حين تعرض إلى محاولة اغتيال في إثيوبيا ألقت القاهرة فيها باللوم على السودان، وما نجم عن ذلك من "حرب باردة" بين البلدين، إلى غير ذلك من شؤون السياسة والمصالح والصراعات، (اندبندنت عربية، 26 أبريل 2023).


قبل اندلاع الصراع

تعاطت مصر مع المشهد السوداني قبل اندلاع الصراع المسلح الجاري، حيث عقدت ورشة عمل في القاهرة خلال الفترة من الأول حتى الثامن من فبراير الماضي بعنوان "آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع". جاءت الدعوة المصرية للقوى السودانية في أعقاب زيارة أجراها الوزير عباس كامل، مدير الاستخبارات المصرية، إلى الخرطوم في مطلع يناير الماضي، وذلك بعد نحو شهر من توقيع الاتفاق الإطاري، برعاية الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة - الاتحاد الأفريقي - منظمة إيغاد)، والآلية الرباعية والمكونة من (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، السعودية، الإمارات)، ويلاحظ غياب اسم مصر ضمن هذه الآليات.

في ذلك الوقت، أعلنت قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) على لسان محمد زكريا، الناطق باسم الحركة ترحيبها بدعوة القاهرة للتشاور، والذي اعتبر التجاوب مع دعوة القاهرة جاء من منطلق الحرص على أن تؤدي هذه الدعوة إلى تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، لاسيما أن الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) قد عارضت الاتفاق الإطاري ولم توقع عليه. (الشرق الأوسط، 5 فبراير 2023).

في المقابل، ردت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) في بيان برفض المبادرة، ووصفتها بأنها حشد لقوى الثورة المضادة لتقويض الجهود الشعبية السودانية لاستعادة المسار المدني الديمقراطي، ولفت البيان إلى أن الاتفاق الإطاري وضع أساساً جيداً لعملية يقودها ويمتلكها السودانيون، وشكل اختراقاً في مسار استرداد التحول المدني الديمقراطي، مما يجعل الورشة متأخرة وقد تجاوزها الزمن فعلياً. معلوم أن الكتلة الديمقراطية رافضة للاتفاق الإطاري وتطالب بتوسيعه، أما المجلس المركزي، فهو المكون الرئيسي في المفاوضات مع المكون العسكري، التي كان من المفترض أن تفضي إلى حكم مدني.


بعد بداية الاشتباكات

مع انزلاق الأزمة في السودان نحو اشتباكات مسلحة منذ 15 أبريل، كان أحدَ أوائل المشاهد التي لاقت تفاعلاً وردود أفعال واسعة احتجازُ قوات الدعم السريع جنوداً مصريين في أعقاب الهجوم على قاعدة مروي العسكرية. قال الجيش المصري في 20 أبريل 2023، إن ثلاث طائرات أعادت جنوداً مصريين من السودان ووصلت إلى قاعدة جوية بالقاهرة. وأعلن الجيش السوداني إجلاء 177 من الأطقم الفنية للقوات الجوية المصرية، بعد أيام قليلة من احتجازهم في مدينة مروي بشمال البلاد على أيدي قوات الدعم السريع، إلى مصر. وقال الجيش إن القوات المصرية كانت في السودان للمشاركة في تدريبات مشتركة للقوات الجوية.

من جهتها قالت وزارة الخارجية المصرية إن جهود إجلاء الجنود تمت بالتنسيق والتعاون مع الإمارات. وأكدت وزارتا الخارجية بمصر والإمارات التزام البلدين بمواصلة جهودهما الرامية إلى وقف الاقتتال وحماية المدنيين والمنشآت المدنية في السودان، مشددتين على أهمية تكثيف الجهود الهادفة للعودة للإطار السياسي والحوار لحل جميع الخلافات والمضي قدماً في المرحلة الانتقالية وصولاً إلى الاستقرار السياسي والأمني المنشود، (دويتشه فيله، 20 أبريل 2023).

وقد كشفت الخارجية المصرية تفاصيل المحادثات التي أجراها وزير الخارجية المصري سامح شكري مع السفير دفع الله الحاج علي، مبعوث الفريق عبد الفتاح البرهان. أوضحت الخارجية على لسان المتحدث باسمها أحمد أبو زيد، 2 مايو 2023، أن المباحثات تضمنت ثلاثة شروط، أهمها ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، حفاظاً على دماء أبناء الشعب السوداني، والتشديد على أهمية التزام جميع الأطراف بتثبيت الهدنة وعدم خرقها من أجل إتاحة الفرصة لعمليات الإغاثة الإنسانية وتضميد الجراح، وكذلك بدء حوار جاد يستهدف حل الخلافات القائمة.

كانت القاهرة قد أعلنت مع بداية الاشتباكات "متابعتها تطوراتِ الأوضاع بقلق بالغ" وكثفت اتصالاتها مع الأطراف السودانية والإقليمية والدولية، بحثاً عن إمكانية التهدئة ودفع الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس "حماية للأرواح ومقدرات الشعب والمصالح العليا للوطن". 

وفي 18 أبريل 2023، ترأس الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اجتماعاً للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، أكد فيه أن ما يحدث في السودان شأن داخلي، ومصر لا تتدخل في شؤون أي دولة، وشدد على استعداد مصر للوساطة بين الفرقاء. وأطلقت القاهرة أكثر من دعوة إلى الوساطة والوقف الفوري لإطلاق النار. وبناء على دعوة من مصر والسعودية، عقدت دورة غير عادية لمجلس جامعة الدول العربية برئاسة مصر لمناقشة الوضع في السودان.

في السياق وصف الرئيس السيسي في مقابلة مع صحيفة اساهي شيمبون اليابانية السودانيين بأنهم "ضيوف" في بلاده وليسوا لاجئين، مشيرا إلى أن بلاده "ستواجه تداعيات اقتصادية وصعوبات" في حال استقبالها مزيدا من السودانيين، في خضم الأزمة الجارية بين الأطراف المتصارعة في بلدهم.

أما على مستوى الإجلاء، فقد أسرعت مصر جهودها من أجل عودة رعاياها من السودان، والذين تُقدِّر إحصاءاتُ وزارة الخارجية عدَدَهم بنحو 15 ألفاً، لم يتمكن عدد كبير منهم من الوصول إلى السفارة أو التجمع في النقاط المحددة، وهو الأمر الذي دفع المسؤولين عن العملية إلى التواصل مع قوات الدعم السريع من أجل تسهيل تنقلهم، ولاسيما مع ازدياد المساحة السكنية التي تسيطر عليها هذه الأخيرة في الخرطوم، (الأخبار، 26 أبريل 2023).


التعامل مع الأزمة: آراء الخبراء

قال مصدر دبلوماسي سوداني مقيم في القاهرة لاندبندنت عربية، 26 أبريل 2023، إن: "الدور المصري في السودان الذي لطالما غلفته تعقيدات السياسة والحساسيات والمخاوف المكتومة المتبادلة، زاد من تحجيم وتأزم موقف القاهرة في التعاطي مع المشهد الحالي"، مضيفاً: "تدرك الأطراف السودانية خصوصية وأهمية وعمق العلاقات التي تربط القاهرة والخرطوم على المستويات الرسمية والشعبية، لكن إصرار القاهرة على إبقاء المكون العسكري ضمن أي توافق مستقبلي على السلطة، انعكس على رفض أطراف مدنية عدة أيَّ دور مصري في مسار تطورات الأزمة".

ويقول عضو مجلس أمناء الحوار الوطني في مصر ونائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية عمرو هاشم ربيع إن "تعقد الخيارات المصرية إثر حساسية دخولها في المشهد لا يعني رفع القاهرة يدها عن الملف لمصلحة أطراف أخرى"، مشيراً إلى أن "كثيراً من القوى المدنية في الجارة الجنوبية للقاهرة أصبح لديها موقف من الدور المصري، مما أثر في فاعليته بشكل مباشر وفي المصالح المصرية"، مشدداً على أن "الدعم المصري للتحول الديمقراطي في هذا البلد هو الكفيل على المدى البعيد بتحقيق الاستقرار في العلاقات بين البلدين، وبالطبع الاستقرار الداخلي في السودان". واعتبر أن "حال الفوضى في السودان مقلقة للشأن المصري إذا ما طال أمد الصراع المسلح، إذ تمثل السودان امتداداً طبيعياً للوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي في مصر".

من جهة أخرى، ترى الدكتورة أماني الطويل، الخبيرة المصرية في الشؤون الإفريقية، أن "أوراق القاهرة تبدو متنوعة على المستويين السياسي والعسكري. على الصعيد الأول، فإن علاقات القاهرة ماثلة في القوى السياسية السودانية، والشخصيات التي حضرت ورشة القاهرة في فبراير الماضي. وهي كل من فرع من الحزب الاتحادي الأصل بقيادة جعفر الميرغني، والفصائل الدارفورية المسلحة. أما على المستوي العسكري، فإن لديها توافقاً مع القوات المسلحة السودانية مؤسس على عقيدة عسكرية متقاربة". 

تذكر الخبيرة المصرية في مقال نشره موقع سودانيل في 21 أبريل 2023، أن: "توقيت طرح المبادرات، أيّاً ما كانت معطياتها أو الأطراف الشريكة فيها، وكذلك البحث في آليات تفعيلها -سواء من جانب مصر أو غيرها- هو مرتبط إلى حد كبير بالموقف الميداني على الأرض لكل طرف، ومدى تحقيقه لأهدافه التي توفر له وزناً مناسباً -طبقاً لتصوراته- على أي مائدة مفاوضات قد تكون مرتقبة. وذلك بالتوازي مع احتمال انزلاق السودان إلى حرب أهلية شاملة على الجغرافيا السودانية".

في سياق تعامل القاهرة مع الأزمة، يرى عمرو الشوبكي، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أنه "رغم أن موقف مصر يبدو في جوهره متعقلاً وحذراً ومدركاً حساسية الأوضاع في السودان، فإنه يحتاج إلى حضور أقوى على الساحة السودانية والإقليمية والدولية للتأكيد عليه". يوضح الشوبكي: "صحيح أن هناك جهوداً كبيرة تبذل من جانب القاهرة، لكن نحتاج إلى أن تكون أكثر كثافة مع مزيد من الفاعلية والديناميكية والحضور، فلا يكفيك فقط أن تكون عقلانياً ومحايداً مع إعلان رفض التدخلات الخارجية"، ويتابع "مصر بحاجة لإرسال رسائل طمأنة إلى جميع الأطراف السودانية، حتى لو كانت تميل ضمنياً إلى أحد الأطراف، فلا بد من الحفاظ على فاعلية الاتصالات مع الجميع"، (اندبندنت عربية، 26 أبريل 2023).

وفي ما يتعلق بالنزوح إلى مصر، قال الدكتور خالد عكاشة، مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، في حديث لبرنامج المشهد بقناة Ten TV المصرية بثته في التاسع من مايو 2023، إن النزوح السوداني إلى مصر سيمثل أكبر عبء أمني على الدولة المصرية في الفترة المقبلة.

ملفات إستراتيجية مشتركة

ينطلق الاهتمام الذي تنظر من خلاله القاهرة للنزاع الجاري في الخرطوم بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، من إدراك الإدارة المصرية الأهميةَ الإستراتيجية للسودان بالنسبة للمصالح المشتركة بين البلدين، والأضرار التي قد تلحق بها من الصراع. وتحمل العلاقات السودانية المصرية أهمية عميقة بالنسبة لكلا البلدين، نظراً للمجالات الإستراتيجية التي تتقاطع فيها اهتماماتهما، والتي تتضمن التالي: 

2/ البعد المائي

يعد نهر النيل مورداً محورياً لكل من مصر والسودان، حيث يعتمد كلا البلدين عليه بشكل كبير في الري ومياه الشرب وتوليد الكهرباء. لذلك، فإن البلدين لديهما مصالح مشتركة في إدارة الموارد المائية للنهر وضمان بقائه مصدراً مستداماً للماء للأجيال القادمة. الصراع الجاري يضعف الدولة السودانية ويشغلها عن شؤونها الخارجية، ما يؤثر على مصالحها المتعلقة بملفات حيوية مثل ملف الأمن المائي. وعلى الجانب الآخر، تتضرر القاهرة من ضعف الدولة السودانية التي تمثل حليفها الأكبر في موقفها تجاه سد النهضة الإثيوبي.

في السياق، أكد الدكتور أيمن السيد عبد الوهاب، نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، والخبير المتخصص في القضايا الإفريقية وشؤون المياه، أن أحداث السودان "ستؤثر مباشرة على أكثر من ملف ذي طبيعة إقليمية، بما في ذلك ملف سد النهضة، لاسيما مع اقتراب الملء الرابع، والذي من المتوقع أن يكون الأكبر من حيث كمية المياه التي تنوي إثيوبيا احتجازها"، الأمر الذي "يلقي بأعباء إضافية على القاهرة في إدارة هذا الملف الحيوي". أضاف عبد الوهاب أن أي احتجاجات أو تحفظات سودانية على قرار السلطات الإثيوبية ستكون "شبه منعدمة" في ظل الاضطراب الداخلي، (الشرق الأوسط، 16 أبريل 2023).


2/ البعد الأمني

تجمع البلدين حدودٌ مشتركة يبلغ طولها حوالي 1276 كيلومتراً، مما يجعل التعاون الأمني المشترك ضرورياً لمنع الإرهاب العابر للحدود وتهريب الأسلحة والأنشطة الإجرامية الأخرى. تعد مصر والسودان لاعبين إقليميين رئيسيين لديهما مصلحة مشتركة في الحفاظ على الاستقرار وتعزيز السلام في الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا. وقد عمل البلدان في السابق معاً على التنسيق في القضايا الإقليمية، المتعلقة بالصراعات في دول الجوار وجهود محاربة الإرهاب، من أجل ضمان الاستقرار الأمني في المنطقة.

على المستوى الجيوسياسي أيضاً تملك السودان امتداداً بحرياً على شاطئ البحر الأحمر لنحو 750 كيلومتراً تقريباً، ما يفاقم تأثير وتداعيات الصراع على أمن البحر الأحمر، الذي تكمن أهميته في كونه يمثل نظاماً فرعياً من إقليم الشرق الأوسط الذي يقع في قلب قوس عدم الاستقرار، كما حدده مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقاً، زبيغنيو بريجينسكي، وهو القوس الذي يضم الشرق الأوسط والقرن الإفريقي ومنطقة المحيط الهندي، كما يقع ضمن الإطار الجيوسياسي لمنطقة الخليج الإستراتيجية، (اندبندنت عربية، 28 أبريل 2023).

عوامل الموقع الجيوسياسي للسودان جعلته -طبقاً لحوار شخصي مع دبلوماسي بريطاني- غيرَ مسموح بسقوطه، وإلا تحولت المنطقة الجغرافية من سواحل البحر الأحمر وحتى شواطئ المحيط الأطلسي، إلى منطقة مهددات للأمن العالمي، (اندبندنت عربية، 28 أبريل 2023). عليه، يمكن أن يؤدي النزاع في السودان إلى زيادة عدد الجماعات المسلحة الإرهابية التي تنشط في المنطقة، مما قد يشكل تهديداً أمنياً على مصر والعالم. على سبيل المثال، إذا اكتسبت الجماعات المتطرفة موطئ قدم في السودان، مستغلة حالة التوتر في البلاد، فمن المحتمل أن تستخدمها كقاعدة عمليات تؤثر على أمن المنطقة وأمن مسار التجارة العالمية المحوري في البحر الأحمر.


3/ البعد الاقتصادي

تتمتع مصر والسودان بتاريخ طويل من التعاون الاقتصادي، حيث بلغت التجارة الثنائية بين البلدين 1.434 مليار دولار خلال عام 2022، مسجلة ارتفاعاً بنسبة 18.2% مقارنة بعام 2021، وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري. تشمل أهم الصادرات المصرية للسودان: المنتجات البلاستيكية والحديد والفولاذ والأسمدة والمنتجات الصيدلانية. وتتركز الواردات المصرية من السودان في أربع مجموعات رئيسة هي: البذور والفواكه الزيتية، والحيوانات الحية، والقطن، واللحوم.

يقول الخبير الاقتصادي المصري ممدوح الولي إن الأرقام الرسمية حول حجم التجارة بين البلدين "لا تعبر عن الواقع الحقيقي للتجارة بين البلدين، حيث توجد تجارة أخرى من التهريب عبر الحدود البرية بين البلدين، وكذلك عبر حلايب وشلاتين، إلى جانب البضائع التي تنتقل بصحبة عشرات الآلاف من السودانيين، المترددين إلى مصر على مدار العام في كلا الاتجاهين"، (الجزيرة، 20 أبريل 2023). مكانة السودان المهمة باعتبارها شريكاً تجارياً رئيسياً لمصر، تعكس حجم الأخطار الاقتصادية الناجمة عن التوترات الأمنية الحالية، التي من المرجح أن تؤدي إلى تعطيل التجارة بين البلدين. على سبيل المثال، إذا تعطلت الموانئ أو طرق النقل، فقد يؤثر ذلك على تدفق السلع والخدمات بين البلدين، مما تترتب عليه خسائر اقتصادية كبيرة للدولتين.


4/ البعد السكاني 

بين البلدين روابط اجتماعية متداخلة وامتدادات للقوميات على امتداد النيل والبحر الأحمر. وهو أمر متكرر بين السودان وجيرانه الثمانية. وفي حال استمرار النزاع في السودان لفترة طويلة، فمن المحتمل أن يبحث العديد من المواطنين السودانيين عن ملجأ في البلدان المجاورة، بما في ذلك مصر. وقد يؤدي ذلك إلى تدفق كبير للاجئين، مما قد يشكل ضغطاً على موارد مصر وبنيتها التحتية، لاسيما في المناطق القريبة من الحدود مع السودان. يتوقع المتخصص في دراسات السكان والهجرة، عضو المجلس القومي للسكان بمصر أيمن زهري، أنه في حال استمر الوضع في السودان على ما هو عليه، فما لا يقل عن 10 ملايين سوداني سيتركون السودان خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وأكبر الدول المستقبلة هي مصر وإثيوبيا وتشاد وإلى حد ما جنوب السودان.

يقدر زهري أعداد السودانيين المقيمين في مصر قبل الأحداث الحالية بمليونين أو ثلاثة ملايين سوداني لا أكثر، مؤكداً أن "التقديرات التي تشير إلى خمسة أو ستة أو عشرة ملايين فيها مبالغة ومزايدة"، ويشير إلى أن نسبة ليست قليلة من السودانيين المقيمين في مصر حالياً ليست من اللاجئين، بل ممن قدموا إليها بمقتضى بنود اتفاقية "الحريات الأربع" التي وقعتها مصر والسودان عام 2004، وقد نصت هذه الاتفاقية على حرية التنقل والعمل والإقامة والتملك، ورغم دأبِ عديدٍ من المنصات الإعلامية الغربية على مدار السنوات الماضية على انتقاد عدم تطبيقها كاملة على أرض الواقع، مع تلميحات دائمة بتحميل مصر المسؤولية الكبرى في عدم التطبيق، يبدو أن الواقع الذي كشفت عنه الأحداث الحالية يشير إلى عكس ذلك تماماً، (إندبندنت عربية، 26 أبريل 2023).

ووفقاً لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تستضيف مصر أكثر من 288,000 طالب لجوء ولاجئ مسجل من 60 دولة. معظمهم من سوريا، تليها السودان وجنوب السودان وإريتريا، وإثيوبيا، واليمن والصومال. يعيش اللاجئون وطالبو اللجوء في بيئة حضرية في مصر، ويتركزون إلى حد كبير في القاهرة الكبرى والإسكندرية ودمياط والعديد من المدن في الساحل الشمالي. في السنوات الأخيرة، أثرت الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر بشكل كبير على قدرتها على استضافة المزيد من اللاجئين.


نقاشات واستنتاجات

تتجاوز أخطار الصراع الجاري حدود السودان، إذ يمثل خطراً حقيقياً على أمن المنطقة والعالم بشكل عام، نظراً لموقع السودان الإستراتيجي على البحر الأحمر، ما يجعل حالة الانفلات الأمني الحالية وما قد يتبعها من استغلال التنظيمات الإرهابية هذه الظروفَ للتوسع داخل السودان، مصدرَ تهديد كبير على مسار التجارة العالمية في البحر الأحمر، والدول المشاطئة له، بما في ذلك مصر.

بالنسبة لمصر، يتصدر ملف سد النهضة والأمن المائي قائمة الملفات التي ستتأثر من النزاع الجاري في السودان؛ فإن حالة الفوضى الأمنية وضعف الدولة السودانية، تعني ضعف موقفها الداعم لمصر في هذا الملف. أما بالنسبة للسودان، فهذه الحرب تشغلها عن الاهتمام بملفات حيوية متعلقة بمصالحها العليا، مثل ملف الأمن المائي. من جهة أخرى، احتمال توسع حالة الانفلات الأمني الجاري في السودان في منطقة تعاني بالفعل من الاشتباكات المسلحة، من شأنه أن يعزز الأخطار الأمنية في دول الجوار التي تشهد بالفعل توترات واشتباكات عنيفة مثل ليبيا وتشاد.

تقول أماني الطويل إن "السيناريو الأكثر رعباً للقاهرة هو الانزلاق إلى الحرب الأهلية الشاملة في السودان. وذلك بطبيعة تداعياتها على الأمن الإقليمي من ناحية، وخطورة أن تتحول إلى إحدى مفردات الصراع الدولي المترتب على الحرب الروسية - الأوكرانية من ناحية أخرى. وكذلك لتداعياتها المتوقعة بشأن نزوح سكاني سوداني نحو مصر، بدأ بالفعل مع انهيار حكومة عبد الله حمدوك، وافتقاد وجود حكومة سودانية تقوم بمهماتها الوظيفية، ما عطل القطاع التعليمي وأضعف القطاع الصحي. وهما المفردتين الرئيستين المؤثرتين على حياة الناس اليومية"، (سودانيل، 21 أبريل 2023).

وعلى الرغم من التقلبات التي مرت بها العلاقات المصرية السودانية، تبقى الأهمية المحورية لكل من البلدين بالنسبة للآخر العاملَ الثابت على مر الزمان. يحتم ذلك، تواصل القاهرة مع طرفي النزاع وبذل أقصى الجهود للتوصل إلى حل للأزمة يستعيد الاستقرار في البلاد. في السياق، يذكر الكاتب والمحلل السياسي السوداني مجدي عبد العزيز أن "السودان يتطلع إلى مزيد من الجهود المصرية التي لا تستند على أجندات المصلحة، وإنما تحرص على وحدة السودان التي تعد أمناً قومياً لمصر، وهناك تطابق في السياسات بين البلدين في هذا الصدد. ومصر، بما لديها من خبرة في مختلف المجالات، تستطيع تحقيق التكامل مع السودان بما يحقق مصالح الشعبين"، (موقع الوطن نيوز، 9 أبريل 2023).


1.3K