
خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أدلى به في 21 سبتمبر حول التعبئة الجزئية في البلاد أثار القلق داخلياً وخارجياً من انتقال "العملية العسكرية الخاصة" إلى حرب شاملة.
هذا الإجراء يدفع بالمزيد من الشباب الروسي إلى القتال "غير المرحب به" بالنسبة للكثير منهم؛ وفي الغرب يفسر الأمر بأنه مقدمة نحو حرب عالمية ثالثة كما يُصوّر البعض، أو أقلّه إلى صراع مطوّل قد يحمل معه المزيد من المفاجآت "غير السارة" بما في ذلك إمكانات استخدام السلاح النووي.
وتهدف التعبئة الجزئية، التي قالت وزارة الدفاع الروسية إنها ستستدعي حوالي 300 ألف جندي احتياطي في الأسابيع المقبلة، إلى سد فجوة القوى العاملة التي خلفتها الخسائر التي تكبدها الروس حتى الآن. كما أنها مؤشر على أن روسيا تخطط لخوض معركة طويلة الأمد. ومن المرجح أن يستغرق الأمر أسابيع لإعادة تدريب جنود الاحتياط وتنظيمهم في وحدات للانتشار على جبهة بطول ألف كيلومتر في أوكرانيا. في هذه الأثناء، يبدو أن الجبهة الغربية الداعمة لكييف تقرأ التطورات وتحاول صياغة الردّ.
تساؤلات حول إعلان التعبئة الروسية
تم تصميم أمر فلاديمير بوتين بالتعبئة الجزئية لإعادة تشكيل طابع الصراع لصالح روسيا بعد أن عانت مؤخراً من انتكاسات كبيرة في منطقة خاركيف أوبلاست. وإلى جانب الإجراءات التي أعلنها بوتين في خطابه، ستؤدي الاستفتاءات التي ينتظر تنظيمها بين 23 و27 سبتمبر الجاري في منطقتي لوهانسك ودونيتسك في منطقة دونباس والأراضي الواقعة تحت سيطرة روسيا في إقليم خيرسون وزابوروجيا إلى ضمها إلى روسيا، ربما في وقت مبكر من الأسبوع المقبل. ولقراءة دوافع الكرملين في تصعيد حدّة الخطاب بشكل مفاجئ بما في ذلك إعلان التعبئة الجزئية في البلاد، نستشرف ما يلي:
أولاً: الاستجابة للضغوط المتزايدة من المتشددين والمدونين العسكريين الذين كانوا يحثون بشكل محموم على اتباع نهج أكثر جدية. وفي الواقع، فإن خطاب بوتين يؤكد أن الرئيس الروسي لا يزال يقاوم الشروع في تعبئة كاملة، لأنه يخشى أن يؤدي ذلك إلى معارضة مناهضة للحرب إذا واجه شباب المدن التجنيد الإجباري. ويمثل قراره بالتعبئة الجزئية انحناءة لنقاده الداخليين من اليمين الذين حثوه على أن يكون أكثر عدوانية في أوكرانيا. (المجلس الأطلسي، 21 سبتمبر 2022).
ومنذ بداية الحرب، كان هناك انقسام داخل النظام الروسي بين "حزب الحرب" و"حزب العملية الخاصة". ويعتقد الطرف الأخير أن الجنود المحترفين فقط هم من يجب أن يشاركوا في النزاع، وأن النزاع يجب أن يظل على هامش الحياة اليومية؛ في المقابل، يعتقد "حزب الحرب" أن القتال في أوكرانيا يجب أن يغير كل شيء بشكل جذري في روسيا، من الاقتصاد إلى الحياة الثقافية واليومية. ويدعم هذا الحزب التعبئة الكاملة ويرغب في رؤية مصادرة الأصول من مجتمع الأعمال ووضع حد لثقافة المستهلك في روسيا.
لفترة طويلة، بدا للقيادة الروسية أن أفضل مسار للعمل هو الاحتفاظ بمظاهر الحياة العادية، وأن اقتصاد السوق أفضل ضمان للتغلب على العقوبات. الآن كل هذا يمكن أن يتغير. وحتى وقت قريب، كان بوتين ثابتاً في معسكر "العملية العسكرية الخاصة"؛ لكن الحرب مستعرة منذ سبعة أشهر، والآن تقاتل أوكرانيا وتستعيد بعض أراضيها. وكان الانسحاب الفوضوي للجيش الروسي من خاركيف نقطة انطلاق لتصاعد نفوذ "معسكر الحرب" اليميني والتوجه نحو التعبئة. (معهد كارنيجي، 21 سبتمبر 2022).
ثانياً: الاستعداد لوجستياً لمرحلة ما بعد توسّع الأراضي الروسية بضم أربعة أقاليم أوكرانية. وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل أن تعترف أي دولة كبيرة بعمليات ضم الأقاليم الأوكرانية الأربعة الواقعة تحت سيطرة موسكو، إلا أن المناطق ستصبح مع ذلك أراض روسية بمنظور الكرملين. وهذا يتطلّب - كما يوفر الأساس القانوني - لجهود أكبر للدفاع عنها، مثل هذه التعبئة الجزئية وربما تعبئة أكثر عمومية في المستقبل. (مجلس العلاقات الخارجية، أمريكي، 21 سبتمبر 2022)
ثالثاً: مخاطبة "الحلفاء" من موقع قوة مجدداً بعدما بدا أن موثوقية الكرملين باتت على المحك. حيث كانت انتقادات الصين والهند للحرب الروسية في أوكرانيا، بمثابة تعبير واضح عن عدم ارتياح آسيوي للحرب الجارية. ففيما قال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن "حقبة اليوم ليست حقبة حرب"، خلال لقاء جمعهما قبل أيام في سمرقند؛ فإن بوتين اعترف كذلك بـ"القلق" الذي أثاره الرئيس الصيني، شي جين بينغ الأسبوع الماضي. (فاينانشال تايمز، 18 سبتمبر 2022).
إن من شأن التعبئة الجزئية أن ترسل إشارات أكثر حزماً إلى الحلفاء باتجاه قدرة موسكو على حسم وإقفال ملف الحرب في "أسرع وقت ممكن" مثلما وعد بوتين؛ كما من شأنها أن تضع حداً للاستفزازات في الجوار القريب من قبيل التصعيد الأخير بين أذربيجان وأرمينيا كما في بؤر أخرى حيث يُفترض أن يكون للروس كلمة جوهرية في فصل النزاعات.
رابعاً: إن الوقت والموارد البشرية والمادية والدبلوماسية اللازمة لـ"العملية الخاصة" آخذة في النفاد. وهو ما يدفع بوتين إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لمحاولة إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، ووقف الخسائر والاحتفاظ بمكاسب الحرب. وإذا لم ينجح في إنهاء الحرب الآن، فيمكنه على الأقل إلقاء اللوم على الآخرين، وتحويل العملية الخاصة في دولة مجاورة إلى "حرب دفاعية"، على أمل أن يجعل هذا التمييز الصراع أكثر شرعية في أعين الروس العاديين. وفي الواقع، قد يكون بوتين يعمل على منح الغربيين دافعاً أكبر لتمهيد إنهاء الصراع ضمن الخارطة العسكرية الراهنة أو شيء قريب منها، من خلال التلويح بالمزيد من الحزم والإجراءات الصارمة؛ خصوصاً عند النظر إلى عملية تبادل الأسرى بين موسكو وكييف التي جرت بعد ساعات فقط من خطاب بوتين، برعاية سعودية، وشملت مواطنين بريطانيين وأمريكيين.
المخاوف الغربية
وفيما اشتمل خطاب بوتين على ما يمكن اعتباره "خارطة طريق" ولكنها غير مكتملة المعالم بعد بالنسبة إلى مسار العملية العسكرية في أوكرانيا، مع الاستناد بشكل كبير على عملية التعبئة الجزئية كنقطة انطلاق لتصحيح مسار الحرب لصالح موسكو؛ إلا أن الإعلام والمسؤولين الغربيين ركزوا بشكل كبير على فرضية التهديد النووي. واعتبروا بشكل جماعي أن خطاب بوتين "يُظهر أنه بدون خيارات وفي وضع يائس، لذا فهو يعتمد على الأدوات الوحيدة المتبقية لديه: تعبئة جنود الاحتياط ذوي النوعية الرديئة والتهديدات النووية".
ولفهم التوجه الغربي المركّز نحو الإشارة إلى التهديد النووي الروسي، يمكن الأخذ بالاعتبار جملة من الفرضيات:
أولاً: تجنيد الجبهة الغربية للمزيد من التصعيد. فبعد ساعات من الخطاب في موسكو، ندد الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ"التهديدات النووية العلنية" لبوتين ضد أوروبا، واصفاً إياها بـ"المتهورة". وفي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال إن الغرب سيكون "واضحاً وحازماً وثابتاً" في تصميمه وهو يواجه "وحشية بوتين غير المبررة" في أوكرانيا. (نيويورك تايمز، 21 سبتمبر 2022)؛ حيث تظهر دعوات غربية بضرورة عدم الانصياع إلى التهديد النووي، وربما القبول بحصوله ضد أوكرانيا بهدف فوز الجبهة الغربية في الحرب ضد موسكو نهاية الأمر. حيث يدعو خبراء واشنطن بتنفيذ ردها الرادع، بما في ذلك توجيه ضربة عسكرية تقليدية محدودة على القوات الروسية التي شنت الهجوم النووي. والأهم من ذلك، دفع كييف وحلفائها نحو الاستمرار في القتال بصرف النظر عن أي هجوم نووي روسي، بغرض الفوز بالحرب. (المجلس الأطلسي، 21 سبتمبر 2022).
ثانياً: تجنيد "حلفاء" بوتين والدول المحايدة ضده. وتبدو هذه الفرضية هي الأكثر واقعية في جهود الغرب نحو توجيه التركيز إلى التهديد النووي الروسي المفترض. حيث يجري الحديث عن أن التصعيد "المقلق" لبوتين يضع الآن الدول التي التزمت الصمت منذ بدء الحرب في أوكرانيا أمام خيار بسيط: "استنكار العدوان، أو الاعتراف بأن قانون الأقوى هو من الآن فصاعداً القانون الوحيد الصحيح". (لوموند، 22 سبتمبر 2022). حيث تعمل واشنطن على تحشيد المجتمع الدولي لممارسة ضغط كبير على بوتين للتراجع. وعلى وجه الخصوص، فإن "حلفاءه"، الصين والهند، ليس لديهم أي مصلحة في استخدام روسيا للأسلحة النووية التكتيكية. لذا، إذا بدأ بوتين في نقل ترسانته النووية، سيرى العالم أنه على وشك الشروع في مسار عمل كارثي تاريخياً. وسيكون الضغط هائلاً عليه حتى يتنحى. (المجلس الأطلسي، 21 سبتمبر 2022).
ثالثاً: تمهيد الطريق أمام الجمهور الغربي لـ"الاستسلام" لشروط بوتين. وقد تكون هذه الزاوية مرتبطة بالأوروبيين بشكل خاص. حيث يجد الغرب نفسه أمام معضلة كانت متأصلة في سياسته منذ بداية الحرب حول جدوى الدعم العسكري واللوجستي المكثف لأوكرانيا. ويوفر التلويح بالخيار النووي وسيلة لبوتين لإرهاب الغرب، وإثارة الانقسامات حول توفير الأسلحة لأن البعض قد يعتبر ذلك الآن خطيراً للغاية. وبعد ساعات من خطاب بوتين، قال أولاف شولتز، المستشار الألماني: "تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون استخدام "كل الوسائل الممكنة" لمساعدة أوكرانيا دون إحداث تصعيد لا يمكن السيطرة عليه". لكن خطر هذا التصعيد، وربما بداية الحرب العالمية الثالثة، نما للتو. وجاء حديث شولتز عشية شتاء سيكون قاسياً في أوروبا، مع ارتفاع التضخم وتكاليف الطاقة، وقبل أيام من الانتخابات الإيطالية يوم 25 سبتمبر التي كانت فيها مرشحة اليمين المتطرف، جيورجيا ميلوني، هي المرشحة المفضلة. وكان اليمين الأوروبي المتطرف متعاطفاً بشكل عام مع موسكو. وفيما بدا الرئيس بايدن فعالاً للغاية في ترسيخ الوحدة الغربية. إلا أن إدارة بايدن لديها القليل من الثقة الواضحة في الدبلوماسية مع موسكو في هذه المرحلة، في حين أن فرنسا وألمانيا ما زالتا تسعيان إلى الحوار مع روسيا. (نيويورك تايمز، 21 سبتمبر 2022).
توقعات
إجمالاً، كان دعم الروس للحرب حتى الآن سلبياً. وقلة هم الذين تمت دعوتهم لتقديم تضحيات حقيقية على الخطوط الأمامية. الرأي السائد في موسكو هو أن الكرملين تجنب الدعوة إلى تعبئة عامة بسبب الشكوك في أن الشباب الروس كانوا على استعداد للقتال والموت من أجل أهداف بوتين في أوكرانيا؛ ومع ذلك، لجأ الكرملين إلى التعبئة الجزئية للتخفيف من رد الفعل المتشدد الذي واجهه بالفعل بسبب التراجع الكبير للجيش في الأسابيع الأخيرة والنقص العام في التقدم على الأرض في أوكرانيا. ومع استمرار الصراع، سيتعين على الكرملين أن يوازن باستمرار بين هذين التحديين. (مجلس العلاقات الخارجية، أمريكي، 21 سبتمبر 2022).
في هذه الأثناء، يتحول الصراع إلى حرب استنزاف. وعلى الرغم من تعرض كلا الجانبين لخسائر كبيرة، حيث يواجه الاقتصاد الأوكراني حالة انهيار، كما أن روسيا تتعرض لضغوط متزايدة؛ إلا أنهما لا يزالان يمتلكان احتياطيات كبيرة للاستفادة منها. وفيما يبدو النضال وجودياً ومستمراً بالنسبة لأوكرانيا، خاصة طالما أن كييف تتلقى دعماً عسكرياً واقتصادياً واسع النطاق من الغرب؛ فإن الصراع قد لا يكون وجودياً بالنسبة لروسيا، لكنه كذلك بالتأكيد لبوتين وحاشيته.