أعلنت كوريا الجنوبية أن جنودا كوريين شماليين عبروا لمدة وجيزة، على مسافة 20 مترا تقريبا، المنطقة منزوعة السلاح في 18 يونيو، وانسحبوا بعد أن أطلق الجيش الكوري الجنوبي طلقات تحذيرية، وهي تعتقد أنهم عبروا عن طريق الخطأ أثناء قيامهم بتحصين الحدود، وهو حادث العبور الثاني خلال أسبوعين، حيث أعلنت سيول أن جنودا شماليين عبروا في 9 يونيو حاملين بعض الأدوات وانسحبوا عندما أصدر جيش كوريا الجنوبية تنبيهات عبر مكبرات الصوت. وتعتقد هيئة الأركان المشتركة أن بيونغ يانغ أرسلتهم إلى المنطقة المجردة من السلاح لإزالة النباتات وبناء التحصينات. وأن القوات تكبدت خسائر متعددة أثناء عملها بسبب انفجارات الألغام الأرضية (BBC News: 18 June).
ويبدو أن أعمال كوريا الشمالية في المنطقة المنزوعة السلاح تهدف إلى تعزيز السيطرة على قواتها لمنع الانشقاق، بعد أن حاول 196 شخصا الفرار إلى الجنوب خلال عام 2023، من خلال الحدود المحصنة، التي تمتد من غيونغ جي دو في الغرب إلى غانغ وون دو في الشرق، بطول 258 كيلومترا، وتقسم شبه الجزيرة الكورية إلى قسمين.
ويجب ملاحظة أن هناك تحولا جذريا في موقف كوريا الشمالية من جارتها الجنوبية منذ أواخر عام 2022، بعد أن بدأ جهاز المخابرات الوطنية الكوري الجنوبي سلسلة من الغارات استهدفت خلايا تجسس كورية شمالية. وابتداء من عام 2023، شددت كوريا الجنوبية رقابتها على مطبوعات جارتها الشمالية. وفي الوقت نفسه، نشر موقع أخبار كوريا الشمالية أن بيونغ يانغ قامت بحملة ضد الثقافة الأجنبية، وحذر متحفها الوطني الجمهور من استهلاك وسائل الإعلام الأجنبية، تلك الحملة التي واجهتها واشنطن بحملة مضادة عملت على تدفق المعلومات الخارجية إلى سكان كوريا الشمالية (NK News: 16 Jan. 2023).
ومن الواضح أن خطوات التصعيد بدأت عندما دعا الرئيس الكوري الشمالي "كيم جونغ أون" في 31 ديسمبر 2023، خلال خطاب ألقاه في الجلسة التاسعة للجنة المركزية الثامنة لحزب العمال الكوري، إلى ما أطلق عليه "تحول جذري في موقف كوريا الشمالية تجاه كوريا الجنوبية". وذكر أنه بعد مراجعة العلاقات التي استمرت لعقود من الزمن، تأكد من استحالة إعادة التوحيد في ظل ديمقراطية سيول الليبرالية التي تتناقض بشكل حاد مع خطط بيونغ يانغ لإعادة التوحيد الوطني على مبدأ "أمة واحدة ذات نظامين" (NK News: 1 Jan. 2024). كما انتقد دستور كوريا الجنوبية الذي ينص على أن الدولة تشمل شبه الجزيرة الكورية بأكملها، ووصف الرئيس الكوري الجنوبي "يون سوك يول" بأنه شريك غير مناسب لإعادة التوحيد. وقال إن العلاقات بين الكوريتين تحولت إلى "عداء" وليست "تجانس" (South China Morning Post, 31 December 2023).
ومخالفة لاتفاقية عدم التصعيد التي تم توقيعها في عام 2018 بين الكوريتين، أطلقت كوريا الشمالية 200 قذيفة باتجاه جزيرة يونبيونغ في 5 يناير 2024 (Insider Paper: 4 January 2024). ثم أكد "كيم" على ذلك التحول في 16 يناير 2024، عندما ألقى خطابا أمام مجلس الشعب الأعلى يدعوه إلى تعديل الدستور لإزالة أي إشارات إلى مبدأ التعاون وإعادة التوحيد، وإعادة ترسيم الحدود الإقليمية، وإضافة مادة تؤكد على أن كوريا الجنوبية هي الدولة الأكثر عداء لبيونغ يانغ. كما صوت المجلس على إلغاء ثلاث منظمات للتعاون بين الكوريتين، هي "لجنة إعادة التوحيد السلمي للوطن"، و"إدارة التعاون الشعبي الكوري"، و"إدارة السياحة الدولية في كومكانغسان" (NK: 16 Jan. 2024).
وفي أعقاب ذلك محت كوريا الشمالية من موقعها الإلكتروني خرائط شبه الجزيرة الكورية، التي كانت تعد رمزا لإعادة التوحيد، كما دمرت النصب التذكاري للمواثيق الثلاثة لإعادة التوحيد الوطني في بيونغ يانغ (Yonhap News Agency: 19 February 2024). وتعد هذه الإجراءات أكثر الخطوات التصعيدية خطورة بين الكوريتين خلال العقود الأخيرة.
لقد تراجعت العلاقات بين الكوريتين إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات، مع تعثر الدبلوماسية وتكثيف "كيم" اختبارات الأسلحة، بينما تتقرب سيول من واشنطن أمنيا. على الرغم من اتفاق خفض التصعيد ووقف المظاهر العدائية بشكل كامل، بما في ذلك إرسال المنشورات الدعائية.
ولتأكيد هذا الاتفاق مرر البرلمان الكوري الجنوبي في عام 2020 قانونا يجرم إرسال منشورات إلى كوريا الشمالية، ولكن هذه النشاطات لم تتوقف. ففي العام ذاته، انتقد "كيم" إرسال منشورات دعائية، وقطع من جانبه روابط الاتصال العسكرية والسياسية مع سيول، التي ألغت محكمتها الدستورية في عام 2023 قانون 2020، واصفة إياه بأنه تقييد لا مبرر له لحرية التعبير. الأمر الذي دعا الحزب الديمقراطي المعارض في سيول إلى التصريح بأن الحكومة تستخدم حرية التعبير ذريعة لتعريض سلامة الشعب الكوري الجنوبي للخطر (وكالة أنباء الشرق الأوسط: 9 يونيو 2024).
ولم يكن من المتوقع أن تصمت سيول على قرارات "كيم" الأخيرة، خاصة وأن الرئيس "يون سوك يول" أعلن في مارس الماضي عن رؤية جديدة للوحدة مع كوريا الشمالية تتضمن مبدأ الديمقراطية الليبرالية، وهذا ما يعارضه نظيره الشمالي الذي قرر التصعيد المستمر، كإرساله مئات البالونات التي تحمل نفايات على مناطق مدنية في سيول، والتي رد عليها الجيش بحملات دعائية عبر مكبرات الصوت، مما زاد من حدة التوتر بين البلدين، حيث قرر مجلس الأمن القومي في كوريا الجنوبية في 3 يونيو، التعليق الكامل للاتفاق العسكري المبرم عام 2018 مع بيونغ يانغ واستئناف الأنشطة العسكرية على الخطوط الأمامية. وهو التعليق الثاني للاتفاق، الأول كان جزئيا في نوفمبر 2023 بعد أن أطلقت بيونغ يانغ قمرا صناعيا للاستطلاع. ويقول "كريس جرين"، خبير مجموعة الأزمات، إن احتمال زيادة النشاط العسكري على طول الحدود يثير المخاوف حول إمكانية حدوث سوء تقدير كارثي على أي من الجانبين (Crisis Group: 7 June 2024).
وبطبيعة الحال سيتيح هذا التعليق إجراء تدريبات عسكرية بالقرب من خط ترسيم الحدود العسكرية، الذي تم تقييده بموجب الاتفاقية، وسيسمح برد أكثر ملاءمة على الاستفزازات الشمالية، وستتخذ الحكومة جميع التدابير اللازمة لحماية مواطنيها. ويؤكد ذلك ما صرح به مستشار الأمن القومي "تشانغ هو جين" لوكالة "يونهاب" الإخبارية بأن الحكومة ستتخذ إجراءات لا تطاق ضد بيونغ يانغ ردا على إرسالها بالونات القمامة واستمرارها في التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع جي بي اس في سيول (Yonhap News Agency: 3 June 2024). وأثار ذلك تكهنات بشأن استئناف الحملات الدعائية عبر مكبرات الصوت على طول الحدود.
ومن المحتمل أن يستمر التصعيد المتبادل بين الكوريتين خلال المرحلة المقبل، خاصة بعد الاتفاق الاستراتيجي الذي تم بين بيونغ يانغ وموسكو مؤخرا، بشكل يزيد من حدة التوتر، كاستخدام سيول مكبرات الصوت في بث انتقادات لانتهاكات حقوق الإنسان في بيونغ يانغ، أو نشر الأخبار وأغاني البوب الكورية، مما قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة. وقد يؤدي ذلك إلى نزاع مسلح. فلن تقف بيونغ يانغ صامتة أمام هذا الإجراء، ومن الممكن أن تضطر إلى إطلاق النار في البحر الغربي، والاستمرار في التشويش على نظام جي بي اس، أو اندلاع حرب إقليمية قد تتطور وتتوسع إذا تدخلت فيها أطراف أخرى حليفة للطرفين.