بعد أيام من بدء أعمال الشغب في أرخبيل كاليدونيا الجديدة، وإعلان حالة الطوارئ في 15 مايو الجاري، قرر الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" استعادة السيطرة على الأحداث، بزيارة مفاجئة إلى العاصمة نوميا، حيث لا تزال المدينة مسرحا لاشتباكات محلية عنيفة (Le Monde: 23 May 2024). وتكمن المشكلة الأساسية في رغبة فرنسا بتعديل الدستور لجذب كتلة تصويتية من المهاجرين الفرنسيين، تُضعف بها فرص السكان الأصليين في الحصول على استقلالهم بالطرق الديمقراطية المشروعة. مما أثار غضب الإقليم، فانتشرت أعمال الشغب في المناطق الحضرية، واشتعل فتيل أزمة تُركت لسنوات في طي النسيان، نظرا لرغبة فرنسا في التحرك إلى الأمام دون تقديم حلول جذرية تقرر مصير السكان. فعلى الرغم من انتهاء الموجة الاستعمارية منذ أواسط القرن العشرين، وانسحاب الجيش الفرنسي من مستعمرات ما وراء البحار، إلا أن باريس ظلت جاثمة على تلك الدول، وفرضت عليها نوعا من الأبوية السياسية والاقتصادية والثقافية.
وكاليدونيا الجديدة هي إقليم فرنسي يقع في جنوب غرب المحيط الهادئ بالقرب من سواحل أستراليا. يبلغ عدد سكانه حوالي 270000 نسمة، حيث يشكل شعب الكاناك الأصلي 44% من السكان، ويشكل الكالدوتشي الفرنسيون 34%، والأقليات العرقية الأخرى (الواليزيون والتاهيتيون) 22%. وقد أصبحت إقليما فرنسيا في عام 1946، واعتبرتها باريس منفى للمتمردين من مستعمراتها الأخرى، كالجزائر ووسط إفريقيا وغربها. وللإقليم ممثل في مجلسي البرلمان الفرنسي، بينما يشغل رئيس فرنسا منصب رئيس الدولة في الإقليم. وتحتفظ فرنسا فيه بالولاية القضائية على الدفاع والأمن الداخلي.
إن الاضطرابات الحالية في كاليدونيا الجديدة ليست الأولى، ففي عام 1988، اندلعت أعمال عنف واسعة النطاق بين الكالدوتشي والكاناك، بسبب رغبة الأصليين في الحصول على حقوقهم السياسية، بما في ذلك الحكم الذاتي، وتم التوقيع على اتفاق ماتينيون، الذي وعد بمنحهم الاستقلال، وأعقب ذلك في عام 1998 اتفاق نوميا الذي سمح بإجراء ثلاثة استفتاءات لتقرير المصير، مع اقتصار حقوق التصويت على الكاناك وغيرهم ممن عاشوا في الإقليم قبل عام 1998. وكجزء من الاتفاق، واصل السكان التصويت في الانتخابات الوطنية للرئيس الفرنسي والجمعية الوطنية في باريس، ولكن تم تقييد عدد الأشخاص الذين يمكنهم التصويت في انتخابات المقاطعات واستفتاءات الاستقلال، ومنع المهاجرين الجدد من هذا الحق (France Info: 26 March 2024).
وفي أعقاب حكم أصدره المجلس الدستوري الفرنسي في عام 1999، تم قصر التصويت على المقيمين لمدة عشر سنوات فقط، وهو ما أطلق عليه اسم Frozen Electorate ووعد الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" بتعديل الدستور الفرنسي بناء على هذا الحكم (Le Monde: 20 Jan. 2005)، ذلك الأمر الذي استغرق سنوات، حتى صوت البرلمان لصالح التعديل في السنة الأخيرة من ولايته عام 2007.
وخلال الفترة (2018 – 2021) أجرت كاليدونيا الجديدة ثلاثة استفتاءات على الاستقلال، صوتت جميعها لصالح البقاء جزءا من فرنسا، على الرغم من مقاطعة معظم مؤيدي الاستقلال لاستفتاء 2021. وتقرر في المرحلة الانتقالية بعد الاستفتاء إجراء مراجعة لاتفاق نوميا، وبالتالي إجراء تغييرات على الدستور الفرنسي. ولكن المقاطعة تسببت في شلل مؤسسات الإقليم، وتقرر تأجيل الانتخابات المحلية إلى ديسمبر 2024 (Juspoliticum Blog: 3 Jan 2022). وفي 26 ديسمبر 2023، خلص مجلس الدولة إلى أن القواعد الحالية لا تضمن شرعية الاقتراع العام، لأنها حرمت الأشخاص المولودين أو المقيمين من حق التصويت لعدة عقود.
وهكذا، بدأت الحكومة الفرنسية مراجعة الدستور في بداية عام 2024، وتقرر الإبقاء فقط على شرط الإقامة لمدة عشر سنوات متواصلة، ومعظمهم مهاجرون فرنسيون. وبذلك سيحصل ما يصل إلى 25841 شخصا من أصل 42000 مستبعد من الناخبين على حقوق التصويت. حوالي 12441 ممن ولدوا ونشأوا في كاليدونيا الجديدة سيحصلون على هذا الحق تلقائيا، ويمكن لما يصل إلى 13400 مع إقامة متواصلة لمدة عشر سنوات في الجزيرة أن يطلبوا ذلك. وسيظل إجمالي 16 ألف مواطن أصلي مستبعدين من المشاركة (يمكن الاطلاع على التعديلات في موقع مجلس الشيوخ Senat بتاريخ 20 مارس 2024).
وبطبيعة الحال، أدت تلك التعديلات إلى حدوث جدل كبير بين طوائف الإقليم، وخرجت مسيرات متنافسة، ما بين مؤيد ومعارض، في نوميا يوم 12 إبريل الماضي. نظمت المسيرة المؤيدة للاستقلال لجنة تنسيق العمل الميداني المقربة من جبهة الكاناك. أما المسيرة المؤيدة فقد نظمها الحزبان المواليان لفرنسا. وقالت المفوضية العليا الفرنسية إن إجمالي 40 ألف شخص (15% من السكان) حضروا المسيرات. وفي ظل إجراءات أمنية مشددة تم إرسال تعزيزات أمنية خاصة من باريس للحفاظ على النظام (موقع راديو نيوزيلاندا RNZ: 15 إبريل). ولكن حينما صوتت الجمعية الوطنية لصالح التعديلات الدستورية في 14 مايو، قال القادة المحليون إن منح المهاجرين الأجانب حق التصويت من شأنه أن يخفف من أصوات الكاناك ويزيد من حصة التصويت للسياسيين الموالين لفرنسا، فاندلعت أعمال العنف في أرجاء العاصمة، ودارت اشتباكات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين أدت إلى إعلان حالة الطوارئ (ABC News: 14 May).
تحاول فرنسا الترويج لفكرة أن الاقتصاد والبطالة كانا من العوامل الأساسية للاضطرابات، بسبب تعرض اقتصاد تعدين النيكل المحلي للانكماش، حيث تمتلك كاليدونيا الجديدة 30% من احتياطي النيكل في العالم. ويشكل تعدين النيكل 90% من إجمالي الصادرات، ويعمل به 25% من القوى العاملة. وبحلول عام 2023، انخفضت ربحية قطاع النيكل بسبب القيود الحكومية على التصدير. وقد حذرت السلطات الفرنسية من أن مصانع معالجة النيكل في الإقليم قد تغلق أبوابها (Associated Press: 22 May 2024).
ومن الواضح أيضا أن التفاوت الواضح في الثروة بين السكان الأصليين والمهاجرين الفرنسيين يؤجج الاستياء ويعجل من مطالب الاستقلال، كما أن التفاوت العرقي أيضا يحرم الكاناك من الفرص ويعزلهم. وقد تباينت الآراء حول هذا التحدي الكبير الذي تواجهه فرنسا، فدعا رئيس حكومة كاليدونيا الجديدة المؤيد للاستقلال "لويس مابو"، إلى التعقل. وفي الوقت نفسه، دعت جبهة الكاناك الاشتراكية إلى السلام وسحب التعديلات الدستورية الفرنسية المثيرة للجدل (RNZ: 15 May). وفي المقابل دعا النائب السياسي المناهض للاستقلال "نيكولا ميتزدورف"، ممثل الدائرة الثانية لكاليدونيا الجديدة، على صفحته في موقع X، الرئيس الفرنسي إلى مواصلة الإصلاح الانتخابي، لأن القيام بخلاف ذلك سيكون هزيمة سياسية وأخلاقية للجمهورية.
يبدو أن تراجع الدور الفرنسي في مستعمراتها القديمة، خاصة في النيجر ووسط إفريقيا، فتح الباب أمام هواجس باريس حول مصير مناطق نفوذها البعيدة. وفي ضوء الاضطرابات الدولية الراهنة تخشى فرنسا من فقدان كاليدونيا الجديدة أيضا بعد خسارة النفوذ في إفريقيا. وهو ما يجعلها تلجأ إما للعنف المفرط أو تطبيق سياسة الاسترضاء.