تجدد الحديث مرة أخرى عن إمكانية المواجهة النووية بين روسيا والغرب، وذلك على وقع استمرار التصعيد في أوكرانيا، وهذا ما يدفع أكثر إلى البحث حول توازن القوة النووية بين الطرفين ودواعي إنشاء درع نووية أوروبية في ظل الحديث عن تراجع الردع الأمريكي في أوروبا. وزارة الدفاع الروسية، قالت في بيان بتاريخ 6 مايو 2024، إن روسيا تعتزم إجراء مناورات تتضمن أسلحة نووية تكتيكية، رداً على ما أسمتها "التصريحات والتهديدات الاستفزازية من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، فيما يتعلق بالاتحاد الروسي"، محذرة من تفاقم التوترات مع روسيا.
وجاء التلويح الروسي بالنووي رداً على التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكذلك تسليم أنظمة الصواريخ الأمريكية بعيدة المدى ATACMS أو أنظمة الصواريخ التكتيكية العسكرية لأوكرانيا.
تحركات روسية نووية متزايدة
لوّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقدرات العسكرية الإستراتيجية لبلاده، وأعرب عن ثقته بأن روسيا جاهزة باستمرار "من وجهة النظر العسكرية التقنية، وهي دائماً في حالة استعداد قتالي". ونبّه بوتين إلى أن قدرات بلاده النووية "متطورة وحديثة وتتفوق في مجالات عدة على مثيلاتها الغربية".
خلال حديثه، ركز بوتين على ما أسماه مستوى تأهيل ما يعرف بـ"الثالوث النووي" الروسي، والمقصود به ناقلات الرؤوس النووية (الصواريخ والطائرات والغواصات). وقال إن روسيا عبر "تطوير صواريخ من طراز أفانغارد، نجحت عملياً في تصفير كل ما استثمرته الولايات المتحدة في أنظمة الدفاع الصاروخي". نتيجة لذلك، تنبغي معرفة طبيعة القدرات النووية الروسية وإجراء مقارنة حتى وإن كانت سطحية مع القدرات الغربية.
تملك روسيا وفقاً للتقديرات أكبر ترسانة نووية على مستوى العالم، حيث تحوي هذه الترسانة مجموعة متنوعة من الأسلحة النووية، بما فيها الصواريخ البالستية العابرة للقارات، والصواريخ قصيرة المدى، والقنابل النووية. وتمتلك روسيا أيضاً القدرة على إيصال أسلحتها النووية عبر الغواصات والطائرات، وتمكنها هذه الترسانة من الحفاظ على ثقلها العالمي.
على المستوى الأوروبي فإن فرنسا وبريطانيا فقط هما اللتان تمتلكان ترسانة نووية مستقلة لكل منهما في أوروبا، بينما تعتمد بقية دول القارة على الردع النووي الأمريكي من خلال عضوية الناتو.
وفي فبراير 2024، أطلقت الولايات المتحدة تحذيراً بشأن قدرات روسية جديدة على نشر أسلحة نووية في الفضاء، يستند إلى معلومات استخباراتية، قالت إنها تثير مخاوف من "تهديد خطِر" للأمن القومي، وهو الأمر الذي رفضته موسكو، ووصفته بأنه "افتراء ماكر".
شبكة "إيه بي سي نيوز" نقلت عن مسؤول أمريكي سابق وآخر حالي أن المعلومات الجديدة متعلقة بمحاولات روسيا تطوير سلاح نووي في الفضاء مضاد للأقمار الاصطناعية، وأن المعلومات الاستخباراتية تتعلق بقدرات كهذه. وقال المسؤولان إن السلاح النووي لم يتم وضعه في المدار الفضائي. وذكر مصدران على اطلاع على المناقشات في الكابيتول الأمريكي، أن المعلومات الاستخباراتية تتعلق بمحاولات روسيا وضع سلاح نووي في الفضاء، وأوضحا أن تلك القدرة لا تعني إسقاط أسلحة نووية من الفضاء إلى الأرض، بل استخدامها ضد الأقمار الاصطناعية.
وذكرت وزارة الدفاع الأمريكية في عام 2018 أن روسيا لديها "مزايا كبيرة" على الولايات المتحدة وحلفائها في القوات النووية التكتيكية وأنها تعمل على تحسين قدرات التسليم. وقدر الباحثون في اتحاد العلماء الأمريكيين أنه بحلول عام 2022، سيكون لدى روسيا 4477 رأساً حربياً نووياً، منها 1525 - نحو الثلث - يمكن اعتبارها تكتيكية (بلومبيرغ - 6 مايو 2024).
المواجهة النووية مع الغرب
رغم سعي روسيا الدائم لتطوير قدراتها النووية والتلويح باستخدامها كتهديد واضح للغرب، فإن هناك عدة محددات لاستخدام روسيا لهذا السلاح، ونتيجة لقراءة التحركات والسياسات الروسية خلال السنوات الماضية يبدو أن موسكو باتت تربط استخدامه بمسار الحرب في أوكرانيا والصراع مع الغرب، وبالتالي بات يتردد في الأوساط الدولية أن روسيا تستخدم خطورة السلاح النووي كعامل رادع لأي تحركات تهدف لخسارتها في الحرب الأوكرانية، وهذا ما تنظر إليه الأوساط الروسية كمقدمة لمخطط غربي يهدف لهزيمة روسيا وتغيير نظامها على الأقل.
ومنذ عام 2000، سمحت العقيدة العسكرية الروسية المشتركة علناً باستخدام الأسلحة النووية "رداً على عدوان واسع النطاق باستخدام الأسلحة التقليدية في المواقف الحرجة للأمن القومي للاتحاد الروسي". لذلك فإن الإستراتيجية الروسية المعروفة باسم "التصعيد لخفض التصعيد" تتمثل في استخدام سلاح نووي تكتيكي في ساحة المعركة لتغيير مسار الصراع التقليدي الذي تتعرض القوات الروسية لخطر خسارته.
تمثل سياسة خفض التصعيد التي تنتهجها روسيا عودة لأهمية الأسلحة النووية في إستراتيجية الدفاع بعد فترة تضاءلت فيها أهميتها. وعندما انتهت الحرب الباردة، أصبحت لدى روسيا والولايات المتحدة فجأة أسباب أقل للخوف من قيام أحدها بشن هجوم نووي مفاجئ واسع النطاق. ولذلك بدأت الأسلحة النووية تؤدي دوراً سياسياً في المقام الأول في العلاقة الأمنية بين البلدين، فأصبحت رمزاً للمكانة، أو تأميناً ضد التطورات غير المتوقعة، وضمانة أمنية نهائية، ولكنها كانت دائماً في الخلفية، وهو شيء لم تكن هناك حاجة إليه على الإطلاق. وقد قدم هذا المبدأ فكرة خفض التصعيد، وهي إستراتيجية تتصور التهديد بتوجيه ضربة نووية محدودة من شأنها أن تجبر الخصم على قبول العودة إلى الوضع الذي كان قائماً من قبل.
يُنظر إلى مثل هذا التهديد على أنه يردع الولايات المتحدة وحلفاءها عن التورط في صراعات تكون لروسيا مصلحة مهمة فيها، وبهذا المعنى فهو دفاعي في الأساس. ومع ذلك، لكي يكون مثل هذا التهديد فعّالاً، فلابد أن يكون ذا مصداقية أيضاً. ولتحقيق هذه الغاية، تضمنت جميع التدريبات العسكرية واسعة النطاق التي أجرتها روسيا ابتداء من عام 2000، عمليات محاكاة لضربات نووية محدودة (ذا بوليتين - 8 مارس 2022).
كانت هذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها روسيا تدريبات تشمل أسلحة نووية تكتيكية، رغم أن قواتها النووية الإستراتيجية تُجري تدريبات بانتظام. تشمل الأسلحة النووية التكتيكية القنابل الجوية والرؤوس الحربية للصواريخ قصيرة المدى وذخائر المدفعية، وهي مخصصة للاستخدام في ساحة المعركة، وهي أقل قوة من الأسلحة الإستراتيجية (الرؤوس الحربية الضخمة التي تسلح الصواريخ البالستية العابرة للقارات وتهدف إلى محو مدن بأكملها)، وكان الإعلان الروسي بمثابة تحذير لحلفاء أوكرانيا الغربيين بشأن الانخراط بشكل أكبر في الحرب المستمرة منذ عامين، حيث اكتسبت قوات الكرملين اليد العليا وسط نقص القوى البشرية والأسلحة في أوكرانيا. وسبق أن أعرب بعض شركاء أوكرانيا الغربيين عن قلقهم من أن الصراع قد يمتد إلى ما هو أبعد من أوكرانيا ويتحول إلى حرب بين حلف شمال الأطلسي وروسيا (أسوشيتد برس - 6 مايو 2024).
الدرع النووية الأوروبية
في ظل هذه التهديدات الروسية والصينية التي تحمل طابعاً نووياً وفقاً لما ترى الأوساط الأوروبية، تزايد الحديث عما يسمى الدرع النووية الأوروبية التي منذ انطلاق الحديث عنها تسبب بإثارة حالة من الجدل والخلاف سواء بين الدول الأوروبية أو بين الأوساط السياسية.
ولعل أبرز ما دفع الدول الأوروبية إلى البحث عن تشكيل درع نووية أوروبية هو عدم الثقة بالموقف الأمريكي، حيث كانت واشنطن توفر عامل ردع أمام التهديدات النووية التي تواجه أوروبا، وانطلق القلق الأوروبي من خسارة الموقف الأمريكي الداعم نووياً، من تصريحات أطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إذ هدد بأنه إذا فاز بالانتخابات في نوفمبر، فإنه لن يدعم دول الناتو الأخرى في حالة وقوع هجوم، إذا لم تستثمر ما يكفي في الدفاع.
ورأى رئيس اللجنة العسكرية للاتحاد الأوروبي روبرت بريغر أن للنقاشات الدائرة حول الردع النووي في أوروبا "ما يبررها". وقال الممثل العسكري الأعلى للاتحاد الأوروبي لوكالة الأنباء الفرنسية في بروكسل: "أرى أن النقاش حول الأسلحة النووية الأوروبية أمر مشروع، بالنظر إلى موقف روسيا في المواجهة". وشدد على أنه إذا أراد الأوروبيون التصرف "على قدم المساواة مع القوى الأخرى"، فتتعين عليهم أيضاً "زيادة إنفاقهم الدفاعي" بشكل كبير، على حد تعبيره (دويتشه فيلا - 16 فبراير 2024).
لكن رغم إعطاء أهمية كبيرة لذلك، فإن مساعي تشكيل درع نووية أوروبية تواجه حالة من الجدل والخلاف، وفي ألمانيا، قالت كاتارينا بارلي، العضو في الحزب الديموقراطي الاشتراكي الذي يتزعمه أولاف شولتس، في فبراير 2024، إنه مع احتمال إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فإن درعاً ذرية أوروبية "قد تطرح على الطاولة". وبدوره قال وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر إنه من الضروري البحث في إنشاء قوة ردع نووية أوروبية بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا، وهما القوتان النوويتان في القارة. لكن وفي ظل طبيعة البلاد المناهضة لانتشار السلاح النووي، بدأ الكثير من الساسة والشخصيات يعارضون ذلك، فوصف عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي، رالف ستيجنر، الدفع نحو أسلحة نووية أوروبية مشتركة بأنه "تصعيد خطِر للغاية". وقال لصحيفة تاجشبيجل الألمانية: "ليست هناك حاجة لقوة نووية أوروبية، فهذا سيكون عكس الأمن الأوروبي".
وفي فرنسا أيضاَ، تحدث الرئيس ماكرون في نهاية إبريل 2024، خلال خطاب له بشأن مستقبل أوروبا في جامعة السوربون، عن "أوروبا قوية"، وطرح فكرة إنشاء إستراتيجية دفاع أوروبي إلى جانب حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تقوده واشنطن، في مواجهة روسيا، إلا أن ذلك واجه أيضاً ردود أفعال منددة ورافضة، خاصة فيما يتعلق بمسألة أن توضع الأسلحة النووية الفرنسية في خدمة الدول الأوروبية الأخرى أو ضمن إطار مظلة أوروبية، وندد فرانسوا كزافييه بيلامي، رئيس قائمة حزب الجمهوريين في الانتخابات الأوروبية بهذه التصريحات التي رأى أنها تهدد وتمس عصب السيادة، وبدوره قال حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي في بيان أصدرته كتلته البرلمانية: "ماكرون وجه للتو ضربة جديدة لصدقية الردع النووي الفرنسي".
نتائج وخلاصات
ترغب بعض الأوساط الأوروبية وخاصة الرئيس الفرنسي ماكرون في أن يكون لأوروبا تكتل دفاعي جديد بديل عن حلف الناتو بهدف تقوية المنظومة الدفاعية أمام التهديدات الروسية التي أخذت طابعاً نووياً خلال الفترة الماضية؛ لذلك فإنه ومن الطبيعي أن تحاول أوروبا تشكيل عامل ردع في ظل ضعف الموقف الأمريكي الداعم للدول الأوروبية.
من المؤكد بأن التهديدات النووية بين أوروبا وروسيا تأتي في إطار الردع المتبادل، حيث إنه ورغم أن الطرفين يدركان التداعيات الخطِرة لأي مواجهة نووية فإنهما يتنافسان في تطوير قدراتهما، وفي هذا السياق من المتوقع أن تكثف أوروبا هذه المساعي.
أما بالنسبة لإمكانية أن تستخدم روسيا هذا السلاح، فإن ذلك يمكن أن يتم بشكل تكتيكي لحسم المعركة في أوكرانيا، في حال شعرت بأن هناك توجهاً غربياً لقلب موازين القوى في الميدان الأوكراني، كما أن هناك احتمالاً ضعيفاً بأن روسيا ستشن هجوماً على إحدى الدول الأوروبية في حال كانت هناك خطوات ميدانية وهجومية أوروبية تستهدف روسيا.