وصل وفد من قادة ومسؤولين أفارقة إلى كييف يوم الجمعة 16 يونيو الجاري، لعرض مبادرة لإحلال السلام في أوكرانيا. وبعد لقاء "زيلينسكي" قرر الوفد السفر إلى روسيا للقاء الرئيس "بوتن" في سان بطرسبرج. وتأتي تلك المبادرة في ظل حالة عدم الانحياز الإفريقية، لكن تأثيرات الحرب على القارة، خاصة في مجالات الأمن الغذائي، جعلت تلك الخطوة ضرورة.
والمبادرة الإفريقية ليست الأولى، بل سبقتها في ذلك عدة دول ومنظمات مختلفة، هدفت إلى إيجاد حلول من أجل إيقاف الصراع بين البلدين، ولو مؤقتاً، لحين الوصول إلى ترضية مناسبة تنهي الحرب إلى الأبد.
خطة السلام الإفريقية
ضم الوفد الإفريقي كلاً من رئيس جنوب إفريقيا "سيريل رامافوزا"، والرئيس السنغالي "ماكي سال"، ورئيس جزر القمر "عثمان غزالي"، ورئيس زامبيا "هاكايندي هيشيليما"، ورئيس الوزراء المصري "مصطفى مدبولي"، ومبعوثين لرئيسي أوغندا "يوري موسيفيني" وجمهورية الكونغو "دينيس ساسو نغيسو"، (سبوتنيك العربية: 17 يونيو 2023). ومن الملاحظ غياب المغرب عن المشهد، وهي إحدى الدول الفاعلة في القارة، لكن الرباط قررت التفكير بواقعية، فالمبادرة من وجهة نظرها لا تمتلك أجندة قوية تحركها. وقد أشار أستاذ العلاقات الدولية "محمد بوخبزة"، إلى أن بلاده تبحث عن السلم دون أن تحركه المصالح، وأن المبادرة تأتي على أساس أيديولوجي ولن تنجح، فهي تهدف إلى علاج أزمة الغذاء في القارة، ولن تحقق المصالح العليا المتعلقة بالسلم الدولي، (روسيا اليوم: 23 مايو 2023).
وتضم الخطة الإفريقية 10 اقتراحات، هي: تحقيق السلام بالطرق الدبلوماسية، وبدء المفاوضات سريعاً، ووقف التصعيد، وضمان سيادة الدول وفق ميثاق الأمم المتحدة، وتوفير ضمانات أمنية للجانبين، وضمان حركة تصدير الحبوب والأسمدة من الدولتين، وتوفير دعم إنساني لضحايا الحرب، وتسوية موضوع تبادل الأسرى وعودة الأطفال، وإعادة الإعمار بعد الحرب، وتوفير تفاعل أوثق مع إفريقيا، (صحيفة الشروق: 17 يونيو 2023).
وأعرب "زيلينسكي" بعد اجتماعه معهم عن عدم فهمه لرغبتهم في زيارة روسيا، وقال إن "المفاوضات معها وهي تحتل أرضنا، تعني تجميد الحرب والمعاناة"، (Ukrainian News: 16 June 2023). وذكرت وكالة أنباء تاس الروسية أنه أكد على مطالبته بسحب القوات الروسية من أراضي أوكرانيا أولاً، (Tass: 16 June 2023)، وأن قصف كييف خلال زيارة الوفد الذي أجبر على الاحتماء يعني إما أن "بوتن" فقد السيطرة على جيشه، أو أنه غير عقلاني. وعلق وزير الخارجية الأوكراني "دميترو كوليبا" على ذلك قائلاً إن صواريخ روسيا رسالة للوفد تؤكد أنها تريد الحرب وليس السلام، (BBC: 17 June 2023).
على أية حال، من الواضح أن المبادرة هي مجرد جملة من الإجراءات لبناء الثقة، كوثيقة إطارية يمكن تطويرها إذا قبل الطرفان النقاش، وأن هدفها تشجيعهما على التفاوض. لكنها تفتقر إلى آليات التنفيذ، ونجاحها غير مضمون، فالطرفان ليسا على استعداد حالياً لوقف القتال واللجوء إلى حل سياسي. ويبدو أن النزاع أثر سلباً على اقتصادات إفريقيا، وهو ما دعا قادتها إلى التدخل.
أبرز مبادرات السلام الدولية
على مر العامين 2022 و2023، قدمت عدة دول ومنظمات دولية مبادرات لوقف الحرب في أوكرانيا. يمكننا خلال السطور التالية تقديم أبرزها، وشرح أهم النقاط فيها.
المبادرة التركية
حاولت تركيا منذ بداية الأزمة القيام بدور في تخفيف التوترات قبل تطورها إلى حرب، ولكن على حد قول أستاذ العلوم السياسية "أيدين سيزر" لم تتصرف تركيا كوسيط محايد لأنها عضو في الناتو، وموقفها يتفق بالضرورة مع مواقف الحلف، بالإضافة إلى تزويدها كييف بطائرات مسيرة في أكتوبر، 2021 (DW: 2 Feb. 2022) مما أغضب روسيا، لأن حصول أوكرانيا على هذا السلاح يعني أن أي خطط عسكرية روسية قد تواجه بمقاومة عنيفة.
وفي بداية عام 2023 رأى "أردوغان" أن يحاول تحقيق إنجاز دبلوماسي أثناء استعداده للانتخابات الرئاسية، فدعا "بوتن" إلى وقف إطلاق نار أحادي الجانب. ونشرت صحيفة أحوال التركية، أن أنقرة استضافت جولتين من محادثات السلام، وأسهمت مع الأمم المتحدة في إنجاح اتفاق استئناف شحن الحبوب الأوكرانية، كما حاول "أردوغان" ترتيب قمة سلام في تركيا، (Ahval News: 5 Jan. 2023).
المبادرة الإيطالية
حاولت إيطاليا التقدم بمبادرة لإحلال السلام في مايو 2022، لكنها لم تلق قبولاً لعدة أسباب، من أهمها أن الصراع كان في ذروته، وروسيا كانت في أوج تفوقها العملياتي. ولكن مع بدايات العام الحالي، عادت إيطاليا إلى واجهة الأحداث حين اقترح وزير خارجيتها "أنطونيو تاجاني" إيقاف موسكو قصف الأهداف المدنية والإستراتيجية الأوكرانية حتى تتمكن أوروبا من مطالبة كييف ببدء المفاوضات، لكنه أشار أيضاً إلى أن روما ستفي بكافة التزاماتها بتقديم المساعدة لأوكرانيا. ولذلك لم يلق اقتراحه اهتماماً روسياً، لأن التحيز الإيطالي لأوكرانيا بدا واضحاً، (إندبندنت العربية: 24 يناير 2023).
المبادرة الصينية
نشرت وزارة الخارجية الصينية في 24 فبراير 2023 مقترحاً للسلام، نص على عدة بنود منها: احترام سيادة كل الدول، والتخلي عن عقلية الحرب الباردة، ووقف الأعمال العدائية من الطرفين، واستئناف محادثات السلام بشكل جدي، وحماية المدنيين، وتبادل الأسرى، وتقليص الأخطار الإستراتيجية بتجنب خوض حروب نووية، وتنفيذ مبادرة حبوب البحر الأسود الموقعة من طرف روسيا وتركيا وأوكرانيا والأمم المتحدة، ووقف العقوبات أحادية الجانب، والحفاظ على استقرار سلاسل الصناعة والتوريد، ودعم مرحلة إعادة الإعمار، (اليوم السابع: 24 فبراير 2023).
وقد رحبت أوكرانيا بالمقترح لأنه يحترم وحدة أراضيها، بينما ردت روسيا بأن أي تسوية يجب أن تعترف بسيادتها على المناطق التي ضمتها أولاً، (BBC: 25 Feb. 2023)، لكن "بوتن" وعد بأنه سيناقش المقترح نظيره الصيني، (BBC: 20 March 2023). ويبدو أن عدم النص على وجوب انسحاب روسيا من أوكرانيا أولاً، جعل من الصعب إقناع كييف بالمبادرة الصينية.
مبادرة الفاتيكان
في محاولة من البابا "فرانسيس" بابا الفاتيكان لإنهاء الحرب، أعلن في شهر أبريل عن مهمة سلام برعايته، ورداً على سؤال حول مدى فعالية المهمة، قال "أعتقد أن السلام يتم دائماً من خلال فتح القنوات". وكان رئيس الوزراء الأوكراني "دينيس شميهال" قد طلب مساعدة البابا في عودة الأطفال الأوكرانيين من روسيا، (CNN: 30 April 2023).
وعلى الرغم من عدم إحراز البابا أي تقدم ملموس، لكن محاولاته لم تنقطع، فكلف رئيس مجمع الأساقفة الإيطاليين الكاردينال "ماتيو زوبي" بقيادة مهمة سلام لمحاولة وقف الحرب. وقال إن "هدف مبادرة الفاتيكان هو الاستماع بعمق إلى سبل السلام الممكنة التي ترضي أوكرانيا"، (القاهرة الإخبارية: 5 يونيو 2023).
ولكن مع بدء مهمة "زوبي" في 5 يونيو الجاري كانت ثقة الأوكرانيين في الفاتيكان قد تدنت، فبحسب موقع The Pillar الكاثوليكي الأمريكي، طلب الكاثوليك الأوكرانيون من الفاتيكان عشية الغزو الروسي التدخل، لكن تصريحات البابا آنذاك أصابتهم بخيبة الأمل، بعد أن توقعوا أن يدين جرائم الجيش الروسي. ورأوا أيضاً أن "زوبي" قد يجد صعوبة في إقناعهم بفهمه لطبيعة الصراع، فضلاً عن شكوكهم في أن روسيا سوف تستمع من الأساس لمقترحات البابا، (The Pillar: 6 June 2023).
المبادرة الإندونيسية
اقترح وزير الدفاع الإندونيسي "برابوو سوبيانتو" خلال فعاليات مؤتمر شانغريلا الأمني في سنغافورة مطلع الشهر الجاري خطة لتسوية الصراع تتكون من ثلاثة بنود. أولها، الوقف الفوري لإطلاق النار. وثانيها، سحب القوات المتحاربة مسافة 15 كيلومتراً عن مواقعها الحالية وإنشاء منطقة منزوعة السلاح بها قوات حفظ سلام دولية. وثالثها، تنظيم استفتاء في المناطق المتنازع عليها بإشراف الأمم المتحدة، (Tass: 3 June 2023).
وفور سماع وزير الدفاع الأوكراني "أوليكسي ريزنيكوف" للمقترح، رفضه ووصفه بالغريب، وقال "يبدو أنها خطة روسية وليست خطة إندونيسية". ولم تكن تلك المرة الأولى التي حاولت فيها إندونيسيا التوسط على الرغم من انتهاجها سياسة عدم الانحياز، فقد زار رئيسها "جوكو ويدودو" كييف وموسكو العام الماضي، عندما ترأست بلاده مجموعة العشرين، وصوتت إندونيسيا لصالح قرار إدانة الأمم المتحدة للغزو، لكنها لم تطبق عقوبات ضد موسكو، (صحيفة أخبار اليوم: 3 يونيو 2023).
عروض الوساطة الخليجية
في ظل تصاعد الأحداث، أعاد رئيس الإمارات سمو الشيخ "محمد بن زايد آل نهيان" عرضه بإمكانية التوسط لإنهاء الحرب، وقال أثناء حضوره منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي في منتصف الشهر الجاري إنه في حال تطلب أن تقوم الإمارات بأي دور في استقرار الأوضاع، فهي على استعداد لذلك بكل الطرق. وقد تلقف المحللون عرضه بالترحيب، فرأى الروسي "تيمور دويدار" أن وساطة الإمارات من الممكن أن تكون طوق النجاة، خصوصاً في ظل انعدام الثقة بين الروس والغرب، والعلاقة الوطيدة بين بن زايد وبوتن. كما أكد الأوكراني "فولوديمير شوماكوف" أن مساعي الإمارات في غاية الأهمية، آملاً أن تحل الأمور بما يرضي كييف، (منصة المشهد الإماراتية: 17 يونيو 2023).
كذلك أكد ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" خلال لقائه الرئيس الأوكراني على هامش القمة العربية في جدة، أنه على استعداد للوساطة، (روسيا اليوم: 19 مايو 2023). وتحاول باريس تنشيط الدور السعودي مؤخراً للدفع باتجاه وقف النزاع، فاستغلت زيارة ولي العهد لفرنسا لحضور قمة "من أجل ميثاق مالي عالمي جديد" المقرر عقدها يومي 22، 23 يونيو، لمناقشة سبل تقديم وساطة سعودية فعالة لإنهاء الحرب، خاصة وأن سيد الإليزيه يراهن على دور الدول التي اختارت الحياد منذ بداية النزاع، كالسعودية والإمارات ومصر، وإمكانية قيامها بالضغط على موسكو وكييف، (France24: 15 June 2023).
الموقف الروسي من مبادرات السلام
لقد أعلنت موسكو موقفها بتحفظ، وأشارت إلى أن كييف مستعدة للتصعيد وليس للمفاوضات، كما أعلنت موافقتها على السلام العادل، لكنها لا ترى آفاقاً لمفاوضات ترضى عنها موسكو. وقال المتحدث باسم الكرملين "ديميترى بيسكوف" إنه لا يمكن أن تسمى "خطة سلام" أي مبادرة لا تأخذ في الاعتبار الأمر الواقع، بما يتضمنه من مناطق جديدة ضمتها روسيا بما أجرته من استفتاءات، وأن موسكو لن تتباحث حول أراضي الدولة الروسية، فضلاً عن كونها فقدت الثقة في مصداقية الغرب ومبادراته، (صحيفة الأهرام: 9 يناير 2023).
وقال وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" في اجتماع وزراء خارجية منظمة شنغهاي للتعاون في 5 مايو الماضي، إن روسيا منفتحة على التسوية السلمية، لكن لصبر موسكو حدود، (سبوتنيك العربية: 6 مايو 2023)، إشارة إلى أن الغرب لا يتوقف عن إمداد كييف بالأسلحة.
السلام من وجهة نظر أوكرانيا
رأى "زيلينسكي" في ديسمبر الماضي أن يعرض خطة للسلام، وحدد موعداً لعقد قمة أوروبية في 3 فبراير الماضي، ولكن وزير خارجيته "ديميترى كوليبا" اقترح عليه الدعوة إلى قمة سلام في الأمم المتحدة، فصرح مكتب أمينها العام بأن ذلك مشروط بمشاركة روسيا، لأن كييف لا يمكنها تحقيق السلام من طرف واحد، (روسيا اليوم: 26 ديسمبر 2023). وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن تصرفات الغرب كلها تهدف إلى التصعيد بالفعل، ففي مقابلة مع صحيفة فيلت الألمانية، قال الأمين العام لحلف الناتو "ينس ستولتنبرغ" إن أوكرانيا وحدها هي التي ستحدد شروط السلام وليست موسكو، (Welt: 18 June 2023).
ومن المعروف أن أوكرانيا لديها ثلاثة شروط رئيسية، تشمل انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا، وعودة الأسرى المحتجزين في روسيا، واستعادة السيطرة على الحدود، والحصول على ضمانات أمنية، ودفع روسيا تعويضات الحرب، وتمويل إعادة الإعمار بمصادرة احتياطيات البنك المركزي الروسي المجمدة في أوروبا، (Atlantic Council: 24 August 2022).
خاتمة
يتضح مما سبق، أن معظم مبادرات السلام لم تتطرق إلى إجراءات عملية لسحب القوات الروسية، وسحب الأسلحة النووية من بيلاروسيا، وتعليق مذكرة الاعتقال بحق الرئيس الروسي، وإنهاء العقوبات المفروضة على روسيا وبعض شركاتها وأفرادها، وإجراء مفاوضات مباشرة بين روسيا والغرب، قبل أوكرانيا، لتناول قضايا نشر الأسلحة متوسطة المدى والأسلحة النووية التكتيكية والأسلحة البيولوجية، وتقديم ضمانات أمنية حقيقية للبلدين.
ويبدو أن كثرة المبادرات عمقت الأزمة، فهي تقدم خطط دون ضمانات، فيصبح من الصعوبة بمكان إيجاد الحلول وتطبيقها، وبالتالي يجب أن تكون برعاية المنظمات الدولية حتى تأخذ بعداً جاداً في التعامل معها مع حضور كافة أطراف النزاع، روسيا وأوكرانيا وممثلي حلف الناتو وواشنطن، لعمل تسوية شاملة، لأن النزاع الأوكراني تحول إلى صراع إستراتيجي بين القوى العظمى، ولا تستطيع أي دولة بمفردها إيجاد منافذ للحلول.
ومن الواضح أن تصريحات موسكو تدل على أنها منفتحة على الحوار مع كييف، شرط أن يقبل "زيلينسكي" الوقائع الجديدة على الأرض، وهو أمر لا يقبله، ويرفضه العقل أيضاً، وبالتالي فإن معظم المبادرات المقترحة هي خطط تقدم حلولاً ليست ضمن حسابات طرفي الصراع.