
منذ بداية
الحرب في غزة، انحسر حيز التغطية الإعلامية للحرب في أوكرانيا بشكل ملحوظ، وهو ما
كان متوقعا لعدة أسباب منها ما هو زمني مرتبط بما هو مستجد وأقرب إلى الذاكرة،
ومنها ما هو رمزي تحيطه الإيديولوجيا وتتخلله. لكن على الرغم من ذلك، لا يزال القتال
في أوكرانيا مشتعلا وفي غاية الخطورة، لما له من تبعات على المشهد السياسي
والعسكري والاقتصادي العالمي، وما يحمله من تهديدات التصعيد المحتملة نحو مواجهة
مباشرة بين القوى العسكرية العظمى. يمر هذا الصراع العنيف بمراحل محورية، في الوقت
الذي انشغل فيه الرأي العام عالميا بالحرب الجديدة.
تواردت في
الآونة الأخيرة تقارير حول دفع واشنطن كييف نحو مسار التفاوض مع موسكو سرا، بينما
يحافظ مسؤولوها على الخطاب العلني الداعم لأوكرانيا بشكل كامل في الصراع. الكشف عن
هذه المحادثات السرية في حد ذاته، يمكن اعتباره محاولة من واشنطن لجس النبض وتقييم
مدى انفتاح الجانبين على فكرة التفاوض، إذ يتوجب الأخذ في الاعتبار أنّ الإشكالية
ليست محصورة في موسكو فقط، فالأصوات المناهضة لأي تفاوض مع الكرملين في كييف لا
تزال قوية، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدتها أوكرانيا، وفشل الهجوم
المضاد في استعادة أي من الأراضي التي سيطرت عليها روسيا.
من المؤكد
أن النفوذ الأميركي مستحوذ على صناعة القرار في أوكرانيا إلى حد كبير، لكن لا يجب
المبالغة في قدرة واشنطن على إيقاف الحرب في حال قررت ذلك، فكييف لا تزال تحوز
هامشا من المبادرة، لا سيما وأنّ الأوكرانيين هم الذين يقاتلون على الأرض. صحيح أن
قدرة أوكرانيا في الاستمرار في الحرب مرتبطة بالدعم العسكري الغربي، إلا أنّ
سيناريو تلويح القوى الغربية بوقف الإمدادات العسكرية في حال لم توافق كييف على
الجلوس على طاولة التفاوض مستبعد، ليس لقدرة كييف على عدم الامتثال ولكن لغايات
مصلحية غربية، إذ يمثل وقف الدعم العسكري لأوكرانيا بشكل مفاجئ في هذه المرحلة
تخليا كاملا عن أي مكسب استراتيجي مقابل الاستثمارات الضخمة التي ضخها الغرب في
هذا الصراع.
النظر إلى
إشكالية المفاوضات من هذه الزاوية يوضح جانبا من المناورة الأوكرانية في التعامل
مع صناع القرار في واشنطن وحلفائها الأوروبيين، فهم مجبرون على الاستمرار في الدعم
العسكري لكييف للوصول إلى مرحلة ينضج فيها التفاوض، وإلا خرجوا من أهم استثماراتهم
في الوقت الراهن دون تحقيق أية مكاسب استراتيجية. غير أن ذلك لا يمنع من أن تسعى
القوى الغربية إلى توظيف نفوذها في الضغط على كييف للانخراط في مفاوضات مع موسكو، بل
قد يكون من المهم الدفع بهذا الاتجاه في الوقت المناسب.
روسيا في
المقابل، دفعت ثمنا باهظا من خسائر اقتصادية وبشرية وسياسية وغيره جراء عمليتها
العسكرية في أوكرانيا. الغرب ينظر إلى أنّ ثمن المغامرة العسكرية قد يتحوّل إلى
عامل محفّز للدفع بقبول روسيا بالتفاوض والانخراط بالترتيبات السياسية التي قد
تكسب موسكو ما لم تكسبه الآلة العسكرية. وانطلاقا من هذا الاعتقاد، يتبيّن أن
الولايات المتحدة تسعى لرفع التكلفة على روسيا بدرجة توازي مستوى يقابل روسيا
بالردع في حال فكّرت بالمغامرة في الأرض الأوكرانية مرة ثانية بمعزل عن المكتسبات
المتصوّرة لدى روسيا من العملية الحالية أو أي عملية مستقبلية.
من الواضح
أن أطراف الحرب في أوكرانيا تكبدت الكثير من الخسائر، وقد يصف البعض الحرب الروسية
الأوكرانية باللاعقلانية، إلا أنّ إعادة تشكيل ملف النزاع الروسي الأوكراني كان المقصد
ابتداءً من المبادرة الروسيّة في العملية العسكرية وإن ظهر أنّ المعادلة صفرية
بامتياز، لأنّها لم تكن كذلك.
فحتى مع
سيناريو التوصّل لمرحلة ما قبل التفاوض، والتي قد تكون بدأ الحديث عنها سرا، ومن
ثمّ مرحلة التفاوض الآتية لا محالة، سيتحقق الهدف الروسي من إعادة تشكيل هذا الملف
في تصوّر الغرب من عدة وجهات تبدأ مع وجهة الأمن الأوروبي وتخترق الفضاء الجيوسياسي
وتؤكّد أنه فضاء لا يمكن تجاوزه تحليلا، وتصله بوجهة النظام الدولي. ولن يكون
الغرب بمنأى عن هذا التشكيل، فقد أسهم الغرب في ذلك وحسّن شروط التفاوض ولم يقبل
أن تكون الوجهة النهائية من اختيار روسيا.