مقالات تحليلية

السودان وإيران.. مصالح مزدوجة وأخطار أمنية

14-Feb-2024

   رغم إعلان حكومة السودان اعتزامها استئناف العلاقة مع إيران منذ يوليو من العام الماضي، خلال لقاء وزير الخارجية السوداني المكلف، علي الصادق، بنظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ، في مؤتمر عدم الانحياز بأذربيجان، فإن زيارته لطهران في مطلع فبراير الحالي وإعلانه عودة العلاقة، طرحت العديد من الأسئلة، خاصة أنها تزامنت مع تطورات تشهدها منطقة الشرق الأوسط نتيجة أحداث غزة، واتهام واشنطن للفصائل المدعومة من إيران بمهاجمة القوات الأمريكية في قواعد بالعراق وسوريا والأردن، وتنفيذ الولايات المتحدة وبريطانيا هجمات على مواقع الحوثيين اليمنيين المرتبطين بإيران؛ لاستهدافهم السفن التجارية والسفن الحربية في البحر الأحمر. فضلاً عن مرور 10 أشهر على المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، كما تُطِلّ من بعيد خطوات التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب والتي أدّى قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان دوراً محورياً فيها.

مصالح مزدوجة:

 من الواضح أن المصالح المزدوجة وراء استئناف هذه العلاقات، فالحكومة التي يتزعمها قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في السودان لجأت إلى إيران في إطار بحثها عن داعمين لتزويدها بالسلاح، بعد خسارتها دول المحيط الإقليمي والعربي، وتجميد عضويتها في "إيغاد" والاتحاد الإفريقي.

  في المقابل ظلت عودة هذه العلاقات مثار اهتمام لكل دول العالم، حيث نشرت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية في يناير الماضي تقريراً كشف تزويد طهران الجيشَ السوداني بطائرات مسيَّرة، وأنها بذلك تؤجج الصراع والحرب الأهلية في السودان. وبحسب "بلومبيرغ"، التقطت أقمار صناعية صوراً لطائرة من مسيَّرة من نوع "مهاجر-6" الإيرانية، في قاعدة وداي سيدنا الخاضعة لسيطرة الجيش بأمدرمان.

وقال ثلاثة مسؤولين غربيين، طلبوا عدم الإفصاح عن هوياتهم للوكالة ذاتها، إن السودان تلقى شحنات من طائرة "مهاجر-6"، وهي مسيرة ذات محرك واحد مصنّعة في إيران، وتحمل ذخائر موجهة. وذكرت "بلومبيرغ" أن تدخل إيران في الصراع السوداني المستمر حدث منذ تسعة أشهر، وذلك إلى جانب الجيش الذي فقد مساحات واسعة من الأراضي لصالح "الدعم السريع". ويسلط التدخل الإيراني الضوء على أهمية ساحل السودان على البحر الأحمر الذي يبلغ طوله 400 ميل، حيث تتنافس دول مثل الصين وروسيا وتركيا للوصول إليه.

وقد زار وفد من المسؤولين السودانيين الشهر الماضي، إيران في مهمة لشراء طائرات مسيرة إيرانية الصنع، وذلك بعد انتهاء حظر تجارة الأسلحة المفروض على طهران من الأمم المتحدة في أكتوبر الماضي.

تغيرات إقليمية:

  من الواضح أن التغيرات الإقليمية هي التي أسهمت في خلق حالة التوتر التي انتهت بالقطيعة بين السودان وإيران عام 2016 عندما أعلن وقتها الرئيس عمر البشير انحيازه لتحالف عاصفة الحزم في اليمن وقلب ظهره لطهران.

كذلك أسهمت التغيرات الإقليمية الآن في استعادة العلاقات الثنائية بين طهران والخرطوم في عام 2024، بعد أن ظن إخوان السودان أن التقارب السعودي الإيراني فتح مجالاً لم يكن قائماً لعودة العلاقات السودانية الإيرانية، دون أن يعني ذلك اتخاذ القيادة السودانية قراراً بتغيير نمط اصطفافها الإقليمي بما قد يحملها تكلفة سياسية واقتصادية مرتفعة.

لكن لن تسلم الجرة في كل مرة، فقد حدثت تغيرات في منطقة الشرق الأوسط لا تسمح بوجود إيران مجدداً في منطقة البحر الأحمر، إذ يزعج ذلك إسرائيل التي دخلت في معارك حامية الوطيس مع "حماس" وفي ذهنها أن أكبر عمليات مد لـ"حماس" بالسلاح تمت عن طريق "البحر الأحمر" عندما كانت العلاقات السودانية الإيرانية "سمناً على عسل".. وحين كانت كل الدول الكبرى حريصة على أمن إسرائيل سارعت بضرب قواعد عسكرية للحوثيين في اليمن حتى لا تستغل إيران "باب المندب" لتوسعة نفوذها في المنطقة وتتوغل في السودان وتعود "الفرقاطات" الإيرانية إلى ساحل البحر الأحمر مرة أخرى.

  تقارب الخرطوم مع طهران سيكون له تأثير في مواقف القوى الإقليمية والدولية حيال الحرب الدائرة حالياً في السودان بين الجيش والدعم السريع، فالجيش السوداني يريد إيصال رسائل إلى العديد من الدول في المحيط الإقليمي والدولي، يبرهن فيها على أن لديه بدائل  وأنه يمكن أن يعدل موقفه ضد قوات الدعم السريع، ويحقق مكاسب على مستوى العمليات العسكرية التي تدور في كل من الخرطوم وبعض ولايات دارفور، وذلك بانفتاحه على حليف إقليمي قوي يتمتع بخبرة ممتدة في دعم حلفائه الإقليميين عسكرياً بالعتاد العسكري والخبرات التي يمكن أن تشكل عاملاً لتغيير توازن القوى القائم في ساحات القتال في الوقت الراهن. مد إيران الجيشَ بعتاد عسكري مؤثر سيساعده في الصمود لفترة أطول في الحرب واستنزاف الخصم، ولكنه في الوقت ذاته هو مكمن الخطر والعقبة الكؤود التي تقف في طريق الاستفادة من عودة العلاقة مع طهران، لأن معظم دول العالم لن تسمح لطهران بإعادة تموضعها في منطقة شرق إفريقيا، التي تمتلك فيها حضوراً عسكرياً عبر الحوثيين في اليمن، فضلاً عن تاريخ قريب من العلاقات القوية مع عدد من دول المنطقة مثل إريتريا وكينيا وجزر القمر، وبعض الأطراف الفاعلة في الصومال.

وحتى لا يتحول السودان إلى مركز للنشاط الإيراني في وسط القارة وغربها، وفي منطقة البحيرات وصولاً إلى جنوب القارة، لن تسمح الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل بإعطاء طهران الفرصة لتنفُّس الصعداء والخروج من العزلة المفروضة عليها بإيجاد موطئ قدم في قلب إفريقيا.. والضغط المكثف من قبل الولايات المتحدة على رموز الإخوان وشركات الجيش يشير بوضوح إلى أن "مهاجر-6" لن تكون ذات فعالية في حسم المعركة لصالح الجيش، أمام تهديدات تل أبيب بالهجوم على أهداف إيرانية في السودان سيكون موجعاً ولن يتحمله إخوان السودان.

  لقد ظلت إسرائيل تضع منطقة البحر الأحمر تحت مراقبتها، ووضعت إستراتيجية تقوم بمواجهة كل ما يؤثر في أمنها القومي الذي بحسب رؤية مسؤولين إسرائيليين سياسيين وعسكريين وأمنيين لا ينتهي عند حدود الدولة العبرية، بل يمتد إلى حيث يوجد ما يهدد أمنها في أية بقعة في العالم ومنطقة البحر الأحمر تعد خطاً أحمر، خاصة مع كثافة الوجود العسكري الإيراني عن طريق الحوثيين في اليمن.

فالوجود الإسرائيلي بالمنطقة مرتبط بشكل كبير بالوجود الإيراني والعلاقات العسكرية السودانية الإيرانية، لأن إسرائيل ترى هذه العلاقات مهددة لأمنها، ومن قبل أغارت على مصنع اليرموك العسكري وعلى أهداف ليست عسكرية في بورتسودان أكثر من مرة وربطت جميع هذه الأحداث بأمنها الوطني ودور إيران في ذلك عبر تهريب السلاح من السودان، وبالتالي من الصعب جداً الآن أن تقبل بعودة علاقات على حساب أمنها خاصة بعد أحداث غزة وتطاول الحوثيين باليمن.

 الوجود العسكري الإيراني في السودان غير مقبول لدول الخليج التي لها مواقف واضحة من الوجود العسكري الإيراني في منطقة البحر الأحمر، فحتى السعودية التي أعادت علاقتها مع إيران قلقة من هذا الوجود وربما ترى أن المعني به ليس إسرائيل وإنما جاء للالتفاف عليها من الغرب، فإيران إذا أرادت الوصول إلى إسرائيل فهو أسهل عبر الشام وليس البحر الأحمر، فلإيران وجود بلبنان وسوريا ولها علاقات مع "حماس".

خلاصات:

 عودة العلاقات السودانية الإيرانية ستتيح لطهران الفرصة لتحسين إستراتيجيات التنويع الاقتصادي لديها، وكما أشارت الأستاذة منى عبد الفتاح في مقال تحليلي نشر بموقع اندبندنت عربية في أكتوبر الماضي، فإنه بحسب مسؤولين إيرانيين، زادت صادرات بلادهم إلى القارة الإفريقية بنسبة 100% خلال العام الماضي، مما يمكنها من تقليص اعتمادها على النفط من خلال الاستثمار في الأسواق الإفريقية، بالترويج لمشروعاتهما والاستثمار بعمق في السودان. وإضافة إلى المزيج القوي من المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية من المرجح أن تسعى طهران إلى التنافس على السلطة والنفوذ في القرن الإفريقي مستقبلاً.

في المقابل إذا جرّت إيرانُ السودانَ إلى حلفها ستُدخله في صراع مع إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية، وستصبح أراضي السودان أهدافاً عسكرية يسهل ضربها من إسرائيل حال استعراض طهران عضلاتها في السودان، خاصة أن لتل أبيب وجود في أسمرا، ولكن من يقنع الخرطوم بأن العلاقات العسكرية مع إيران خط أحمر ليس من وجهة نظر إسرائيل فقط وإنما من كل دول العالم.

الباحث الأمريكي البارز في شؤون الشرق الأوسط، جورجيو كافييرو كتب مقالاً تحليلياً استشهد به تقرير موقع الحرة حول عودة استئناف العلاقات السودانية الإيرانية الذي نشر في السابع من فبراير الحالي، قائلاً: "طوال فترة التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أدى نمو العلاقات الإيرانية السودانية في مجالات تشمل الدفاع والتجارة والدين، إلى خلق انزعاج كبير في عواصم الغرب ومجلس التعاون الخليجي"، ورغم ذلك فإن التغيرات الإقليمية الآن مختلفة، وقد تكون أكثر حساسية من سابقاتها فإيران لن تنظر إلى السودان الذي تتعامل معه اليوم كسابق عهده عندما كان وطناً مساحته مليون ميل مربع مستقر ومتماسك.

بالتالي الغرض من هذه العلاقة هو الاستفادة من صفقات الأسلحة والمناورة، خاصة أن طهران تعاني من ضائقة اقتصادية ولا تمتلك ما تسهم به في بناء وطن دمرته الحرب إذا انتصر حليفها، وهي مجربة في هذا الجانب، فمن قبل لم تنفذ طريق "الجبلين - ملكال" وكان ذلك من أسباب استقلال جنوب السودان، أما الخرطوم فما زالت قواتها تشارك في القتال في اليمن ضد الحوثيين وبالتالي هي مدركة طبيعة العلاقات في هذه المرحلة وأن التعمق فيها سيكلفها ديوناً ليست قادرة على سدادها، فالسعودية والولايات تتوسطان من أجل حل الأزمة السودانية الماثلة، ودول الجوار بما فيها مصر لن ترجح كفة عودة علاقات متينة بين الخرطوم وطهران لأن ذلك يعكر صفو المزاج العالمي.

 من الواضح أن الجيش وحلفاءه الإسلاميين يعتقدون أن مخزونات الأسلحة والذخائر التي فقدتها القوات المسلحة في حربها المستمرة مع قوات الدعم السريع منذ نحو 10 أشهر، ستعوض من إيران وتحدث فارقاً في المعركة يقلب صفحتها لصالح الجيش الذي سيعيد تموضعه ويفرض شروطه في التفاوض، ولكن حتى الآن لم تفلح المسيَّرات الإيرانية في تحقيق أي تقدم لصالح الجيش في المعارك الحربية واستطاعت قوات الدعم السريع إسقاط 3 مسيَّرات إيرانية من طراز "مهاجر-6"، وهذا من شأنه إيقاف الخطوات المتسارعة من الخرطوم تجاه طهران، فرغم زيارة وزير الخارجية السوداني علي الصادق لإيران، فقد نفى وجود زيارة للبرهان لطهران وقال: إن حركته مرتبطة بدول الإقليم التي تؤدي دوراً مهماً في حل أزمة السودان الراهنة. 


28