شكَّل إعلان موسكو وقف عمليات الإخطار النووي مع واشنطن خطوةً تصعيدية جديدة أثارت مخاوف بشأن المزيد من التوتر النووي بين البلدين. تضمن الإعلان عزم موسكو التوقف عن إعطاء واشنطن أي معلومات تتعلق بالأنشطة النووية الروسية. التصعيد الروسي الجديد جاء على خلفية الموقف الأمريكي من أوكرانيا، والدعم التسليحي الذي تقدمه لها في مواجهة موسكو. يعكس هذا التصعيد الروسي تزايد حالة العداء مع واشنطن، ومن المتوقع أن يدفع الدول النووية نحو وضع مقلق يسوده غياب الاستقرار وعدم وجود ضوابط للنشاط النووي.
يأتي إعلان وقف عمليات الإخطار بعد ما مرور شهر على تعليق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ستارت الجديدة "New Start"، التي تُعد آخر معاهدة أسلحة نووية كبرى بين البلدين للحد من الأسلحة النووية (سويس إنفو، 27 مارس، 2023). الرئيس بوتين أكد حينها أن هذا التعليق بسبب "مشاركة الغرب بشكل مباشر في هجمات أوكرانية على قواعد القاذفات الاستراتيجية الروسية في العمق الروسي"، (روسيا اليوم، 21 فبراير، 2023). الإعلان الروسي قابلته حينها الخارجية الأمريكية ببيان رسمي وصفه "بالخطوة المؤسفة وغير المسؤولة من قبل موسكو"، واعتبرت أن "تعليق معاهدة ستارت الجديدة من قبل روسيا باطل من الناحية القانونية، وتبقى روسيا نتيجة لذلك ملزمة بالتزاماتها بموجب المعاهدة"، (وزارة الخارجية الأمريكية، 15 مارس، 2023).
من المهم الإشارة إلى أن موسكو استبقت خطواتها التصعيدية النووية هذا العام بإجراءات سابقة خلال النصف الثاني من 2022، كان من بينها تعليق عمليات التفتيش الأمريكية لمواقع عسكرية روسية، وتأجيل عقد محادثات مع واشنطن تتعلق باستئناف عمليات التفتيش بموجب معاهدة "ستارت الجديدة". تشير مجمل هذه التطورات إلى أن الحرب الأوكرانية تهيمن على المباحثات الروسية الأمريكية بشأن الأمن النووي، وتربط استمرار العمل بمعاهدة ستارت الجديدة بتوقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا.
تصريحات ريابكوف المتعلقة بالإخطارات
تُشكِّل تصريحات ريابكوف حول وقف بلاده تزويد واشنطن بكافة إخطارات النشاط النووي الروسي إنهاءً فعلياً أحادي الجانب لاتفاقية ستارت الجديدة المقرر انتهاءُ العمل بها في عام 2026. إنهاء عملي يشمل كل أشكال العمل بموجب الاتفاقية بين الجانبين بما في ذلك كل أنواع الإخطار، الإشعارات، التفاصيل المرتبطة بالأنشطة النووية الروسية، الإطلاقات التجريبية للصواريخ النووية، الإنذارات، تبادل البيانات، وأنشطة التفتيش. تعكس التصريحات مدى التوتر والتصعيد الذي وصلت إليه العلاقات مع واشنطن. توتر دفع موسكو إلى تحرير نفسها كلياً من القواعد التي التزمت بها بموجب معاهدة ستارت الجديدة، والتي وضعت قيوداً على حيازة كل من روسيا والولايات المتحدة للرؤوس الحربية، بحيث لا يتجاوز عددها 1550 رأساً حربياً لكل من البلدين.
ويبدو أن موسكو تتعامل مع واشنطن بمبدأ المثل، فكما ترى أن الأخيرة تستغل الحرب الأوكرانية لتحقيق مصالحها، يبدو أنها اتخذت قراراً بالقيام بذات السياسة، طالما أن واشنطن وحلفاءَها في الناتو يضعون علانية هزيمة روسيا في أوكرانيا كهدف لهم.
يرى جيف توليفسون المتخصص في متابعة السياسات النووية من جامعة هارفارد في تصريحات لموقع Nature أن "إعلان موسكو ينهي رسمياً عمليات التفتيش التي تتيح للعلماء من كلا الطرفين التحقق من تدابير تعزيز الحد من حيازة الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، وسيوقف العمل بالمعاهدة التي كانت تتيح لكلا الطرفين التحقق من أن الطرف الآخر يلتزم ببنودها"، (Nature، 25 مارس، 2023).
موقف موسكو الأخير يمكن أن يشكل تحدياً جديداً للمساعي الدولية الرامية إلى فرض قيود على حيازة الأسلحة النووية، قد يؤدي إلى تصاعد التهديدات النووية على المستوى العالمي. هذا الأمر يعزز الشعور بأن العالم اقترب خطوة إضافية من شبح اندلاع حرب نووية. إعلان موسكو ترافق مع قيام الجيش الروسي بنشر راجمات صواريخ متحركة في سيبيريا في مؤشر لاستعراض القدرات النووية بالتزامن مع عملياتها العسكرية القتالية في أوكرانيا.
وقد أشارت باتريشيا لويس مديرة برنامج الأمن الدولي بالمعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس) في حديث لقناة دويتشه فيلا، إلى أن "موسكو تصور قراراتها النووية الأخيرة كرد فعل دفاعي على سياسات الغرب تجاهها، لكننا نعتقد أنها تعمل على فتح طريق أمام روسيا لاستخدام أسلحتها النووية في هجوم مفاجئ"، (دويتشه فيلا، 3 مارس، 2023).
إن التصريحات الروسية لطالما أشارت إلى أن موسكو لن تتردد في استخدام سلاحها النووي إذا حاول الغرب زعزعة استقرارها. فوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان قد وجه سابقاً تحذيرات متعددة للغرب الذي اعتبر أنه "يخطط لحرب فعلية ضد موسكو" محذراً من أن "الكل يعلم أن حرباً عالمية ثالثة لا يمكن أن تكون إلا نووية"، (روسيا اليوم، 3 مارس، 2022).
انسحاب روسيا من معاهدة «نيو ستارت»
إن قيام موسكو بتعليق معاهدة ستارت الجديدة يعني إنهاء العمل بها فعلياً قبل موعد انتهائها الرسمي في فبراير 2026، وفي ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا فإنه لن يكون ممكناً إجراء أي محادثات بين القوتين النوويتين حول أي بديل للمعاهدة، وبالتالي إطلاق العنان لكلا الدولتين للمنافسة النووية.
أشارت ممثلة الأمم المتحدة السامية لشؤون نزع السلاح إيزومي ناكاميتسو خلال إحاطتها أمام مجلس الأمن الدولي في نيويورك إلى "أن خطر استخدام سلاح نووي حالياً أعلى من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، وأن الحرب في أوكرانيا المثال الأكثر حدة لهذا الخطر". ناكاميتسو دعت إلى "ضرورة أن تتجنب الدول اتخاذ أي إجراءات قد تؤدي إلى التصعيد أو الخطأ أو سوء التقدير، والعودة إلى التنفيذ الكامل لستارت الجديدة، والحوار لتهدئة التوترات بشكل عاجل"، (العربي الجديد، 31 مارس، 2023).
يُشكل انسحاب موسكو من المعاهدة بداية مرحلة حاسمة في إطار التعاون الدولي النووي المتعلق بجهود الحد من انتشار السلاح النووي، خاصة وأن المعاهدة كانت لها أهمية رمزية وعملية. إن ذلك سيؤدي إلى تهديد مستقبل فاعلية المعاهدات الدولية المتعلقة بالحد من التسلح النووي، وقدرتها على ضبط انتشاره. تبرز خطورة هذا الأمر من إمكانية قيام كل من واشنطن وموسكو بنشر أسلحة نووية في دول أخرى لغايات تتعلق بحماية أمنها القومي، ومن جهة ثانية وجود مساع لدول أخرى للدخول في نادي الدول النووية.
إن المشهد النووي الدولي يشهد سباقاً عملياً على أرض الواقع من قبل دول إما لتعزيز ترسانتها النووية مثل الصين، أو من قبل دول باتت تطور ترسانتها النووية مثل كوريا الشمالية. تضاف إلى ذلك، دول تراكم سلاحها النووي مثل الهند وباكستان، ودول أخرى باتت على مشارف امتلاك القدرة على إنتاج ترسانة نووية مثل إيران. يعتبر جيف توليفسون أن "هذا التطور سيوجه على نحو رسمي ضربة أخرى إلى المساعي الدولية الرامية إلى إصلاح نظام حيازة الأسلحة النووية وفرض قيود عليه"، (Nature، 25 مارس، 2023).
آثار وقف التواصل النووي بين القوتين
سيؤدي وقف التواصل النووي بين واشنطن وموسكو إلى عودة التوترات النووية بينهما إلى الواجهة مرة أخرى بعد أن كانت قد شهدت مرحلة من الهدوء النسبي منذ عام 2010. ستسهم تلك التوترات في احتدام التنافس بينهما على التوسع نووياً باتجاه الدول التي يمكن أن تدخل في حسابات الأمن القومي لكل منهما، أو يشكل نشر أسلحة نووية فيها تهديداً للطرف الآخر. سينتج عن ذلك اتساع عملية الانتشار النووي دولياً بقصد الردع المتبادل خلال المدى القريب والمتوسط.
بدأت مؤشرات هذا الانتشار مع إعلان الرئيس بوتين خطته الخاصة لنشر أسلحة نووية في روسيا البيضاء، والتي اعتبر فيها أن "نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا لا يعد خرقاً لمعاهدة الأمم المتحدة الخاصة بحظر انتشار الأسلحة النووية"، (وكالة تاس، 26 مارس، 2023). الرئيس بوتين أشار إلى أن ما تعزم عليه موسكو الآن في بيلاروسيا "قامت به واشنطن مسبقاً على مدى عقود، حيث وضعت أسلحة نووية تكتيكية في دول حليفة لها"، (سويس انفو، 27 مارس، 2023).
اعتبرت العديد من الجهات الدولية والإقليمية إعلان الرئيس الروسي بداية مرحلة تصعيدية جديدة تربك كل حسابات خريطة الأمن الاستراتيجي في القارة الأوروبية، خاصة وأن هذا الإعلان قد يشكل تمهيداً جدياً لاستخدام القدرات النووية التكتيكية في حال دعت الضرورات الميدانية موسكو لذلك.
لم يتوقف سيل الانتقادات الغربية، التي ترافقت مع التلويح برُزم عقوبات جديدة تستهدف قيادتَي البلدين. ندد حلف الناتو بقرار موسكو واعتبره "قراراً خطراً غيرَ مسؤول"، (بي بي سي 26 مارس، 2023). وكالة الأناضول نقلت عن المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك في تعليقه على خطة روسيا نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا أن "تصاعد التوترات بشأن الأسلحة النووية أمر مثير للقلق"، ودعا إلى الامتثال لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية"، (وكالة الأناضول، 27 مارس، 2023). بدورها اعتبرته الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية (ICAN) "تصعيداً خطراً للغاية" بحسب ما صرحت به (سويس انفو، 27 مارس، 2023).
سيسهم نشر موسكو أسلحتها على الأراضي البيلاروسية في تعزيز قدرتها على شن هجوم على دول حلف الناتو بسرعة كبرى، وسيجعل وقت استجابة الناتو لأي هجوم محتمل عليه أقصر. هذا الأمر سيدفع بالمقابل الناتو إلى مواصلة الردع النووي تجاه موسكو. يشير برونو ليت، الزميل البارز في مركز أبحاث صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة في مقابلة مع دويتشه فيلا إلى أن الناتو لم يتفاجأ من إعلان موسكو نشر أسلحة نووية "تكتيكية" في روسيا البيضاء، بل كان يتوقع ذلك. يقول ليت "إن ذلك يبدو جزءاً من مسار اتخذته موسكو العام الماضي حيث كثفت خطابها وتهديداتها النووية، لذا يمكن القول إن الناتو وأوروبا على استعداد"، (دويتشه فيلا، 28 مارس، 2023).
من الواضح أن موسكو، وبعد إعلانها تعليق الإخطار النووي مع واشنطن، جادة في نشر قدراتها النووية في البلد الجار، ما يعني اقتراب ترسانتها من حدود بولندا، وحلف شمال الأطلسي بشكل عام. هذا النشر سيعزز ردعها لواشنطن والناتو، لاسيما في إطار الحرب الأوكرانية. لقد عكست تصريحات الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف أهمية ردود الفعل الدولية الواسعة على قرار موسكو، مؤكداً أن "الانتقادات الغربية لن تؤثر على خطط نشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضي بيلاروسيا"، (روسيا اليوم، 31 مارس،2023). إن من شأن ذلك أن يرفع أخطار التهديد النووي في القارة الأوروبية في حال استمرار تزويد أوكرانيا بتقنيات غربية وزيادة مستوى وفاعلية هذه التقنيات، وتعرض الأراضي الروسية (أو ما يدخل في عدادها) لخطر جدي مثل هجوم كاسح قد يسفر عن تقهقر واسع للقوات الروسية.
سيدفع وقف التواصل النووي بين موسكو وواشنطن كلاً منهما إلى بذل مساع كبيرة لمراقبة ورصد النشاط النووي للآخر، الأمر الذي سيفاقم توتر العلاقات بينهما. تشير باتريشيا لويس مديرة برنامج الأمن الدولي في "تشاتام هاوس" إلى أن "أي تحرك لتجهيز ونشر الأسلحة النووية الروسية سوف يكون مرصوداً ومراقباً من جانب الأقمار الاصطناعية للولايات المتحدة وغيرها التي يمكنها الرصد، بالإضافة إلى الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية والتحليلات الأخرى، وفي حال قيام موسكو بذلك فقد تقرر دول الناتو التدخل لمنع إطلاق تلك الأسلحة بمختلف الوسائل"، (دويتشه فيلا، 3 مارس، 2023).
في الخلاصة:
يشكل إعلان موسكو وقف الإخطار النووي تصعيداً بالغ الخطورة، يجعل شبح حرب نووية محتملة يخيم على العالم، خاصة وأن المسؤولين الروس، بمن فيهم الرئيس فلاديمير بوتين، أشاروا مراراً إلى إمكانية اللجوء إلى "كافة الوسائل" للدفاع عن روسيا وأمنها.
الإنهاء الروسي الأحادي لمعاهدة ستارت الجديدة سيجعل أكبر قوتين نوويتين على مستوى العالم في حل من الالتزام بأي ضوابط تتعلق بالحد من التسلح. يشكل النموذج البيلاروسي أول النماذج التطبيقية لنتائج القرار الروسي، والذي يُمكن إدراجه ضمن الضغط السياسي الروسي على الغرب أكثر من كونه تصعيداً عسكرياً نووياً حقيقياً على الأرض.
على ذلك يبدو أن العالم مقبل على مرحلة جديدة من انفلات انتشار السلاح النووي، وستكون الدول الساعية للحصول على ترسانة نووية، أو تلك التي ترغب في تعزيز وتعظيم ترسانتها الحالية أولى المستفيدين منه. إن هذا الانفلات سيضع العالم أمام تحديات جديدة خطرة، تعيد أجواء الحرب الباردة مرة أخرى إلى المشهد الدولي، خاصةً في ظل إمكانية لجوء كلا القوتين النوويتين موسكو وواشنطن، إلى استخدام السلاح النووي ولو بشكل محدود أو تكتيكي في حروبهما غير المباشرة.