مقالات تحليلية

حول تحديث المنظومة النووية الأمريكية في أوروبا

03-Nov-2022

في حدث لافت للانتباه، قررت الولايات المتحدة تسريع عملية تسليم القنبلة النووية الحرارية المطورة B61-12 أو قنبلة الجاذبية كما يطلق عليها البعض، إلى أوروبا وسط تصاعد التوترات مع روسيا.

وقد أخبر المسؤولون الأمريكيون حلف الناتو خلال اجتماع مغلق في بروكسل أن القنبلة التي كان من المقرر وصولها إلى أوروبا في ربيع العام المقبل يمكن نشرها في ديسمبر 2022. وأن هذه النسخة الجديدة والأكثر دقة سوف تحل محل الأسلحة القديمة في العديد من دول الناتو، بما في ذلك بلجيكا وهولندا وإيطاليا وألمانيا وتركيا.

جاء في تقرير سابق نشرته صحيفة EurAsian Times في 13 إبريل 2022، أن إدارة "بايدن" أضافت المملكة المتحدة إلى قائمة الدول التي ستخزن الأسلحة النووية الأمريكية. ومن المعروف أن سلاح الجو الأمريكي كان يخزن قنابل نووية في أقبية سلاح الجو الملكي البريطاني في بلدة سوفولك، والذي كان يملك 33 قبوا للتخزين تحت الأرض خلال حقبة التسعينيات. وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان لدى واشنطن 110 قنبلة نووية من طراز B61 يمكن حملها من بريطانيا بواسطة طائرة F-15E التي يمتلكها الجناح المقاتل 48 التابع للقوات الجوية الأمريكية في أوروبا. ولكن في عام 2008 تم سحب الأسلحة النووية من سلاح الجو الملكي البريطاني. ويبدو أنه مع هذا الظرف الطارئ والحرج في أوروبا، تريد الولايات المتحدة إعادتها إلى تلك المخابئ بعد 14 عاما من بقاءها فارغة.

القنبلة B61-12

القنبلة B61 هي قنبلة نووية حرارية تعمل بالسقوط الحر، فسميت لذلك بقنبلة الجاذبية، وتعد الأساس في مخزون واشنطن النووي بعد نهاية الحرب الباردة. وهي سلاح نووي استراتيجي وتكتيكي منخفض إلى متوسط القوة. وتحتوي الواحدة منها على غلاف انسيابي قادر على تحمل الطيران الأسرع من الصوت، ويبلغ طولها حوالي 3.56 مترا، وقطرها حوالي 33 سم. ويبلغ الوزن الأساسي لها حوالي 320 كجم. وقد خضعت للعديد من التعديلات التقنية، حتى انتهى التعديل الثاني عشر في عام 2020. ووفقا لموقع اتحاد العلماء الأمريكيين، مايو 2012، فإن الواحدة منها تكلف نحو 28 مليون دولارا.

وحسب ما ورد على موقع The defense post في 27 أكتوبر، يعتبر الرأس الحربي للطراز الجديد واحدا من أكثر الرؤوس النووية تنوعا في ترسانة الولايات المتحدة، لأنه يمكن زيادة قوته التفجيرية أو خفضها اعتمادا على الهدف، مما يجعله إما سلاحا منخفض القوة، أو متوسط القوة.

وقد تقرر أن يتم نشر هذا الإصدار كسلاح نووي تكتيكي استراتيجي في أوروبا لحماية الناتو والحلفاء الآسيويين خلال عام 2023، حيث يمكن استخدامه من الطائرات المقاتلة الخفيفة التي تستطيع أن تناور بسرعة بعد إطلاق القنبلة حتى لا تتأثر بجاذبيتها.

لم يكن هذا السلاح ينال استحسان معظم الخبراء منذ بداية التفكير في تطويره، وقد صرح "توم كولينا" مدير السياسات بمجموعة نزع السلاح في صندوق "بلاوشيرز" للحد من الأسلحة، لفرانس برس في 6 نوفمبر 2013، محذرا من أن التطوير الجديد للقنبلة قد يعقد جهود الحد من التسلح مع روسيا. مما دعا الكونجرس الأمريكي إلى خفض تمويل المشروع والدعوة إلى دراسة بدائل، لأن امتلاك سلاح نووي أكثر دقة وأقل تدميرا من شأنه أن يجعل القادة "أقل حذرا" بشأن نشره. لكن الأصوات المؤيدة له وعلى رأسهم رئيس أركان القوات الجوية السابق "نورتون شوارتز" قالوا إنه سيردع الخصوم أكثر، وأن الولايات المتحدة ستكون أكثر استعدادا لاستخدامه عند الضرورة فقط. وعلى الرغم من كل المخاوف استمرت الاختبارات، وحققت معدلات نجاح 100%، حتى نشرت منصة Air Force Technology أنه تم اعتماد قنبلة B61-12 في عام 2020.

ولكن لماذا الآن؟

في ظل الأحداث الجارية في أوروبا، وخاصة الحرب الروسية الأوكرانية، من الطبيعي أن تزداد الأسئلة حينما يقدم أي طرف من الأطراف على اتخاذ خطوة تصعيدية حساسة، كالتبكير في ترقية أسلحته النووية على سبيل المثال، الأمر الذي يمكن تفسيره على أنه تصعيد مبرر من الجانب الغربي ردا على تهديدات الرئيس الروسي "فلاديمير بوتن" في سبتمبر الماضي بأنه سيرد نوويا على أي تهديد يطال بلاده.

حينما طلبت صحيفة "بوليتيكو" في 26 أكتوبر التعليق من المتحدث باسم البنتاغون الجنرال "باتريك رايدر" رد قائلا: "بينما لن نناقش تفاصيل ترسانتنا النووية، فإن تحديث الأسلحة النووية الأمريكية B61 مستمر منذ سنوات، وهي مجرد خطة لتبديل الأسلحة القديمة بأخرى أكثر أمان ومسؤولية مثل B61-12 التي تمت ترقيتها. هذا الإصدار جزء من جهود مجدولة للتحديث مخطط لها منذ فترة طويلة. لا ترتبط بأي حال من الأحوال بالأحداث الجارية في أوكرانيا ولم يتم تسريعها بأي شكل من الأشكال". ومن الواضح أن حديثه يتناقض مع التصريحات الأمريكية المتكررة بأن عملية التحديث كان من المفترض أن تتم في ربيع 2023، فلماذا العجلة؟

من الواضح أن هناك اضطراب ما وعدم تنسيق بين تصريحات السياسيين الأميركيين حول هذه المسألة، فبعد أن نفى المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي "جون كيربي" أن يكون وضع القنابل الهيدروجينية ردا على التهديد الروسي باستخدام قنبلة مشعة في الحرب الأوكرانية. اعترف في الوقت نفسه، حسب ما نشرته صحيفة "ديبكا" العبرية في 1 نوفمبر الجاري، بأن تسليم القنابل مرتبط بالحرب وأنه إجراء يحمي دول الناتو من أي تهديد محتمل.

إن موعد وصول القنبلة B61-12 إلى أوروبا بمثابة مفاجأة لكافة المراقبين، الذين يخشون أن يؤدي ذلك إلى زيادة تأجيج وضع خطير بالفعل في أوروبا. خاصة وأن الناتو يستعد لتدريباته النووية السنوية، وفي الوقت ذاته بدأت موسكو مناورة نووية وصفها الكرملين بأنها محاكاة لضربة نووية ضخمة ردا على هجوم نووي على روسيا. وربما، كما تزعم صحيفة "ديبكا" العبرية، أن الخطوة الأمريكية جاءت بعد أن شاهد الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" المناورات النووية الروسية بالفيديو من مكتبه في الكرملين. في الوقت الذي أعرب فيه المراقبون على تعجبهم من تعجيل الولايات المتحدة بإرسال القنابل في هذا الوقت، حيث صرح "هانز كريستنسن"، مدير مشروع المعلومات النووية في اتحاد العلماء الأمريكيين لبوليتيكو، بأنه سيكون من الغريب التعجيل بترقية الأسلحة النووية للناتو.

مخاوف روسية

كانت تعليقات الروس مباشرة وصريحة، تتهم الولايات المتحدة بالتصعيد الذي لا مبرر له، وقد علق نائب وزير الخارجية الروسي "ألكسندر جروشكو" لوكالة أنباء "ريا" الروسية، في 29 أكتوبر، بأن النشر السريع لأسلحة نووية تكتيكية أمريكية في قواعد حلف شمال الأطلسي في أوروبا سيخفض العتبة النووية، وأن روسيا ستأخذ هذه الخطوة في الاعتبار في تخطيطها العسكري، "لا يمكننا تجاهل خطط تحديث الأسلحة النووية". وأضاف "إن على موسكو أيضا أن تأخذ في الحسبان طائرة لوكهيد مارتن إف35 التي ستسقط مثل هذه القنبلة، إن الناتو عزز بالفعل الإجراءات النووية من تخطيطه العسكري، واتخذ بالفعل قرارات لتعزيز المكون النووي في الخطط العسكرية للحلف".

وصرح سفير روسيا في واشنطن "أناتولي أنتونوف" لرويترز عبر "تليغرام"، 29 أكتوبر، إن القنابل الجديدة لها أهمية استراتيجية، لأن الأسلحة النووية التكتيكية الروسية مخزنة وسوف تأخذ بعض الوقت في تجهيزها، ولكن هذه القنابل الأمريكية جاهزة للاستخدام، وستكون رحلتها قصيرة من حدود روسيا.

خاتمة

جاء هذا التطور في الموقف الأميركي بالرغم من نفى الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" تقارير بريطانية تفيد بأن الجيش الروسي كان على وشك استخدام أسلحة نووية تكتيكية في الحرب الأوكرانية، واتهم لندن بنشر الشائعات.

ويضعنا قرار واشنطن أمام أكثر من احتمال، قد تكون الرسالة من وراءه موجهة أكثر إلى الحلفاء الأوروبيين الذين يشعرون بأنهم معرضون بشكل خاص ومباشر لتهديدات لموسكو. وربما كان الجدول الزمني الجديد لوصول B61-12 هو مجرد قرار عادي بعد أن أقر البنتاغون بجاهزية السلاح في وقت أقرب مما هو مخطط له.

ومن الممكن أن يكون القرار مجرد إظهار للقوة أمام تهديدات روسيا، ولكن بسلاح أقرب إلى الأسلحة التقليدية منه إلى النووية. فالعقيدة النووية الأميركية بدأت تهدأ قليلا منذ عدة سنوات، حتى أن الرئيس "جو بايدن" علق خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2020، بأنه سينظر في تغيير سياسة الولايات المتحدة النووية، وسوف يكون الغرض الوحيد منها هو ردع هجوم نووي ضد أمريكا أو حلفائها، وهو تغيير واضح في العقيدة، بالرغم من أنه لا يوجد قرارات رسمية صدرت بهذا الشأن حتى الآن. وربما عدم صدور قرار بذلك يضمن حق الرجعة إذا شرعت واشنطن في مواجهة الصين وروسيا تحت أي ظرف محتمل في مواقعهم.

أما مخاوف روسيا فلها ما يبررها، حيث أن تحديثات واشنطن للقنبلة بزيادة دقتها وتقليل قوة الشحنة النووية بها، يجعلها أقرب للأسلحة التقليدية، وبالتالي أصبحت سلاحا يمكن استخدامه في معركة اعتيادية، مما يخفض العتبة النووية في أوروبا وازدياد المخاطر الأمنية التي تشعر بها موسكو مما يؤزم الموقف أكثر.

64