مع انتهاء الهدنة السياسية التي أعلنها إيمانويل ماكرون خلال دورة الألعاب الأولمبية بين 26 يوليو و11 أغسطس، انتظر الرئيس الفرنسي حتى تنقضي مراسم إحياء الذكرى الثمانين لتحرير منطقة بروفانس، قبل أن يدعو القادة السياسيين والبرلمانيين إلى مشاورات في قصر الإليزيه بهدف تشكيل حكومة جديدة، قبل موعد دورة الألعاب البارالمبية التي ستقام بين 28 أغسطس و8 سبتمبر المقبل.
وقد بدأت الاجتماعات
في 23 أغسطس، بعد أزمة مستمرة استمرت لأسابيع بين الرئاسة واليسار الفرنسي، حول
تعيين لوسي كاستيه مرشحة التحالف اليساري الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة،
والتي لا يرغب ماكرون واليمين الفرنسي في تعيينها أو أي شخص آخر من حزب فرنسا
الأبية. وقد أكدت كاستيه بدورها فور وصولها
لمقر الاجتماع أنها تحمل حلا للاستقرار في البلاد (France24: 23
August 2024).
ولم يسبق أن
أخذ رئيس فرنسي كل هذا الوقت لتعيين رئيس حكومة بعد انتخابات تشريعية، كما لم يحدث
أن تشكلت جمعية وطنية مشتتة إلى هذا الحد بدون أن تتبلور فيها أي أغلبية، وخارجة تماما
عن تقاليد الجمهورية الفرنسية الخامسة. فعلى الرغم من فوز
ائتلاف ماكرون الوسطي "إنسامبل" بعدد مقاعد أكبر من حزب التجمع الوطني،
فإن التحالف اليساري المعروف باسم الجبهة الشعبية الجديدة انتهى به الأمر إلى الحصول
على أكبر عدد من المقاعد، ولكن لا يزال بدون أغلبية إجمالية. وهذا يعني أن البرلمان منقسم إلى ثلاث كتل كبيرة مع اختلافات
أيديولوجية أكبر، وبعد ستة أسابيع من انتهاء التصويت ووضوح النتيجة، لا تزال
البلاد لديها نفس أعضاء الحكومة ونفس رئيس الوزراء غابرييل أتال.
ويتمسك الرئيس
برفضه تكليف الجبهة الشعبية الجديدة، إذ يرى مكتبه أن حكومة برئاسة كاستيه تضم
أعضاء من فرنسا الأبية ستتعرض لا محالة لحجب الثقة. كما أن المعسكر الرئاسي الوسطي
لا يريد المجازفة بتقديم مرشح، حيث استبعد الجمهوريون اليمينيون بصورة قاطعة
احتمال إبرام اتفاق حكومي، في وقت بدأت الأنظار تتجه فيه إلى الميزانية التي ينبغي
عملا بالدستور تقديمها إلى البرلمان في مطلع شهر أكتوبر المقبل، ما يحتم التداول
بشأنها في مجلس الوزراء في نهاية سبتمبر، وهذا يتطلب أولا تشكيل حكومة (Telexpresse:
21 August 2024). ويتضمن جدول اللقاءات دعوة الزعماء اليمينيين المتطرفين جوردان
بارديلا ومارين لوبان من حزب التجمع الوطني إلى القصر الرئاسي أيضا. وبعد ذلك سيتشاور
إيمانويل ماكرون مع رئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ (Euronews: 23
August 2024). ولذلك من المرجح ألا يعلن اسم رئيس الوزراء الجديد قبل الثلاثاء.
ويبدو أن
ماكرون يتطلع إلى تعيين برنار كازينوف من الحزب الاشتراكي، الذي شغل سابقا منصب
رئيس الوزراء من عام 2016 إلى 2017، ولديه خبرة وزارية كبيرة على مستوى عال، أو
إذا كان الخيار الأكثر يمينية هو المفضل فإنه سينظر في تعيين زافييه بيرتراند من
حزب الجمهوريين (China Daily: 23 August 2023). ولكن على الرغم من أن لديه خيارات إلا أنها مع ضغوط اليسار تبدو
محدودة للغاية.
إن التشرذم
الحالي للبرلمان الفرنسي من شأنه أن يضعف دور فرنسا في الاتحاد الأوروبي وخارجه،
ويجعل من الصعب على أي شخص أن يدفع بأجندة محلية. ويترك ذلك فرنسا التي تعد ثاني
أكبر اقتصاد في منطقة اليورو في حالة من عدم الاستقرار السياسي قبل أسابيع فقط من
استضافة باريس للألعاب البارالمبية. كما
يتعين على فرنسا تقديم خطتها متوسطة المدى لتصحيح مسارها المالي إلى
المفوضية الأوروبية بحلول 20 سبتمبر، بعد وضعها تحت إجراء العجز المفرط، وذلك
يستلزم حكومة فرنسية مستقرة لكي تقوم بذلك بشكل لا يضر بصورة فرنسا أمام شركائها.
الآن ومع تأخير
تسمية رئيس وزراء جديد، ترى الأوساط اليسارية أن الرئيس الفرنسي يحاول إنكار نتائج
الانتخابات الأخيرة التي خسرت كتلته خلالها 73 مقعدا. حيث صرح ماكرون في 11 يوليو
الماضي بأن أحدا لم يفز في الانتخابات المبكرة. وترى هذه الأوساط أن هذا الإنكار
محاولة لتجنب تعيين شخصية يسارية كرئيس للحكومة لتجنب سيناريو العيش المشترك
والحفاظ على سيطرته على ولايته حتى تنتهي في عام 2027. وتحذر آراء أخرى من أن هذا
الجمود السياسي قد يتفاقم إلى أزمة نظامية، حيث إن إطالة الفجوة بين نتائج
الانتخابات وتعيين رئيس وزراء جديد من شأنه أن ينتهك الدستور، وخاصة المادة 3
المتعلقة بسيادة الشعب، والمادة 5 التي تلزم الرئيس بضمان استمرارية الدولة،
والمادة 20 المتعلقة بالنظام البرلماني. ومن الناحية الدستورية، لا يمكن استخدام
الحجة القائلة بأن أي حكومة محتملة لن تحظى بثقة البرلمان لتبرير تأخير التعيين (Politics: 21
August 2024).
على أية حال، يضعنا
الموقف الحالي أمام عدة سيناريوهات محتملة، أولها تشكيل حكومة من الجبهة اليسارية
التي تحظى بأعلى نسبة مقاعد بقيادة لوسي كاستيه على الرغم من معارضة ماكرون.
وثانيها تعيين شخصية يمينية لتشكيل الحكومة، حيث حصل اليمين على أغلبية نسبية تبلغ
235 مقعدا، بناء على تحالف بين الكتلة الماكرونية والحزب الجمهوري اليميني الذي
ينتقده اليسار باعتباره "ائتلاف المهزومين". وذلك بقيادة كزافييه
بيرتراند. وثالثها تشكيل ائتلاف ديمقراطي اشتراكي، وستحظى هذه الحكومة بأغلبية
نسبية تبلغ 278 مقعدا، وهي قريبة من الأغلبية المطلقة، على أساس ائتلاف ديمقراطي
اشتراكي بين الوسط "الكتلة الماكرونية" واليسار المعتدل "الاشتراكيون
والخضر والشيوعيون"، ومن الممكن أن يقود هذه الحكومة برنار كازينوف. وأخيرا تشكيل حكومة ائتلافية كبرى باستثناء المتطرفين، وهذا
هو السيناريو الوحيد بين الخيارات النظرية التي يمكن أن يحقق أغلبية مطلقة تصل إلى
356 مقعدا. وتشمل كتلة ماكرون واليسار المعتدل والجمهوريين.