حافة الهاوية ضمن 'الحرب بين الحروب'.. أخطار عالية

تقديرات

حافة الهاوية ضمن 'الحرب بين الحروب'.. أخطار عالية

29-Dec-2023

يدور الصراع الإسرائيلي الإيراني ضمن إستراتيجية تسميها تل أبيب "الحرب بين الحروب"، تتمثل في صراع إستراتيجي مستمر بين الدولتين، نشط في أغلب حالاته لكنه ليس مباشراً، تتخلله أحداث متفرقة يستهدف من خلالها كلٌّ منهما إضعافَ الآخر.

حالات النشاط هذه تمر عبر عمليات تصعيدية مختلفة، يُوظَّف فيها عددٌ من السياسات، من بينها ما سمّته إيران "الصبر الإستراتيجي" ويقتضي عدم الرد على العمليات الإسرائيلية التي تدخل ضمن سياسة إسرائيلية تسمى "قطع رأس الأفعى" كما حصل في اغتيال ضباط رفيعي المستوى من الحرس الثوري، وعلماء نوويين إيرانيين، حيث تجنبت طهران الرد كي لا تفسد مفاوضاتها النووية مع أمريكا، ولتتمكن من التحرر من بعض العقوبات.

في حالات أخرى توظف إيران ما يسمى "سياسة حافة الهاوية" وهي عكس الصبر الإستراتيجي تماماً، حيث تقوم بالتصعيد بشكل ينذر بجر المنطقة كلِّها إلى صراع بالغ الخطورة. خلال هذا التصعيد تراهن طهران، وكذلك تل أبيب، على أن كلتيهما لا تريد الانزلاق إلى صراع مباشر، كما تدرك الدولتان أن الولايات المتحدة ستتحرك بسرعة "لإطفاء الحريق" قبل استفحاله، تجنباً لانجرارها إلى صراع أوسع في الشرق الأوسط.

انطلاقاً مما سباق، فإن أهم عنصر في توظيف هذه السياسة هو معرفة أين ومتى يجب التوقف، وكيف ومتى يجب التصعيد وبأي وسيلة، وما هي حدود التمادي؛ لحفظ التوازن بين الأخطار العالية جدّاً والهدف الأساسي، وهي كلها عناصر تبدو غامضة في الوضع الراهن الذي تعيشه المنطقة، حيث تتبادل إسرائيل وإيران التصعيد ضمن هامش ضيق جدّاً لتجنب الانزلاق إلى صراع مباشر.

الحزم والردع

سياسة حافة الهاوية هي إستراتيجية تُستخدَم في المفاوضات أو الصراعات حيث يقوم أحد الأطراف عن عمد باتخاذ إجراءات تزيد احتمالات التوصل إلى نتيجة سلبية؛ من أجل الضغط على الجانب الآخر لتقديم تنازلات. والفكرة هي أنه من خلال تقريب الجانبين من الصدام، يمكن للطرف الذي يستخدم سياسة حافة الهاوية أن يجبر الجانب الآخر على التراجع والموافقة على مطالبه.

هذه السياسة عالية الأخطار ويمكن أن تأتي بنتائج عكسية إذا لم يكن الجانب الآخر على استعداد للتراجع، وغالباً ما يُنظر إليها على أنها طريقة متهورة في إدارة الصراعات، وقد تم استخدامها عبر التاريخ وكانت لها نتائج معينة، كما حصل في أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت تؤدي إلى حرب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

اختبرت المنطقة هذه السياسة عدة مرات خلال السنوات الماضية، خاصة عندما قامت الولايات المتحدة بتصفية قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني مطلع 2020، وما ترتب عن تلك العملية من إسقاط إيران مسيَّرة أمريكية، والصاروخ الذي ضرب بالخطأ طائرة مدنية أوكرانية، وهو مشهد بالغ الخطورة تحول إلى فوضى، وتطلّب جهداً كبيراً جدّاً للسيطرة عليه، دون تحقيق مكاسب ملموسة، وصولاً إلى هجوم حماس الأخير في السابع من ديسمبر 2023.

هجمات حماس وارتداداتها

يمكن تصنيف هجمات حماس في الـ 7 من أكتوبر الماضي ضرباً من ضروب سياسة حافة الهاوية، بأهداف كانت لدى حماس، وتقول إنها كانت مدركة للثمن الذي ستدفعه من أجل تحقيقها. إلى الآن ورغم الحصيلة البشرية المرعبة، فإن حماس تواجه حكومة يمينية في إسرائيل لا تميل إلى التنازل، وتفضل الحزم والردع لكسر مسار سياسة حافة الهاوية وتفريغها من قوتها التي ستَعُوق تحقيق أهدافها.

في هذا الجزء من الحرب الخطِرة في غزة، والتي يمكن إدراجها أو إدراج تطورها ضمن حرب إسرائيلية إيرانية أوسع، تستعمل إسرائيل نفسُها حافة الهاوية كأداة من أدوات الردع، وقد شهدنا ذلك مؤخراً بتصفيتها مسؤولاً كبيراً من الحرس الثوري في سوريا، وتوعد إيران بالرد على إسرائيل، وتصريحات المتحدث باسم الحرس الثوري بأن هجمات حماس في الـ7 من أكتوبر كانت بحد ذاتها ردّاً على مقتل قاسم سليماني، وأن عمليات مماثلة ستستهدف إسرائيل.

هذه التصريحات قد تؤدي إلى تصعيد ضمن سياسة حافة الهاوية، ينذر برؤية المزيد من التحركات الخطِرة، والتي قد تكون متهورة في بعض منها. فلا نستبعد استهدافاً إسرائيلياً للحوثيين، وضربات أكثر جرأة على الجبهة الشمالية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، وتحركات فوضوية من قبل المليشيات العراقية، التي بدورها تجاوزت حدود حافة الهاوية عندما أصابت ثلاثة جنود أمريكيين، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى الرد بقوة فيما بدا أنها محاولة لضبط إيقاع الصراع.

بالنتيجة، لا يمكن إلى الآن بناء فرضيات متينة حول نتائج سياسة حافة الهاوية التي وظفتها إيران في البداية، وتصعد من خلالها إسرائيل اليوم. على الصعيد الأمني، فإن إيران أبدت في السنوات الأخيرة براغماتية أو انفتاحاً دبلوماسياً قد تكون "مطمئنة" نوعاً ما بأنها ستحفظ حدود التصعيد وتراعي أخطار الانزلاق. إسرائيل من جهتها، ورغم صعوبة التنسيق مع الحكومة الحالية، فإن تحركاتها تُبدي نوعاً من التريث، ومن "مراعاة" حدود التصعيد، وهو ما يتم بضغط وحرص أمريكي كبيرين.

بالمحصلة، إذا استمر هذا الوضع فإن الحرب الحالية ستستنزف المزيد من الموارد المالية والبشرية والسياسية، لكنها لن تنزلق إلى صراع أوسع على الأرجح، إلا أن هذا لا يعني إمكانية المراهنة على قدرة إسرائيل وإيران على تجنب التصعيد الذي قد يؤدي فعلاً إلى توسيع الصراع أو التحول إلى صراع أخطر يتجاوز حافة الهاوية.

323