بعد توقف حوار المجلسين المتنافسين في ليبيا حول مصير البلاد بشكل مفاجئ في مطلع 2023، اجتمع كل من "عقيلة صالح" رئيس مجلس النواب، و"خالد مشري" رئيس مجلس الدولة الأعلى، في 5 يناير بالقاهرة، وتعهدا في بيان غامض الصياغة بإحالة الدستور المعدل للدراسة (بوابة الوسط، 06 يناير 2023). وأعقب ذلك استضافة القاهرة في 11 يناير لقاء رئيس المجلس الرئاسي "محمد منفي" وقائد الجيش الوطني "خليفة حفتر" (حفريات، 17 يناير 2023). وبالرغم من تلك الجهود رفض "صالح" التوقيع على وثيقة الاتفاقيات الرئيسية بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، وأكد على أن النواب هو الهيئة التشريعية الوحيدة، وأنه لا يحتاج إلى موافقة المجلس الأعلى (القاهرة 24، 26 يناير 2023). وهكذا تعقدت الأزمة بشكل يقدم دلالة واضحة على أن كافة الأطراف لا يهمها إلا مصالحها خاصة.
وللضغط من أجل الانتخابات، قام مدير وكالة المخابرات الأمريكية "وليام بيرنز" في 12 يناير بزيارة ليبيا (بوابة الوسط، 13 يناير 2023)، تلك الزيارة التي لم يعلن عنها الجانب الأمريكي، ولكن بعد أن التقى برئيس الوزراء "عبد الحميد الدبيبة" سارع مكتبه بالإعلان من جانبه عن تفاصيل الزيارة، كذلك التقى أيضا بالمشير "حفتر" في بنغازي دون إعلان، مما يقدم دلالة على أن واشنطن تحاول القيام بدور في ليبيا من خلف الكواليس.
وفتحت زيارة "بيرنز" الباب لتدخلات الجانب التركي الذي يعرف جيدا أن واشنطن لا تريد لتركيا أي نشاط في ليبيا، حيث زار رئيس المخابرات التركية "هاكان فيدان" طرابلس في 17 يناير، والتقى بالدبيبة ومشري وقادة بعض الجماعات المسلحة في محاولة لحسم الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية المتنازع عليها (نون بوست، 18 يناير 2023). وتأتي الزيارة بعد احتجاج المؤسسة الوطنية للنفط على عمليات التنقيب المستمرة في أثينا في المياه المتنازع عليها مع اليونان، وقرار محكمة الاستئناف في طرابلس في 9 يناير بتعليق تنفيذ اتفاق ليبيا وتركيا بشأن التنقيب عن النفط والغاز.
لم تأت زيارة "بيرنز" من فراغ، فالأزمة الحقيقية في ليبيا تتمثل في أن كل طرف يرسم مسارا أحاديا للخروج من الأزمة السياسية، وهو ما يقلق الجانب الأميركي، خاصة والتنافس بين موسكو وواشنطن على أشده، وأي تراخي للجانب الأميركي في التعامل مع القضية الليبية سيمنح فرصة تدخل قوية للجانب الروسي.
إن البرلمان الليبي يواصل تعديل الدستور بمعزل عن باقي الأطراف، تلك التعديلات التي تدعو إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة في غضون 240 يوما من اعتماد قوانين الانتخابات. الأمر الذي دفع منتقدو النواب إلى اتهامه بالسعي لكسب الوقت، كما انتقد المبعوث الأممي "عبد الله باثيلي" في 27 فبراير التعديلات ووصفها بأنها لا تنص على خريطة طريق واضحة، واقترح تشكيل لجنة توجيهية تتألف من ممثلين عن المؤسسات السياسية والأمنية وقيادات قبلية ومدنية، لتسهيل اعتماد إطار قانوني وخريطة محددة زمنيا لتمكين الانتخابات في 2023 (أصوات مغاربية، 28 فبراير 2023). وفي خطوة أخرى أحادية الجانب، اقترح رئيس النواب "عقيلة صالح" في 16 فبراير تشكيل لجنة من 45 عضوا، لاتخاذ قرار بشأن مجلس تنفيذي جديد يحل محل الحكومتين الموجودتين (ليبيا الحدث، 16 فبراير 2023).
وعلى أية حال، فإن هذه هي المرة الأولى التي تجري فيها ليبيا انتخابات رئاسية، والصلاحيات الممنوحة للرئيس ضخمة، والمفترض أن تثبت كل الأطراف حسن نواياها بتعديل هذا الأمر قبل الانتخابات، بتحجيم دوره وتفعيل صلاحيات متوازنة بينه وبين النواب والحكومة. ويتشكك العالم الآن في وجود سبيل محدد لحل الأزمة الليبية، حتى أنه حينما رحبت الأمم المتحدة بآلية التنسيق لسحب المقاتلين الأجانب، بعد اجتماع بعثتها في 8 فبراير مع لجنة 5+5، وكذلك لجان جهود اتصال من السودان والنيجر التي انطلقت من القاهرة، لم تجد المنظمة أي استجابة من أنقرة لسحب قواتها من طرابلس، أو روسيا لسحب مرتزقة فاغنر من شرق ليبيا.
لقد وصل الحوار بين المجالس المتنافسة حول تعديل مسودة الدستور إلى طريق مسدود، واستمرت الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية، ولا توجد إشارات حول إمكانية التعامل الجاد في ملف المرتزقة. كل ذلك أدى إلى جمود أثار مخاوف القوى الإقليمية والدولية. ويبدو أن البلاد تحتاج إلى مبادرات جديدة تغير هذا الموقف، فهناك حاجة لأن يلعب مبعوث الأمم المتحدة دورا استباقيا في تنسيق المواقف الدولية للضغط من أجل دفع الأوضاع إلى الأمام. ومما لا شك فيه أنه إذا وجدت مصر والإمارات من جهة وتركيا من جهة أخرى، طريقة مثالية للعمل معا في الشأن الليبي، فإن ذلك سوف ينعكس بشكل إيجابي على العملية السياسية الليبية.