تتجه العلاقات السورية – التركية للتطبيع بعد سنوات من العداء وذلك نتيجة دفع روسي بهذا الاتجاه ووصل هذا المسار إلى لقاء بين وزراء دفاع الطرفين بانتظار أن تأخذ هذه المباحثات طابعاً سياسياً من خلال الاجتماع المرتقب بين وزراء خارجية أنقرة ودمشق في موسكو.
هذا التقارب السوري – التركي لم تعلق عليه الدول العربية بشكل واضح إلا أن الإمارات العربية المتحدة كثفت من تحركاتها حيال الملف السوري، وسط مساعي الدول العربية لإبعاد سورية عن هيمنة كل من إيران وتركيا.
الموقف الأبرز من هذا التقارب هو للولايات المتحدة الأميركية التي نددت بالتطبيع مع سوريا إعلامياً بالإضافة إلى تحركات سياسية وميدانية على خط -شمال وشرق سورية -تركيا- تمثلت من جهة بالحديث عن إعادة هيكلة قسد وتقديم دعم نوعي لها، ومحاولة إبرام صفقة بين تركيا والأكراد في سوريا من جهة أخرى مقابل تخلي أنقرة عن فكرة التطبيع مع دمشق.
من خلال ما سبق، تناقش هذه الدراسة، رؤى ومواقف الدولية العربية من التطبيع السوري – التركي، بالإضافة إلى الأهداف الروسية من هذا التطبيع، إلى جانب موقف الولايات المتحدة الأميركية وردها المتوقع.
الدول العربية والتطبيع السوري – التركي
تراقب معظم الدول العربية بصمت مسار التقارب السوري – التركي برعاية روسية حيث لم تصدر أي تعليقات من قبل العواصم العربية سوى الإمارات التي زار وزير خارجيتها الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان في 4 يناير الجاري دمشق والتقى مع الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك بعد أيام من اللقاء الذي جمع كل من وزير دفاع تركيا وسورية في موسكو وهو أول لقاء يعقد على هذا المستوى منذ 2011. تزامن الحدثان في نفس التوقيت دفع الكثير من المراقبين للحديث عن دور إماراتي في هذا التقارب وصولاً إلى حد القول بإن اللقاء المرتقب بين كل من الرئيسين السوري والتركي سيجري عقده في الإمارات.
أما فيما يخص السعودية والدول الخليجية الأخرى لم تكن متحمسة منذ البداية للتطبيع مع سورية في ظل الظروف الحالية، إلا أنه ومن المتوقع إلى حد كبير أنهم ينظرون إلى أن الإمارات هي من ستقوم بمهمة اختبار هذا المسار.
مصر هي الأخرى وعلى الرغم من أنه لا توجد مشاكل كبيرة بين القاهرة ودمشق إلا أنها لم تبد أي اهتماما بهذا التطبيع كونها لا تزال تجري مباحثات تطبيع مع أنقرة ولم تصل إلى النتائج المرجوة.
أما الأردن وهو البلد الحدودي مع سورية فيرغب في ضبط عملية التطبيع مع حكومة دمشق والحصول على ضمانات روسية حول عدة ملفات تقلقها وأبرزها الوجود الإيراني على حدوده بالإضافة إلى تهريب المخدرات عبر الحدود السورية – الأردنية، حيث اختبرت عمان هذا المسار بدفع من روسيا وأجرت اتصالات مع دمشق إلا أن مسار التطبيع بينهم لم يصل إلى نتيجة حيث عاودت الميليشيات الإيرانية الانتشار في درعا، جنوب سورية على الحدود مع الأردن.
وعلى الرغم من اختلاف أسلوب التعاطي من قبل الدول العربية وخاصة الخليجية مع ملف التطبيع السوري – التركي إلا أن الأهداف واحدة وهي إخراج سورية من الهيمنة الإيرانية بالدرجة الأولى والتركية بالدرجة الثانية، وإذا ما تم هذا التطبيع في ظل هذه الظروف، ستكون هناك تداعيات على مصالح العرب والخليج في سوريا والمنطقة بشكل عام، يمكن ظهورها فيما يلي:
- على الرغم من غياب إيران عن الاجتماعات التي عقدت في موسكو بين وزراء دفاع سورية وتركيا وروسيا، إلا أن مسار التطبيع انطلق من قمة طهران، وتعتبر إيران هي المستفيدة الأكبر من هذا التطبيع، حيث تكون بذلك كل من روسيا إيران وتركيا قد تهربوا من مسار جنيف والاتفاقيات الدولية التي تطالب بخروج القوات الأجنبية، وبذلك تحافظ إيران على وجودها في سورية بعد أن واجهت ضغوطاً كبيرة خلال الفترة الماضية. ستكون الميليشيات الإيرانية هي المتحكمة بالدولة السورية بسبب سيطرتها على معظم المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية السورية وقادرة على تعزيز نفوذها في العراق ولبنان بشكل أكبر وأن تكون سورية حاضنة لها.
- ستسعى تركيا لاستغلال هذا التطبيع من خلال إبقاء مقاتلين موالين لها، لكنهم يحملون أفكارا جهادية وينتمون إلى تنظيم القاعدة وخاصة عناصر جبهة النصرة وحراس الدين الذين يضمون في صفوفهم المئات من المقاتلين الأجانب، فضلا عن العرب غير السوريين وهذا ما يهدد سورية والدول العربية كافة. بالإضافة إلى ذلك ستحاول تركيا إشراك أحزاب وشخصيات مرتبطة بالإخوان المسلمين في منظومة السلطة السورية، وهذا ما سيؤدي لعودة نشاط الإسلام السياسي والاخوان بعد العمل على مواجهتهم في دول عربية عديدة.
الأهداف الروسية من الدفع باتجاه التطبيع السوري – التركي
تسعى روسيا وبكل ثقلها إلى دفع التطبيع السوري – التركي إلى الأمام وذلك لثلاثة أهداف:
- الهدف الأساسي لروسيا هو حصر الملف السوري بمسار استانة الذي تقوده بالتشارك مع تركيا وإيران، وإنهاء مسار جنيف الذي يدعو لتغيير سياسي في سورية ويطالب بإخراج القوات الأجنبية. التقارب بين دمشق وأنقرة سيساعد أنقرة على تحقيق هذه الأهداف نوعاً ما حيث تعد تركيا من أقوى المعارضين لنظام بشار الأسد وتستطيع أن تؤثر على المسار السوري عبر إنهاء المعارضة المسلحة.
- تسعى روسيا من خلال هذا التطبيع لإبعاد تركيا أكثر عن الولايات المتحدة الأميركية التي ترفض هذا التطبيع بالإضافة إلى تقديم تنازلات سياسية في سوريا بهدف إغرائها لحسم خيارتها في الصراعات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية في العالم وبالتحديد في أوكرانيا.
- تطمح روسيا لتوجيه ضربة قاسية للولايات المتحدة الأميركية في سورية من خلال جعل الهدف الأول للتقارب الروسي – التركي – السوري – الإيراني هو ضرب وتهديد النفوذ الأميركي في شمال وشرق البلاد. وبرأي المحلل السياسي الروسي دميتري بريجع، فإن رؤية موسكو للملف السوري هي أن كل الأطراف التي تدخلت من دون دعوة رسمية من دمشق يجب أن تخرج من الأراضي السورية، لأنها تعتبر ذلك انتهاكاً للسيادة السورية. بذلك يمكن القول إن على الولايات المتحدة الأميركية أن تخرج إذا جرى التوافق بين روسيا وتركيا ودمشق واستبعد نجاح موسكو في أن تدفع الولايات المتحدة للخروج من سوريا، موضحاً أن واشنطن تستفيد من الثروات الباطنية السورية، ومن الوضع الحالي في سوريا، مضيفاً أن الصراع في أوكرانيا والدعم الغربي لكييف يصعب من أن تترك واشنطن مناطق شمال شرقي سوريا فارغة، ما يفتح المجال لبسط السيطرة الروسية وهو ما لا تريده واشنطن. (اندبندنت عربية، 9 يناير 2023)
واشنطن والتطبيع السوري – التركي.. تحركات ميدانية وسياسية
على عكس التطبيع العربي مع سورية فإن التطبيع التركي – السوري سينسف كل المساعي الأميركية المتمثلة بالضغط على دمشق وموسكو للحصول على تنازلات في سورية وخارجها، بالإضافة إلى تهديد عمليات الضغط على الوجود الإيراني، لذلك وعلى الأغلب لن تكتفي الولايات المتحدة بالتنديد الإعلامي وقامت بعدد من الخطوات:
فمن جهة، أظهرت الولايات المتحدة الأميركية نوعاً من الحسم تجاه التهديدات التركية بشن عملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق سورية وفهم هذا أنه رسالة أميركية لأنقرة أن تماشيها مع السياسة الروسية لن يمنحها إمكانية التصرف وتهديد النفوذ الأميركي، وفي 5 يناير، كشفت مصادر مقربة من قوات "قسد" عن قيام القوات الأمريكية بتزويد مسلحيها بعشرات الصواريخ من نوع "تاو" وعدد من مضادات الطائرات المحمولة على الكتف. وقالت المصادر أن "قوات سوريا الديمقراطية "قسد" تسلمت الأسلحة الجديدة منتصف الشهر الماضي (سبوتنيك، 9 يناير 2023)، وفي سياق متصل نقلت صحيفة العرب في 10 يناير الجاري، عن مصادر محلية قولها إن أكثر من 100 مركبة اتجهت للقواعد العسكرية الأميركية في محافظة الحسكة السورية خلال الأيام الثلاثة الماضية فقط، وذكرت المصادر أنّ المركبات جاءت من العراق في عدة قوافل، وهي مؤلفة من مركبات عسكرية وأخرى محملة بإمدادات عسكرية.
من جهة أخرى، تسعى الولايات المتحدة إلى إبرام صفقة بين تركيا والأكراد تلبي من خلالها مطالب تركيا، مقابل تخلي الأخيرة عن التطبيع مع دمشق. وتحدثت معلومات بأن واشنطن بدأت بإعادة هيكلة قوات سورية الديمقراطية وجيش مغاوير الثورة في قاعدة التنف عبر تغيير القيادات والتحضير لسحب القيادات الكردية وإبراز دور المكون العربي.
في ذلك نشر عضو المجلس الوطني الكردي في سوريا علي تمي تفاصيل مقترح أميركي، قال إن واشنطن عرضته على تركيا، مقابل تراجع الأخيرة عن التطبيع مع "النظام السوري" وقال تمي وهو قيادي في "تيار المستقبل" الكردي، إن واشنطن عرضت على أنقرة "مشروعاً متكاملاً"، يتضمن سحب عناصر حزب العمال الكردستاني من مناطق شرق الفرات الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومن الرقة ودير الزور، على أن تقوم تشكيلات عسكرية عربية مثل لواء "ثوار الرقة" بملء الفراغ في المحافظتين، كذلك، اقترحت واشنطن، بحسب تمي، تشكيل قوة كردية محلية لإدارة بقية المناطق بالتوافق مع أنقرة، مضيفاً أن العرض ينصّ على فتح المعابر بين مناطق سيطرة قسد ومناطق سيطرة فصائل الجيش الوطني المدعومة تركياً، وقال تمي إن مصير مدينة عين العرب/كوباني، هو نقطة الخلاف الأبرز، حيث تطالب تركيا بالسيطرة عليها لوصل مناطق نفوذها في الشمال السوري، في الوقت الذي ترفض فيه الولايات المتحدة ذلك. واعتبر أن موافقة أنقرة على العرض الأميركي، تُعد اعترافاً بالواقع العسكري السوري الحالي، وهو ما تحذره أنقرة (موقع المدن اللبناني، 8 يناير 2023).
معوقات تقف أمام المخططات الأميركية
لا تملك الولايات المتحدة الأميركية خيارات كثيرة لتخريب التقارب السوري – التركي – الروسي سوى محاولة إرضاء تركيا، حيث ينحصر وجود واشنطن في منطقة شمال وشرق سورية ولا تملك أي نفوذ في المناطق السورية الأخرى.
لا يمكن لواشنطن الاعتماد على مناطق شمال وشرق سورية لمواجهة التقارب السوري – التركي – الإيراني – الروسي، كون هذه المنطقة لا يوجد فيها حالة استقرار كبيرة ومهددة بالصراعات القومية والعشائرية. كما أن مساعي واشنطن لإقناع القوى الكردية في شمال وشرق سورية بالابتعاد عن حزب العمال الكردستاني وإبراز القيادات المحلية في المنطقة لم تصل إلى أي نتيجة حتى الآن.
في هذا السياق "تسعى موسكو إلى ضم العشائر العربية في مناطق الشمال السوري، وتلك المحاذية لمناطق الوجود العسكري الأميركي إلى جهود إنجاح عملية انتشار الجيش السوري على الحدود. ولذلك دعت روسيا أحد قادة العشائر، الرئيس السابق لـ "ائتلاف المعارضة السورية" أحمد الجربا لزيارتها، بأمل أن تلعب العشائر دوراً في مواكبة تنفيذ "اتفاق موسكو" وخطوات تموضع الجيش السوري على الحدود" (اندبندنت عربية، 2 يناير 2023).
ما يعوق المخططات الأميركية هو أن هذه المناطق باتت محاصرة بالميليشيات الإيرانية حيث وعلى ما يبدو بأن مهمة الضغط على القوات الأميركية أوكلت إلى الإيرانيين الذين عملوا على تعزيز وجودهم في دير الزور والمربعات الأمنية في الحسكة والقامشلي بالإضافة إلى تمكنهم من التنسيق مع بعض وجهاء العشائر وتجنيد عدد منهم تحت اسم "المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الأميركي" التي يشرف عليها ما يسمى الحجاج الإيرانيين وأخرين تابعين لميليشيا "حزب الله".
خلاصة ختامية
من خلال ما سبق يتبين بأن التطبيع السوري – التركي يواجه معوقات وتحديات كثيرة فمن جهة، روسيا ودمشق قد لا يتمكنون وبأي شكل من الأشكال أن يدفعوا إيران للخروج من سورية، وهذا ما سيدفع الدول العربية للتراجع عن دعم هذا التطبيع.
من جهة أخرى، فإن الجانب التركي لن يقدم على الخروج من الأراضي السورية كما تطالب دمشق وهو يحاول إجراء العديد من اللقاءات والقيام ببعض الخطوات، كفتح بعض المعابر وتفعيل القنصليات والترويح لحدوث اتفاق مع دمشق حول إعادة اللاجئين. من المتوقع أن يستمر ذلك حتى انتهاء الانتخابات التركية ويشير مصطفى غوربوز، الباحث غير المقيم بالمركز العربي في واشنطن، إلى أن "نظام الأسد متشكك تجاه النيات التركية، ويتخوّف من أن لقاءً بين الأسد وأردوغان سيؤدي إلى شرعنة الاحتلال العسكري التركي لمناطق في شمال سورية، خصوصاً وأن أنقرة لن تتجاوب مع مطالب دمشق بالانسحاب، ويرى الباحث في مقال له أنه إذا لم تقدم تركيا تنازلات، فقد تقتنع دمشق بأن أردوغان غير جدي وبالتالي لا تدعم أردوغان في بحثه عن "نصر انتخابي" (موقع دويتشه فيلا، 7 يناير 2023).
وعلى الرغم من إمكانية تراجع أردوغان عن نواياه بالتطبيع مع دمشق بعد انتهاء الانتخابات التركية، إلا أنه من الأفضل لدمشق وروسيا أن يستغلوا الحاجة التركية للتطبيع، وأن يدفعوا أردوغان لإبرام اتفاقيات تناسب مصالحهم، لأنه بعد فوزه في الانتخابات لن يكون مضطراً لهذا التقارب، كما الآن وسيضع المزيد من الشروط والمطالب على روسيا لإكمال مسار التطبيع.
الإخفاق الأميركي المتوقع بترتيب الأوضاع في شمال وشرق سورية، وعدم تحقيق تركيا للنتائج المرجوة من التطبيع مع دمشق، من المتوقع أن يؤدي لعودة التنسيق بين أنقرة وواشنطن. ولا يستبعد إجراء عملية عسكرية تركية ضد مناطق كردية أخرى في شمال وشرق سورية.