برزت قوات "فاغنر" الروسية إلى الواجهة من جديد بعد إعلان سيطرتها على مدينة "سوليدار" الأوكرانية والذي تزامن مع نفي من قبل الجيش الروسي ودعوته للانتظار ما دفع البعض للحديث عن خلاف أو تناقض بين الطرفين.
وأعلن رئيس شركة الأمن الروسية "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، الأربعاء، 11 يناير 2023، أن المجموعة الروسية سيطرت على مدينة سوليدار الأوكرانية. وقال بريغوجين، في برقية صحفية، إن "قوات مجموعة فاغنر سيطرت على كامل أراضي سوليدار، حيث تدور عدة معارك".
اللافت للانتباه هو أن مجموعة "فاغنر" أعلنت أنّ "تحرير مدينة سوليدار لم تشارك فيه أيّ وحدات غير مقاتليها" وذلك في إشارة إلى أن الجيش الروسي لم يشارك في هذه المعارك، وبعد إعلان فاغنر السيطرة على سوليدار، دعا الكرملين وقتها إلى عدم "التسرع" في إعلان الانتصار، كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية ذلك.
قوات "فاغنر" كمتغير جديد في الحرب الروسية – الأوكرانية
تعود أهمية سيطرة "فاغنر" على سوليدار إلى أنها جاءت بعد تحول القوات الروسية منذ أشهر من حالة الهجوم إلى حالة الدفاع ومحاولة الحفاظ على المواقع التي تحت سيطرتها ولم تتمكن روسيا من السيطرة على أي مدينة كبرى في أوكرانيا منذ أشهر، بل على العكس من ذلك أجبرت القوات الأوكرانية روسيا على انسحابات مهينة في النصف الثاني من 2022، كما أن المعارك هناك تحولت إلى معارك استنزاف للقوات الروسية بشرياً وعسكرياً.
من المؤكد أن اعتماد الجيش على القوات الخاصة والمتطوعين الشيشانيين، وكذلك قوات "فاغنر"، كان اضطرارياً، نظراً لنقص العدد في القوات المحاربة في أوكرانيا، فبحسب التقديرات، دفعت روسيا بنحو 170 ألفاً إلى 200 ألف جندي في 24 فبراير الماضي، وبعد النكسات المتتالية، بدا أن حاكم الشيشان رمضان قديروف ومؤسس "فاغنر" بريغوجين شكّلا تحالفاً قوياً، وبدآ بتوجيه انتقادات لاذعة للجنرالات، وضمنهم رئيس الأركان، القائد الحالي للعملية العسكرية غيراسيموف. واستطاعا تقوية مواقعهما في هيكل الحكم في روسيا (العربي الجديد 15 يناير).
وسعت روسيا عبر قوات فاغنر التي لديها خبرة عالية بحرب العصابات والمواجهات المباشرة لحسم المعركة في سوليدار والتوجه إلى مدن أخرى قبل وصول الدعم الغربي العسكري الجديد لأوكرانيا حيث شهد العام الجديد وعوداً مهمة بتقديم الغرب المزيد من الأسلحة لأوكرانيا، التي تسعى للحصول على ما يمكنها من خوض معارك في مواجهة الدبابات الروسية، وتعهدت فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأسبوع الماضي بإرسال مركبات قتالية مدرعة. وكان تركيز المناقشات على دبابات القتال الرئيسية، وهو تحديث كبير محتمل لكييف، كما انضمت فنلندا، إلى بولندا في تعهدها بإرسال دبابات ليوبارد ألمانية الصنع إلى أوكرانيا في إطار تحالف غربي يتم تكوينه على ما يبدو لتوصيل هذه الدبابات لكييف.
وقال مسؤولون بريطانيون إن مقاتلي فاغنر ارتفع عددهم من 1000 إلى ما يقرب من 20 ألف مقاتل في أوكرانيا، في علامة على اعتماد روسيا المتزايد على الشركة العسكرية الخاصة لدعم غزوها، ويُعتقد على نطاق واسع أن روسيا تعاني من تجنيد مقاتلين والحفاظ على الروح المعنوية لقواتها المسلحة. ويقدر الغرب أن روسيا فقدت عشرات الآلاف من الجنود وأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أطلق حملة تجنيد في سبتمبر لزيادة عدد المقاتلين، في غضون ذلك، تعاني روسيا من سلسلة من الانتكاسات في ساحة المعركة، ويعتقد المسؤولون البريطانيون أن روسيا تتجه إلى مجموعة فاغنر نتيجة لذلك (بي بي سي ديسمبر 2022).
ترتيبات وخطط روسية جديدة
بالتزامن مع الخلاف الواضح بين قادة وزارة الدفاع الروسية وقائد "فاغنر" حول سير المعارك في سوليدار وغيرها، أجرت روسيا تغييرات عسكرية تمثلت بتعيين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو رئيساً للأركان العامة للجيش، فاليري غيراسيموف قائداً لمجموعة القوات المشتركة في أوكرانيا، بدلاً من القائد السابق للعمليات، قائد القوات الجوية الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي أصبح أحد نواب غيراسيموف، مع القائد العام للقوات البرية الجنرال أوليغ ساليكوف ونائب رئيس الأركان العامة الجنرال أليكسي كيم.
جاء التغيير الحالي في قيادة الحرب ضد أوكرانيا بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من تعيين سوروفيكين قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا بديلاً لسلفه الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويرى الخبير المختص في الشأن الروسي، نبيل رشوان، أن عملية "الاستبدال ليست اعتيادية" وجاءت وسط اتهامات للقائد السابق بتسليم خيرسون لأوكرانيا، وعدم تحقيقه أي نجاحات عسكرية تذكر على الأرض منذ توليه منصبه، من جانبه، يؤكد الخبير العسكري والاستراتيجي، ناجي ملاعب، أن عملية "الاستبدال جاءت لتغيير الاستراتيجية العسكرية الروسية وطريقة القتال في أوكرانيا" (الحرة 13 يناير)
يأتي التعديل وسط "صراع علني" متزايد بين مؤسس مجموعة "فاغنر"، والمؤسسة العسكرية الروسية، وفقاً لتقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال". ووصف مسؤول أوكراني كبير الاقتتال الداخلي بين الفصائل المختلفة لمؤسسة القوة الروسية بأنه "علامة جيدة على بداية النهاية المذهلة" (سي ان ان، 13 يناير).
وبسبب حاجة الكرملين لنصر عسكري في أوكرانيا لتعويض الانكسار الذي تلقاه، غيرت روسيا من خططها وبدأت بشن ضربات على البنى التحتية في أوكرانيا وتكررت الضربات بشكل دوري منذ ذلك الحين، وتسببت في تدمير أكثر من نصف محطات الطاقة في أوكرانيا.
ماذا يعني إعلان فاغنر السيطرة على مدينة "سوليدار"؟
من الناحية السياسية، إن إعلان قوات فاغنر غير الرسمية السيطرة على سوليدار يشير إلى أن هناك ما هو خفي يجري داخل كواليس الكرملين الروسي فتسليم مهمة الحرب الأوكرانية لرابع قائد عسكري على التوالي ينم عن أن هناك مشكلة كبيرة في عجز الجيش الروسيّ عن حسم الحرب بالإضافة إلى الحديث عن تفاقم الخلاف بين أجنحة السلطة العسكرية الروسية، فيضمّ الجناح الأوّل وزير الدفاع سيرغي شويغو والجنرال غيراسيموف، والثاني يمثّله يفغيني بريغوجين مؤسّس مجموعة "فاغنر"، ويدعمه الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف.
أما من الناحية العسكرية، فإن فرض السيطرة على سوليدار سيفتح المجال للسيطرة على باخموت، وكذلك لشن هجوم جديد على بلدة سيفرسك شمالاً، وقالت الاستخبارات العسكرية البريطانية إن "التقدم الروسي نحو سوليدار يهدف، على الأرجح، إلى تطويق باخموت من الشمال، وإرباك خطوط الاتصال الأوكرانية".
أهمية سوليدار تكمن في احتوائها على منجم وشبكة تعدين للملح والجص تحت الأرض التي تمتد إلى أكثر من 160 كلم، الأنفاق تستطيع استيعاب مجموعة كبيرة من الناس على عمق يتراوح بين 80 و100 متر كما يمكن للدبابات وعربات المشاة القتالية التحرك فيها، ووصف صاحب شركة فاغنر الأنفاق بشبكة من المدن السرية.
وتسعى قوات فاغنر للسيطرة على نظام الأنفاق العملاق لأنه يمكن من خلاله نسف المدن الأوكرانية من الأسفل والتقدم نحو باخموت، كما تتميز المدينة أيضاً بتلالها المرتفعة ما يسمح بالإشراف على خطوط الإمداد الاستراتيجية بين منطقتي لوغانتسك ودونيتسك والاستيلاء عليها.
وبعد سلسلة من الانتكاسات لروسيا، يمثل الاستيلاء على سوليدار أكبر نجاح لقوات موسكو منذ شهور، رغم أن محللين عسكريين أشاروا إلى أن المدينة الصغيرة ذات قيمة استراتيجية محدودة، أهميتها تكمن في أنها مدخل لتحقيق الهدف الأهم لموسكو وهو السيطرة على مدينة باخموت القريبة، «كجزء من هدفها المتمثل في السيطرة على منطقة دونباس بأكملها». رغم أنه من غير المتوقع أن يؤدي الاستيلاء على سوليدار إلى تغيير سريع للمعركة في الشرق، إلا أنه سيمنح قوات موسكو مواقع جديدة لنشر المدفعية، مع احتمال تطويق باخموت جزئياً من الشمال، ويمكن أن يضغط على خطوط الإمداد الأوكرانية التي تسير باتجاه الشرق (نيويورك تايمز 14 يناير).
ويمكن أن يقوم رئيس فاغنر باستخراج الملح والجبص وتصنيع الفحم باستخدام الملح من المناجم وكسب المال وبالتالي تعويض جزء من الخسائر الاقتصادية التي تعرضت لها روسيا وتوجد في مدينة سوليدار مناجم ملح ضخمة، يمكن استخدامها لتمركز القوات وتخزين المعدات، بحيث تكون في مأمن من الغارات الجوية الأوكرانية إذ توجد شبكة من الأنفاق تتصل بالمناجم، وقد يكون لها أهمية استراتيجية، في الوقت الذي تسعى فيه روسيا لتحقيق تقدم في الأراضي الأوكرانية.
ووفق "معهد دراسة الحرب" فإنه يمكن أيضاً "تفسير التصميم الطويل والمكلف ليفغيني بريغوجين لفرض سيطرته على المنطقة" بقيمة الثروات الطبيعية التي تزخر بها سوليدار، من ذلك رواسب الجبس والطين والطباشير، وخصوصاً الملح، حيث تقدر احتياطياتها بنحو 2000 سنة.
خلاصة تحليلية:
اتجهت موسكو للاعتماد على قوات فاغنر التي تمتلك خبرة في المواجهات المباشرة وحرب العصابات بالإضافة إلى أنها تلتزم بقرارات قيادتها أكثر من جنود الجيش الروسي. والتغييرات التي أجرتها روسيا في قياداتها جاءت للترويج بأن الإخفاق العسكري هو نتيجة فشل شخصي للقيادات العسكرية السابقة وليس نتيجة ضعف في إمكانيات قوات الجيش الروسي لذلك من المرجح أن تشن روسيا عمليات عسكرية جديدة وتصعد من هجماتها.
ستعتمد روسيا على قوات فاغنر بتنفيذ مهمات خاصة تهدف من خلالها لتوجيه ضربات قاسية ضد القوات الأوكرانية ولا يستبعد أن يصل التصعيد الروسي عبر إعطاء تعليمات لفاغنر لتنفيذ عمليات اغتيال تستهدف مسؤولين في حكومة كييف والقول فيما بعد أن فاغنر ليست قوات نظامية.