مقالات تحليلية

استطلاعات أميركية: هبوط مطرد لشعبية بايدن

30-Nov-2023

كعادتها تتأثّر الاستحقاقات السياسية الأميركية بمتغيرات محليّة ودولية، ومع ازدياد التعقيد في المشهد الدولي في الآونة الأخيرة أصبح من الممكن اعتباره المتغيّر الأقوى بين المتغيّرات المؤثّرة في الاستحقاق الأقوى على الساحة الأميركية، الانتخابات الرئاسية. وفي إطار الديناميات والتحديات التي تحرّك المشهد السياسي الدولي وتأثيرها على الناخب الأميركي، تشهد نتائج استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة تبدلا من جانب هبوط شعبية الرئيس الأميركي جو بايدن، مما قد يؤثر على حظوظه في الانتخابات الرئاسية القادمة المتوقع إجراؤها بعد عام تقريبا من الآن. كما وتبيّن مختلف الاستطلاعات تفوّق الرئيس السابق دونالد ترامب على بايدن، ما يعني عدم تأثر ترامب بالقضايا المرفوعة ضده في المحاكم الأميركية، بينما يشهد بايدن تبدلا في مواقف قاعدته الانتخابية.

هذا التبدّل في مواقف المستطلعين حاليا والناخبين مستقبلا يساوق اضطرابات تلحق بالعالم من الجوانب الأمنية والاقتصادية والسياسية، حتى أنّ الداخل الأميركي لم يسلم من تداعياتها، الأمر الذي أثّر بشكل مباشر على مستويات تأييد الشخص الممثّل للإدارة الحالية في واشنطن. قبل الخوض في تفاصيل الاستطلاعات الأخيرة، من المهم ذكر التغيرات التي يمر بها مزاج الشارع الأميركي، لا سيما فيما يتعلق بدور الولايات المتحدة في مختلف النزاعات الخارجية.

ويفيدنا هنا الاستدلال بالتباين القائم بين المواطن الأميركي والساسة الأميركيين في ما بتعلق بالرؤى حول القضايا الاقتصادية والشؤون والخارجية، وما ينجم عنها من نشاط سياسي. وعليه، فإنّ الفروق التقليدية بين توجّه كل من الناخبين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن العديد من الملفات لا تعكس حالة استقطاب بين الناخبين، ولكنها تعكس حالة من عدم الرضا عن أداء المؤسسة وشخوصها في ما يخص الملفات الدولية.

ويمكننا القول أنّ ثمّة توافق بين الناخبين من كلا الفريقين السياسيين مع اختلاف الانتماءات الحزبية والأيديولوجية، الأمر الذي يعزّز من حالة ضدية مناوئة لما يعرف بـ"مناهضة المؤسسة" (Anti-establishment)، التي تمثّل تطورا لحركة "مناهضة المؤسسة" التي تجاوزت الأيديولوجيا الحزبية بيمينها ويسارها، وظهرت عام 2016 مع انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. ولا تزال هذه الحركة تتوسع وتجذب عددا أكبر بين الناخبين في وقت يبدو فيه الاستقطاب في المشهد السياسي الداخلي في أشد مراحله.

وإذا ما أسقطنا حالة مناهضة المؤسسة على الاستحقاقات الدستورية نستطيع القول أنّ الجمهوريين استطاعوا توظيف هذه الحركة لمصلحتهم من خلال تبني ترشح ترامب في انتخابات 2016، وانعكس ذلك في تجيير أصوات الناخبين الجمهوريين له. وإذا ما تماثلت استطلاعات الرأي الحديثة مع صناديق الاقتراع سيفعلها الجمهوريون مجددا.

كما عززت المحاكمات والقضايا المتتالية ضد ترامب في الفترة الأخيرة من صورته كمرشح لحركة "مناهضة المؤسسة"، إلا أن ذلك يخلق معضلة لداعمي هذه الحركة، إذ يمثل الكثير منهم، خاصة الليبراليين، حجر الأساس لحركة "مناهضة ترامب"، التي ساهمت بشكل رئيسي في صعود بايدن إلى البيت الأبيض. هذه المعضلة تعكس عمق تعقيدات الانتخابات القادمة، ومستوى التقلبات سريعة الوتيرة المتوقعة في السباق بين بايدن وترامب. وفيما يلي نتناول نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة وما تمثله من مؤشرات توضح المزاج العام في الولايات المتحدة، واحتمالية تأثيرها على المعادلة الحساسة بين ترامب وبايدن.

نتائج استطلاعات الرأي

أظهرت خمسة استطلاعات وطنية حديثة تفوق ترامب بين نقطتين إلى أربع نقاط على بايدن بين الناخبين المسجلين أو المحتملين. يقع تقدم ترامب في كل منها ضمن هامش الخطأ. ومع ذلك، تشير هذه النتائج إلى أنّ وضع بايدن الحالي غير مطمئن. وثمّة عرف ما قبل انتخابي أميركي تسرده الاستحقاقات الانتخابية السابقة، وهو أنّ شاغل منصب الرئاسة عادة ما يتقدّم على منافسيه بما يزيد عن 10 نقاط قبل حوالي عام من الانتخابات، ويستتلي ذلك غالبا فوز شاغل منصب الرئاسة بدورة ثانية. من بين الحالات التي تخلّف فيها شاغل المنصب في الاستطلاعات كانت حالة ترامب في الانتخابات السابقة، وأدى ذلك بعدها إلى انتخاب بايدن رئيسا.

وإذا ما أردنا التعمّق في هذه العوامل نظرنا "الولايات المتأرجحة" (Swing States)، حيث كان ترامب متقدما في استطلاع واحد في الولايات التي لم يتقدم فيها أبدا في عام 2020. وتشمل هذه الولايات ميشيغان ونيفادا وبنسلفانيا، وهي ولايات أساسية في تحديد الرئيس المقبل.

علاوة على ذلك، أظهر آخر استطلاع وطني أجرته شبكة إن بي سي نيوز انخفاض معدل تأييد الرئيس جو بايدن إلى أدنى مستوى له في رئاسته - 40٪ - حيث لا توافق أغلبية قوية من جميع الناخبين على سياساته الخارجية وتعامله مع الحرب بين إسرائيل وحماس. ووفقا للاستطلاع، يوافق 40٪ من الناخبين المسجلين على أداء بايدن الوظيفي، بينما يعارض 57٪، وهو ما يمثل أدنى مستوى تأييد لبايدن في الاستطلاع منذ أن أصبح رئيسا. جاءت أبرز التغيرات في الاستطلاع الجديد في فئة الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما، وهي فئة مهمة بالنسبة للديمقراطيين، وانخفض تأييد هؤلاء الناخبين من 46٪ في سبتمبر إلى 31٪.

الجدير بالذكر أن الاستطلاع يظهر أن ترامب يتمتع بميزة طفيفة ضمن هامش الخطأ في الاستطلاع بين الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما (46٪ إلى 42٪) - وهو عكس نتائج استطلاعات إن بي سي نيوز السابق. وفي سياق تأثير هذه الاستطلاعات على سلوك الناخب، يقول خبير استطلاعات الرأي الديمقراطي جيف هورويت، الذي أجرى هذا الاستطلاع مع خبير استطلاعات الرأي الجمهوري بيل ماكينتورف "جو بايدن في نقطة منخفضة بشكل فريد في رئاسته، وجزء كبير من هذا، خاصة داخل تحالف بايدن، يرجع إلى كيفية نظر الأميركيين إلى سياساته الخارجية". على الرغم من ذلك، يرى هورويت أن بايدن يمكن أن يستعيد دعم هؤلاء الديمقراطيين الساخطين والناخبين الأصغر سنا، موضحا أنّ "هؤلاء أشخاص لديهم سجل حافل في التصويت لبايدن والديمقراطيين... وأنّ هناك متسعا من الوقت والمزيد من المفاجآت السياسية المحتملة القادمة من الآن وحتى يوم الانتخابات، يمكن أن تسبب تحولا في المشهد السياسي مرة أخرى."

قراءة ختامية

تعكس استطلاعات الرأي الأخيرة تحولا في المزاج الأميركي، خاصة الناخبين الديمقراطيين، إذ خسر بايدن الكثير من التأييد في صفوف داعميه التقليديين على ضوء عدد من العوامل، على رأسها سياساته الخارجية، إضافة إلى كبر سنه، الذي يلعب دورا مهما في انخفاض الدعم له في الانتخابات القادمة. في المقابل، نجح ترامب إلى حد كبير في المحافظة على قاعدة الدعم الخاصة به، مع تحقيق تقدم نسبي في صفوف بعض فئات الناخبين ذات الميول الديمقراطية، منهم الشباب.

الانتخابات القادمة تمثل جولة جديدة من الصدام بين حركة "مناهضة المؤسسة" وحركة مناهضة ترامب، وبينما نجحت مراهنة الحزب الديمقراطي على تفوق حركة مناهضة ترامب في انتخابات 2020، تبدو هذه المراهنة اليوم مجازفة أكثر مما سبق، خاصة وأن بايدن لديه نقاط ضعف، ومنها كبر سنّه، واندلاع حرب أوكرانيا وغزة، والوضع الاقتصادي الصعب في الولايات المتحدة المسائل التي يجيد ترامب توظيفها شعبويا لمصلحته. كما ويمثّل اختزال المرشح الديمقراطي بشخص بايدن نقطة ضعف للحزب قد تكون حاسمة في خسارته الانتخابات القادمة. 

46