أعلن مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تشكيل حكومة جديدة، بعد انهيار الحكومة السابقة في تصويت تاريخي بسبب الخلاف الكبير حول ميزانية البلاد. وكشف مكتب الرئيس عن قائمة الوزراء الذين سيشكلون حكومة فرانسوا بايرو، والذين يتجاوز عددهم 30 وزيراً رغم أن بايرو كان قد وعد بتقليص عدد الحقائب قدر الإمكان (مونت كارلو الدولية – 24 ديسمبر).
بايرو.. سيرة حكومية
يرأس بايرو البالغ 73 عاماً حزب
الاتحاد من أجل الديمقراطية "موديم" الوسطي الذي أسسه، وهو من المقربين
من ماكرون وداعم كبير له منذ توليه الرئاسة في فرنسا. وأصبح بايرو بذلك رئيس
الوزراء السادس في عهد ماكرون منذ عام 2017، والثامن والعشرين في ظل الجمهورية
الخامسة.
قرر بايرو، عمدة مدينة باو الجنوبية
الغربية منذ فترة طويلة والذي جعل جذوره الريفية محوراً لهويته السياسية، عدم
الترشح في سباق رئاسي رابع في عام 2017، وبدلاً من ذلك حشد الدعم لماكرون.
عين ماكرون بايرو وزيراً للعدل في
مايو 2017، لكنه استقال بعد أسابيع فقط وسط تحقيق في مزاعم بتوظيف حزبه مساعدين
برلمانيين بشكل احتيالي، ثم تمت تبرئته من تُهم الاحتيال هذا العام.
فهم التغيرات الجارية
شهدت هذه الحكومة عودة شخصيات بارزة
إلى الساحة السياسية، من بينهم رئيسا وزراء سابقان، مانويل فالس وإليزابيت بورن،
بالإضافة إلى أسماء "مثيرة للجدل"، حسب تعبير المعارضة التي لم تتوانَ
عن التعبير عن استيائها وتحفظها إزاء التعيينات الجديدة. ويأمل ماكرون أن يتمكن
بايرو من تجنب التصويت بسحب الثقة حتى يوليو على الأقل، عندما تُجري فرنسا
انتخابات برلمانية جديدة.
الوزراء في الحكومة الفرنسية الجديدة
باشروا أعمالهم، لكن الحزب الاشتراكي لم يستبعد حجب الثقة سريعاً عنها لكونها تصب
في مصلحة اليمين المتطرف، وفقاً لـ"وكالة الصحافة الفرنسية". ويتولى
رئيس الوزراء الجديد، زعيم حزب "موديم" الوسطي المتحالف مع حزب الرئيس
ماكرون، مهمته في ظلّ تدنّي شعبيته إلى مستويات قياسية، بعدما أعرب 66% من أشخاص
استَطلعت آراءَهم "إيفوب-لو جورنال دو ديمانش" عن استيائهم.
لقد استقال رئيس الوزراء السابق ميشيل
بارنييه في أعقاب تصويت بحجب الثقة بسبب نزاعات الميزانية في الجمعية الوطنية، مما
ترك فرنسا دون حكومة فعّالة. وقد أدت مارين لوبان التي تقود اليمين المتطرف دوراً
رئيسياً في سقوط بارنييه من خلال الانضمام إلى قوى حزب التجمع الوطني مع اليسار
لتمرير اقتراح حجب الثقة.
وتضم الحكومة التي شكلها رئيس الوزراء
الجديد فرانسوا بايرو، أعضاء من الفريق المنتهية ولايته الذي يهيمن عليه المحافظون
وشخصيات جديدة من خلفيات وسطية أو يسارية.
وفق دويتشه فيلا، كانت الحكومة
الفرنسية تأمل في الواقع توجيه اقتصاد البلاد إلى مياه أكثر هدوءاً. فبعد أن
ارتفعت توقعات عجز الميزانية لهذا العام بشكل مفاجئ من حوالي 5% إلى أكثر من 6% من
الناتج الاقتصادي السنوي، قدم رئيس الوزراء المعين حديثاً بارنييه خطة في أكتوبر
لخفض عجز الميزانية إلى 3% المنصوص عليها في ميثاق الاستقرار الأوروبي بحلول عام
2029.
بدأ الاتحاد الأوروبي إجراءات
استثنائية في يونيو الماضي ضد عجز الميزانية في البلاد. ولجأ بارنييه إلى محاولة
تمرير الجزء الأول من خطته من خلال البرلمان في ميزانية عام 2025 وربط القانون
بالتصويت على الثقة؛ فهذا الأمر كان ضرورياً لأن الحكومة لا تتمتع بالأغلبية
البرلمانية منذ الانتخابات المبكرة في يوليو الماضي. لكن النواب في الجمعية
الوطنية (البرلمان) اختاروا حجب الثقة عن حكومة بارنييه، فقط بعد ثلاثة أشهر على
توليه مهماته، في خطوة تعمق الأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد. وعاقب اليسار
واليمين المتطرف بارنييه على لجوئه إلى استخدام صلاحيات دستورية خاصة لتمرير جزء
من موازنة لم تحظ بالتأييد وسعت لتوفير 60 مليار يورو لتقليص العجز.
ملفات مهمة بانتظار رئيس الحكومة
سيكون إعداد ميزانية عام 2025 من أكثر الأمور إلحاحاً، فقد تولت الحكومة الجديدة مهماتها بعد أشهر من الجمود السياسي والأزمة والضغوط من الأسواق المالية لتقليص الديون الهائلة التي تتحملها فرنسا. وفي بداية شهر ديسمبر، نجح بارنييه في تمرير مشروع قانون الميزانية باستخدام البند الدستوري المثير للجدل المسمى 49.3، لكن التشريع تم إسقاطه بعد أن خسرت حكومته تصويت حجب الثقة.
قال بايرو في مقابلة تلفزيونية، إنه
يأمل تقديم ميزانية حكومته الجديدة بحلول منتصف فبراير، مضيفاً أنه سيجري
"أوسع حوار ممكن"، ووعد بعدم استخدام المادة الدستورية المثيرة للجدل
49.3 لدفع التشريعات دون مناقشة ما لم يتم "منعه تماماً". وقال إنه لا
يؤيد فرض ضرائب جديدة على الشركات، لكنه يفهم أن العجز العام المتضخم في البلاد تجب
معالجته بخفض الإنفاق، ورغم ذلك ليس من الواضح حتى الآن كيف ستتمكن الحكومة
الجديدة من صياغة الحساب الصحيح والمناسب للميزانية التي ترضي أغلبية المشرعين
الغاضبين بسبب تخفيضات الإنفاق.
اليمين المتطرف داعم، ولكن..
أشار حزب التجمع الوطني (اليمين
التطرف)، وهو أكبر كتلة في الجمعية الوطنية، إلى أنه لن يوافق مبدئياً على حجب
الثقة عن الحكومة الجديدة، وتوالت الاتهامات من قبل القوى السياسية الأخرى لرئيس
الحكومة الجديد بأنه استسلم لشروط اليمين المتطرف وفي مقدمتها استبعاد القيادي
اليميني، كزافييه برتران، عن وزارة العدل، ومنذ أن تم طرح ترشيح كزافييه بيرتراند
لوزارة العدل للمرة الأولى، وجه التجمع الوطني انتقادات له واعتبره أحد أسوأ
أعدائه السياسيين.
لكن رغم ذلك فإن حكومة بايرو التي تضم
وزراء سابقين من اليمين واليسار ومعسكر ماكرون، تبدو أشبه بما يندد به التجمع
الوطني منذ خمسين عاماً، وهذا ما سهّل على أنصار لوبان وصف الحكومة الجديدة بشكل
ساخر بـ"ائتلاف الفشل" و"عودة المومياوات".
قدرة الحكومة الجديدة على الصمود
سوف يحتاج بايرو إلى دعم المشرعين
المعتدلين من اليمين واليسار لإبقاء حكومته على قيد الحياة، وأبدى بعض المنتقدين غضبهم
من بايرو بسبب مشاوراته مع حزب لوبان اليميني المتطرف، ويرى آخرون أن الحكومة تبدو
مشابهة للحكومة القديمة إلى حد كبير، وهذا ما يهدد إمكانية اكتسابها ثقة المشرعين.
الواقع أن الوسطيين والمحافظين الذين
يؤيدون بايرو لا يشغلون أغلبية المقاعد في البرلمان الفرنسي، وهذا يعني أن رئيس
الوزراء سوف يحتاج على الأقل إلى دعم ضمني من التجمع الوطني أو من الاشتراكيين للبقاء
في منصبه. ومثله كمثل سلفه، سوف يسقط بايرو إذا تضافرت كل قوى المعارضة وأقرت
اقتراحاً بسحب الثقة (صحيفة بولتيكو – 23 ديسمبر).
الحزب الاشتراكي وصف الحكومة الجديدة
بأنها "مدعومة من اليمين المتطرف". وقال أوليفييه فوري، الأمين العام
للحزب، إنه "لا يستطيع أن يجد سبباً لعدم انتقاد الحكومة من خلال التصويت
بحجب الثقة، ويتعين على رئيس الوزراء أن يستيقظ ويفهم ما يجري". كما أعلن حزب
العمال الفرنسي أنه سيتقدم بطلب سحب الثقة من الحكومة، وإذا نجح في ذلك فإنها سوف
تسقط كسابقتها.
وقال كزافييه بيرتراند، وهو من
المحافظين ذوي الوزن الثقيل ومنافس قديم لمارين لوبان من أقصى اليمين، إن العرض
الذي قُدم له لتولي منصب وزير العدل تم إلغاؤه "بسبب معارضته للتجمع الوطني".
وسخرت رئيسة كتلة "فرنسا الأبية"
(اليسار الراديكالي) في البرلمان ماتيلد بانو على منصة إكس من "حكومة مليئة
بأشخاص تم رفضهم في صناديق الاقتراع وأسهموا في انحدار بلدنا"، داعية من جديد
إلى حجب الثقة عن الحكومة واستقالة ماكرون.
مسار صعب وعوائق
يأمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
ورئيس الوزراء الحالي أن تمر هذه الحكومة وتجد الثقة المطلوبة، وبالتالي القدرة
على تمرير المشروعات والقوانين التي تنتظرها البلاد. فمن الأمور التي تم الاعتماد
عليها، أن تشكيلة الحكومة تضم أسماء قوية وليست جديدة، بالتالي سيكون من السهل
تمريرها.
ورغم أن رئيس الوزراء يعتمد على معسكر
يمين الوسط، وعلى تحالفات قديمة وشخصيات بارزة دون الحصول على الأغلبية، يبقى خطر
تكرار سيناريو إسقاط رئيس الحكومة عبر التصويت على حجب الثقة قائماً.
عليه، من الممكن أن تستمر الأزمة
السياسية في ظل بقاء فرنسا منقسمة بشدة، كما أن المواجهة بين المعسكرات اليسارية
واليمينية القومية والوسطية يمكن أن تؤدي إلى شل عمل البرلمان، وبالتالي فالأمر
الملح بشكل خاص هو أن البلاد بلا ميزانية معتمدة للعام المقبل، في حين أن مفوضية
الاتحاد الأوروبي تضغط عليها بسبب ارتفاع مستوى الديون الجديدة، (قناة "إن تي
في" الألمانية – 23 ديسمبر).
في نهاية المطاف، نجح بايرو في تشكيل
حكومته قبل عيد الميلاد كما وعد، لكن العملية كانت مؤلمة، والنتيجة كانت أقل بكثير
من طموحاته في توسيع القاعدة التي سيحاول من خلالها تأمين الأغلبية في البرلمان. وبما
أن الأسباب نفسَها يمكن أن تُنتج التأثيراتِ نفسَها، فإن رئيس الوزراء الجديد ليس
محصناً ضد تصويت حجب الثقة (صحيفة لوموند – 24 ديسمبر).
كل هذا بانتظار عودة جلسات البرلمان
الفرنسي الذي تستمر عطلته حتى 13 يناير، ولكن بمجرد عودته، من المرجح أن يواجه
بايرو وفريقه تهديداً مستمراً بسحب الثقة.