في تقرير نشرته مؤخراً، كشفت نيويورك تايمز أن الرئيس جو بايدن وافق للمرة الأولى في مارس الماضي على خطة إستراتيجية نووية سرية للولايات المتحدة الأمريكية تعيد توجيه إستراتيجية الردع النووي الأمريكي لتركز على مراقبة التوسع النووي الصيني المستمر. يأتي ذلك بعد توفر معلومات بأن مخزون الصين من الأسلحة النووية سوف يضاهي المخزون الأمريكي والروسي في النوع والحجم خلال العقد المقبل.
كانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) قد أعلنت أواخرَ العام الماضي عزمَها تحديثَ الترسانة النووية في البلاد من خلال بناء نوع جديد من قنبلة الجاذبية النووية B61-13 لتحمل اسم B61، غير أنه لم تصدر تصريحات رسمية حول هذا الأمر من البيت الأبيض.
تزايُد حجمِ
الأسلحة النووية
يقول الباحث
زيهاو بو، في مقال نشرته فورين بوليسي، في 20 أغسطس 2024، إنه منذ نهاية الحرب الباردة
تزايَد دورُ الأسلحة النووية، وتم تعزيز وتقوية الترسانات النووية حول العالم، كما
واصلت الدول النووية تحديث ترساناتها. وفي مايو الماضي قال الأمين العام لحلف
الناتو جونز ستولتنبرج، إن التحالف يُجري مشاوراتٍ لنشر مزيد من الأسلحة النووية ووضعها
في حالة الاستعداد، بينما طالب روبرت أوبريان مستشار سابق للأمن القومي للرئيس الأمريكي
السابق دونالد ترامب، بأن عليه أن يعمل على إجراء تجارب نووية إذا ما فاز بدورة
رئاسية ثانية، لأنها سوف تساعد الولايات المتحدة على المحافظة على تفوُّقها التقني
والعددي مقارنة بكل من الصين وروسيا.
حقائق مُحبِطة
ويرى بو وهو
زميل مشارك في المركز الدولي للأمن والإستراتيجية في جامعة تستنجاو وعقيد متقاعد
في جيش التحرير الشعبي الصيني، أن هناك حقيقتين نوويتين دبلوماسيتين محبِطتين:
الأولى، هي أنه من المستحيل منع هذه الأسلحة في المستقبل القريب، فمنذ 2017 لم تقم
أيُّ دولة نووية بالتوقيع على معاهدة الأمم المتحدة على منع نشر الأسلحة النووية، حيث
يُرى أنها ستصرف الانتباه عن المبادرات الأخرى الخاصة بعدم التسلح وعدم نشر الأسلحة
النووية.
الحقيقة
الثانية تمكن في أنه من الصعب إقناع الدول النووية بخفض مخزونها بينما يتزايد
التنافس الجيوسياسي والعسكري. على العكس من ذلك أعلنت روسيا في فبراير 2023، أنها
قد أوقفت مشاركتَها في معاهدة 2010، حول خفض الأسلحة الإستراتيجية الهجومية والحد
منها (New START)، وهي آخر معاهدة أسلحة نووية متبقية للحد
من الأسلحة الروسية والأمريكية النووية.
في المقابل
قامت الولايات المتحدة بإيقاف العمل والمشاركة بنشر البيانات الخاصة بالمعاهدة، ثم
قامت روسيا بخطوة متقدمة وسحبت توقيعها على معاهدة التجارب النووية (CTBT)، بحجة عدم وجود توازن لأن الولايات المتحدة
لم توقع على الاتفاقية منذ بدايتها عام 1996.
موقف بكين
تجاه هذه الأوضاع
لا يمكن لبكين أن تقف مكتوفة الأيدي، فقد قدر معهد إستكهولم لبحوث السلام، أن
الترسانة الصينية من الأسلحة النووية زادت من 410 في يناير 2023 إلى 500 في يناير
2024 ويتوقع أن تزيد، وللمرة الأولى سوف تقوم الصين بنشر عدد صغير من الأسلحة
النووية على رؤوس صواريخَ خلال فترة السلم، ووفقاً لوزارة الدفاع الأمريكية فإن
الصين من المتوقع أن تزيد عدد الرؤوس النووية إلى 1500 في عام 2035.
في ضوء تلك
الحقائق، يبدو أن أقرب طريق لدرء الأخطار النووية ليس الحد من زيادة عدد الأسلحة
النووية، ولكن عن طريق السيطرة على السياسات التي تحكم استخدام تلك الأسلحة، ويبدو
أن الخيار الواقعي لخفض تهديد الأسلحة النووية هو أن تلتزم الدول النووية باعتماد
خيار عدم البدء باستخدام الأسلحة النووية.
ويشير ذلك
إلى عدم قيام أيٍّ من القوى النووية الأولى باستخدام أسلحة الدمار الشامل في
الحروب، إلا في حالة الدفاع ضد هجوم من العدو بالأسلحة النووية، علماً أنه من بين
الدول النووية الخمس وهي الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، فرنسا، وروسيا،
والصين، هناك دولة واحدة أعلنت التزامها بعدم البدء باستخدام السلاح النووي.
في 16 أكتوبر
عام 1964 عندما أعلنت الصين صنع أول قنبلة نووية لها، ذكرت أنها لن تكون الدولة
الأولى التي تستخدم أو تقوم بالتهديد باستخدام الأسلحة النووية في أي وقت، وقالت
الهند عام 1998 وهي دولة لم توقع على المعاهدة، إنها ستفعل الشيء نفسه ولكن فقط
تجاه الدول التي لا تملك أسلحة نووية وليست متحالفة مع دول نووية.
غير أن دوائر
الأبحاث الأمريكية تشكك في مدى الالتزام الصيني بعدم استخدام السلاح النووي في حال
حدوث سيناريو حرب كبيرة، مثل حدوث مواجهة حول تايوان. وبعض المراقبين الأمريكيين
يعتقدون أنه إذا ما هاجمت بكين تايوان، فلا يوجد ما يمكن أن يغير تفكيرهم إن لم
تنجح الأسلحة التقليدية في تحقيق ذلك.
مثل هذه السيناريوات
تبدو غير قابلة للحدوث، فالصين الآن في وضع نووي جيد باعتماد سياساتها القديمة،
فهي لم تستبعد استخدام سياساتها غير السلمية أو ما تسميه "إعادة الوحدة"،
ولم تذكر أبداً أنها سوف تستخدم الأسلحة النووية تجاه تايوان، وخلال محادثات غير
رسمية عقدت في مدينة شنغهاي في مارس الماضي مع الأمريكيين، ذكر الصينيون أنهم يمكن
أن يحققوا أهدافهم في تايوان عن طريق الأسلحة التقليدية دون استخدام الأسلحة
النووية.
المواقف الغربية
ورغم عدم
التزام الولايات المتحدة بالتقيد بمبدأ عدم البدء باستخدام الأسلحة النووية، فإن
موقفها أقرب للموقف الصيني، فقد ذكرت إدارة بايدن في تنوير عام 2022، أنها لن
تستخدم الأسلحة النووية إلا في حالات حماية المصالح الأمريكية الحيوية أو حلفائها
وشركائها. ولكن من الصعب تحديد ما هي تلك المصالح الحيوية التي تستدعي من واشنطن
حمايتها.
ويجب على
الولايات المتحدة أن تُقنع حلفاءها بأنها ملتزمة بوعودها باستخدام الردع لحمايتهم،
ولكن يجب أن نعرف مَن الذي يمكن أن يبادر بشن هجوم نووي على حليف للولايات المتحدة،
مع الأخذ في الحسبان العواقب الرهيبة التي يمكن أن تترتب على ذلك.
في جانب آخر تقوم
المملكة المتحدة بتشغيل أسلحتها النووية بطريقة مستقلة، ولكن سياستها تقوم على
الاستخدام في الظروف الخطِرة وللدفاع عن النفس، بما في ذلك حماية الحلفاء في
الناتو، وتتبع فرنسا سياسة الاكتفاء الذاتي من هذه الأسلحة.
إقناع روسيا
ويكمن التحدي
الرئيسي في إقناع روسيا باتباع سياسة عدم البدء باستخدام الأسلحة النووية، وكانت موسكو
في عام 1982، قد اتبعت هذه السياسة، ولكن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي توقف الاتحاد
الروسي في عام 1993 عن هذه السياسة؛ لإحداث توازن ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي،
وقد فسر بعض المراقبين الموقف من قضية الأسلحة النووية من حديث أدلى به الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين عام 2020 بأنه كان يشير إلى السيناريوات التي لا يمكن لروسيا أن
تستخدم فيها الأسلحة النووية.
ومنذ بداية
الحرب الأوكرانية عام 2020، كانت هناك مخاوف من أن تستخدم روسيا أسلحة نووية
تكتيكية كإنذار لحلف الناتو وأوكرانيا. ورغم أن بوتين لم يصرح علناً بذلك، فإنه في
عيد النصر في 9 مايو 2024 أعلن أن الأسلحة الإستراتيجية دائماً في حالة تأهب، وقد
نقلت روسيا بعض الأسلحة التكتيكية قرب الحدود ألأوكرانية.
يبدو أن هذه
السياسة قصد منها الردع أكثر من الاستخدام الفعلي، وقد نجحت في أوكرانيا، حيث منعت
التدخل المباشر لحلف النانو كما أجبرت الولايات المتحدة على تحديد طريقة استخدام
الأسلحة التي تزود بها أوكرانيا.
إذن لماذا
يجب على روسيا أن تتبع سياسة عدم استخدام الأسلحة النووية؟
تعتمد سياسة
التصعيد وعدمه التي تتبعها روسيا على التخويف والمراوغة، وإذا ما استخدمت قوة
نووية السلاح النووي، فهي لا تستطيع أن تقدر إلى أي درجة يمكن أن يكون الانتقام،
والضربات المتبادلة يمكن أن تصل إلى حرب شاملة لا يريدها أحد. وقد نجحت روسيا في
سياسة عدم استخدام السلاح النووي في أوكرانيا لأنها تخشى تدخل حلف الناتو، ولأن استخدام
السلاح التكتيكي قد يتسبب في تدخل الحلف، وهذا المسار الثنائي هو أفضل خيار لاتباع
سياسة عدم استخدام السلاح النووي.
حلف الناتو
في أوروبا
يستطيع حلف الناتو أن يتبنى سياسة عدم استخدام السلاح النووي تجاه روسيا بطريقة
انفرادية كبادرة حسن نية، وحتى إذا لم تتجاوب روسيا بسرعة فهي سوف تخفض التوتر. وهناك
خطوة أخرى مهمة وهي أن يعمل الحلف على الحد من التوسع في تحالفاته في مقابل أن
تتبنى موسكو سياسة عدم استخدام الأسلحة النووية، وهذا خيار صعب بالنسبة للحلف بعد
دخول كل من السويد وفنلندا، وهناك قائمة دول في الانتظار مثل جورجيا والبوسنة،
وهناك أوكرانيا التي لها مشكلة مع روسيا وهو أمر حساس بالنسبة للناتو.
الجانب الآسيوي
الأمر قد
يبدو أسهل في الجانب الآسيوي، فروسيا والصين اعتمدتا سياسة عدم أن تكونا البادئتين
باستخدام السلاح النووي، ويمكن للولايات المتحدة والصين أن تصلا إلى اتفاق، وهذا
ما يمكن أن يقلل التصعيد من قبل حلفاء الولايات المتحدة مثل الفلبين واليابان.
وقد يبدو هذا
أمراً مستبعداً في الوضع الجيوسياسي الحالي، لكن هناك سوابق، فعندما قامت كل من
الهند وباكستان بإجراء تجارب نووية في مايو 1998، صدرت إدانة ضدهما من مجلس الأمن،
وتمت دعوتهما للتوقيع على معاهدة منع التجارب النووية. وكنوع من التضامن قامت كل
من الولايات المتحدة والصين بإعلان مشترك في يونيو 1998، بعدم توجيه أحدهما أسلحته
النووية تجاه الآخر.
لقد كانت هذه
خطوة رمزية، تُظهر اهتمام الدول النووية بنزع الأسلحة النووية، وقد أدت إلى خطوة
جماعية عبر مجلس الأمن التزمت فيها الدول الخمس بأن أسلحتها ليست موجة إلى بعضهما.
خطوة كبيرة
إن فكرة عدم الاستهداف
باستخدام الأسلحة النووية هي خطوة كبيرة، ومع بذل مزيد من الجهد، يمكن توسيعها
لتشمل عدم البدء باستخدام هذه الأسلحة، وفي يناير عام 2022، اتفقت الدول النووية
الخمس قبل شهر من الحرب الروسية الأوكرانية ببيان مشترك جاء فيه أنه لا يمكن كسب أي
حرب نووية ويجب ألّا تحدث.
وإذا ما كان
من المستحيل كسب الحروب النووية، فما الذي يمنع هذه الدول من الاتفاق على عدم
البدء باستخدامها في الحروب؟ فالولايات المتحدة لم تستخدم الأسلحة النووية في
حروبها في فيتنام والعراق وأفغانستان، وكذلك الروس في أوكرانيا، لذلك يمكن لوجود
التزام بعدم البدء باستخدام الأسلحة النووية من قبل الدول النووية أن يمنح الناس
أملاً بأن عالماً خالياً من الأسلحة النووية مهما كان بعيداً يمكن تحقيقه يوماً.