يرى صناعُ القرار الأوروبيون أنّ الاتحاد الأوروبي يحتاج مواصلةَ الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد، إذ يعتمد ازدهار الاتحاد على التجارة الحرة بين الدول في السلع والخدمات والبيانات. وعليه، يتبنى الأوروبيون مقاربة معاكسة للحمائية الاقتصادية والدعم الموجه وتجزئة الاقتصاد العالمي إلى كتل؛ على أساس أنّ هذه الإجراءات ستؤدي إلى تكاليف كبيرة. فوفقاً لصندوق النقد الدولي، تؤدي القيود التجارية الدولية إلى خفض الناتج الاقتصادي بنسبة 7% على المدى الطويل، ما يعادل 7.4 تريليونات دولار. ومع كل هذه الميزات التجارية التي يتبناها الأوروبيون، فإنّ أصوات المنازعة داخل المنظومة الأوروبية بدأت تعلو في الأشهر القليلة الماضية، لاسيما في ما يتعلّق بالتجارة مع الصين. وقد ألمح بعض كبار المسؤولين الأوروبيين أنّ خيار الحمائية أصبح مطروحاً إذا لم تُغيّر الصين نهجَها في التعامل التجاري مع الكتلة الأوروبية.
من خلال عرض بعض هذه التصريحات، سنبيّن طبيعة الإشكال بين الطرفين، ومن ثمّ نتطرق إلى وجهة نظر كل منهما تجاه الآخر، وكيف سيكون شكل مسار العلاقات التجارية بين الصين والكتلة الأوروبية بحسب معطيات المرحلة السابقة والحالية.
إنّه لأمر جيّد أن نبدأ بملف العجز التجاري لمصلحة الصين كما يتناول الأوروبيون، وهذا سيكون ملفاً من جملة الملفات الخلافية بينهما. أن ننطلق من ملف عجز التبادل التجاري ربما نكون قد أمسكنا العلاقة من صلبها؛ إذ يشكو الأوروبيون من مضاعفة العجز التجاري الإجمالي للاتحاد الأوروبي مع الصين ثلاث مرات، أي من 151 مليار دولار في عام 2012 إلى حوالي 417 مليار دولار في عام 2022. تجسّد هذا الفرق في زيادة صادرات الصين إلى الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك المنتجات عالية القيمة مثل التكنولوجيا الخضراء والمركبات الكهربائية ومعدات الاتصالات، في حين تبيع أوروبا بعض السلع عالية القيمة إلى الصين، بما في ذلك الآلات والمركبات، التي تشكل 52% من واردات الصين من أوروبا. ينظر الأوروبيون إلى هذه الإشكالية على أساس ممارسات صينية يصنّفها الأوروبيون ممارسات تجارية غير عادلة. وبحسب الأوروبيين، تشمل هذه الممارسات الإجراءات المانعة للمنافسة مثل إعانات دعم الشركات وتشوهات الأسعار الأقل من السوق، وسرقة الملكية الفكرية من خلال الأنشطة السيبرانية ونقل التكنولوجيا القسرية، والحمائية من خلال القيود على الوصول إلى الأسواق والتدخلات غير السوقية التي تعزز وتركز الإنتاج داخل الصين.
وانطلاقاً من هذا علَت أصوات المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، فقد حذر الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، من أن "مشاعر الرأي العام في أوروبا قد تتحول إلى فرض مزيد من الحمائية إن لم يتم تخفيض العجز التجاري للمنطقة مع الصين، كما دعا إلى تحسين وصول الشركات الأوروبية التي ترغب في التصدير إلى الصين أو الاستثمار فيها". جاء تصريح بوريل تزامناً مع زيارته للصين وتشاوره مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي. ولاحقاً قام كل من مفوضة الطاقة كادري سيمسون ومفوض الاقتصاد والتجارة فالديس دومبروفسكيس بزيارة الصين للتباحث في مستقبل العلاقات التجارية بينهما، ضمن مساعٍ أوروبيةٍ لخفض عجز التبادل التجاري تمهيداً لزيارة رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين للتباحث مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، التي تمّت في الأسبوع الأوّل من شهر ديسمبر الحالي. وخلال اجتماع الرئيس الصيني بالمسؤولين الأوروبيين، شدد على ضرورة التزام الجانبين بالشراكة الإستراتيجية الشاملة وتبنِّي فهم صحيح للعلاقات الثنائية والعمل بكل إخلاص لتطويرها. لقد فُسِّرت لقاءات القمّة بين المسؤولين الصينيين والأوروبيين على أنّها مؤشّر إيجابي يُنبئ بمسار جديد في العلاقات بينهما، لاسيما أنّ القادة الأوروبيين أظهروا عدم رغبتهم في الانفصال عن الصين.
على الرغم من القراءة الإيجابية للقاءات بين الجانبين على أعلى مستوى، فإنّ اللقاءات وحدها والتشاور لا تفرز حلاً، وإنّما الخطوات التي تأتي بعدها من قبل الجانبين، والالتزام بالاتفاقات، في حال حصولها، هو ما يعزّز اللحمة الاقتصادية بينهما. لكن ثمّة مؤشرات تعزز فهم اتجاه مسار العلاقات، فاستجابة الصين بشكلها الحالي للضغوط الأوروبية تُظهر أنّها بصدد تقديم تنازلات للأوروبيين. فقد نقلت صحيفة فاينانشال تايمز عن مسؤولين أن "الاتحاد الأوروبي يمارس ضغوطاً على بكين، لإصلاح الخلل في العجز التجاري المتضخم بين الكتلة والصين، موضحين أن تلك الضغوط بدأت تؤتي أكلها".
لكن في المقابل، ليست دول الاتحاد موحّدة في موقفها، فبعض الدول مثل إيطاليا واليونان والمجر، انضمت إلى مبادرة الحزام والطريق، وتعارض، إضافة إلى ألمانيا أي إجراءات ضد السلع الصينية، الأمر الذي يُضعف مصداقية التلويح الأوروبي بالإجراءات العقابية المتمثّلة بالحمائية الأوروبية ضد السلع الصينية، ويُعزّز موقفَ الصين في المفاوضات الجارية بينهما. من هنا، فإن مفاوضات القمّة بينهما من غير المرجّح أن تسفر عن نتائج مرضية للاتحاد الأوروبي بغض النظر عن إجراءات حفظ ماء الوجه للأسباب التي ذكرنا، وموقف وحالة الجذب التي يعيشها الأوروبيون بين الصين والولايات المتحدة والخلاف بينهما ومسعى البحث عن أسواق بديلة.