مقالات تحليلية

خلفيات أزمة الضربات العسكرية المتبادلة بين إيران وباكستان

24-Jan-2024

في الثاني والعشرين من يناير الجاري أعلنت إيران وباكستان استئناف علاقاتهما الدبلوماسية، بعد أزمة الضربات الحدودية المتبادلة بين البلدين التي  أثارت  قلق المجتمع الدولي،  بينما تشهد منطقة الشرق الأوسط زيادة في التوترات بسبب الحرب بين اسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة.

كانت طهران استهدفت في 16 يناير مَعقلين لجماعة جيش العدل المسلحة في منطقة بلوشستان الباكستانية، وهو ما أدى إلى إعلان باكستان استدعاء سفيرها من طهران وتعليق جميع الزيارات الثنائية رفيعة المستوى بعد "انتهاك غير مبرر" لمجالها الجوي أدى إلى مقتل طفلين. وفي 18 يناير نفذ الجيش الباكستاني ضربات على ما وصفها بمخابئ للإرهابيين في جنوب شرق إيران ردّاً على الغارة الإيرانية. 

بعدها صدر بيان للجيش الباكستاني وصف إيران بأنها "دولة شقيقة"، قال محللون لشبكة "سي إن بي سي" إنه ترك فرصة لاحتواء الأزمة وتجنب المزيد من التصعيد، إلا أن الأحداث سلطت الضوء على التقلبات الحالية في الشرق الأوسط، وسط صراع امتد إلى ما هو أبعد من قطاع غزة. وقد أثار التوتر المفاجئ بين الدولتين دعوات لضبط النفس من دول مثل الصين وتركيا وروسيا، وكانت الضربات الإيرانية في باكستان جزءاً من سلسلة من الهجمات المباشرة التي شنتها طهران في دول مجاورة، شملت أيضاً العراق وسوريا. 

خلفيات الأزمة

من الناحية الجغرافية، يعد إقليم بلوشستان الذي يقع في جنوب غرب باكستان أكبر مناطق الدولة، حيث يمثل 44% من المساحة الكلية للبلاد، لكن عدد قاطنيه قليل، حيث يشكلون 5% فقط من مجموع السكان، وهو أقل إقليم نمواً، ويدين كله بالإسلام على المذهب السني. وكان لوجود عدد كبير من اللاجئين الأفغان تأثير كبير في التركيبة السكانية للإقليم. ووفقاً للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، جاء اللاجئون الأفغان إلى الإقليم بالملايين في أعقاب الغزو السوفيتي عام 1979، وأدى ذلك إلى خلق خلل ديموغرافي بين الأغلبية البلوشية والبشتون.

لقد وصف ستيوارت نوثلوت في مؤلفه "أطلس الصراعات العرقية" (2008)، الاضطرابات في بلوشستان بأنها "صراع قومي في المقام الأول"، فبجانب الصراع الممتد منذ عام 1948 ، تسبب الخلل في ديموغرافية المكان خلال العقود الأخيرة في ظهور نعرة قومية عنيفة أدت إلى حرب عصابات شنها القوميون البلوش ضد حكومات باكستان وإيران. ويضيف محلل شؤون آسيا في وول ستريت جورنال قاسم نعمان، أن السبب الرئيسي في الصراع يعود إلى أن الإقليم هو الأقل نمواً في باكستان رغم كونه غنياً بالموارد الطبيعية، مما أدى إلى المطالبة بالحكم الذاتي، ونصيب من إيرادات الموارد الطبيعية المحلية، ودولة قومية مستقلة. ولكن في عام 2010، ارتفعت الهجمات ضد المجتمع الشيعي من مجموعات طائفية، لكنها لم تكن ذات صلة مباشرة بالصراع السياسي.

اكتسب هذا التمرد قوة جنباً إلى جنب مع تدهور القانون، والأوضاع في أفغانستان المجاورة، فهاجم المسلحون جميع المنشآت الرئيسية لحكومة وجيش باكستان في كويتا عاصمة بلوشستان، وتسببوا في قتل مسؤولين حكوميين. ولذلك قامت حكومة باكستان بالتنسيق الأمني مع طهران التي تشترك معها في جزء كبير من بلوشستان، لمواجهة الجماعات المتمردة.

من أبرز تلك الجماعات "جيش تحرير بلوشستان"، الذي يصنف منظمةً إرهابيةً من قبل باكستان وبريطانيا، وهو أكثر جيش انفصالي بلوشي، ومعروف بعملياته ذات الطبيعة المنظمة، حيث أجرى منذ عام 2000 العديد من الهجمات على القوات العسكرية الباكستانية والشرطة والمدنيين. 

هناك أيضاً "جماعة جيش العدل"، وهي حركة مناهضة للحكومة الإيرانية، تدافع عن حقوق السنة في المناطق الحدودية. تتهمها طهران بأنها تتلقى دعماً من إسرائيل والولايات المتحدة، بعد أن تورطت الجماعة في الهجوم على الرئيس الإيراني الأسبق "محمود أحمدي نجاد" عام 2005. ترى طهران أن الجماعة على صلة بتنظيم "داعش"، كما انتمى الكثير من أفرادها لجماعة متشددة أخرى تفككت لاحقاً عرفت باسم "جند الله" بعدما بايعت داعش. 

يرى جريجوري برو المحلل في "أوراسيا جروب لاستشارات الأخطار الدولية"، في تصريحه لشبكة "سويس إنفو" (20 يناير)، أن ضربات طهران ضد جيش العدل كانت مدفوعة بقلقها المتزايد من أخطار العنف المسلح في أعقاب هجوم 3 يناير الذي أعلن داعش مسؤوليته عنه، وأودى بحياة نحو 100 شخص في مراسم مدينة كرمان لإحياء ذكرى "قاسم سليماني" الذي قتل في هجوم بطائرة أمريكية مسيرة عام 2020.

رد فعل باكستاني سريع

رغم إصرارها على التأكيد دائماً بأنها ملتزمة بسياسة حسن الجوار، وأنها تتعاون منذ سنوات مع طهران لمواجهة حركات التمرد في بلوشستان، فإن الرد العسكري الباكستاني كان سريعاً، حيث أثار الهجوم الإيراني غضب إسلام آباد التي وصفته بأنه "انتهاك فاضح للقانون الدولي وروح العلاقات الثنائية بين البلدين".

ومن المعروف أن تلك البقعة من الشرق ذات طبيعة حرجة، حيث إن توازن القوى فيها يفرض على كل من باكستان وإيران حالة من ضبط النفس المستمرة وتجنب أي تصعيد عسكري بينهما، فباكستان مسلحة نووياً وذات أغلبية سنية، وإيران ذات أغلبية شيعية ولديها برنامج نووي يقلق العالم، فضلاً عن ازدياد نفوذها في محور المقاومة التابع لها في العراق وسوريا ولبنان. هذا الوضع يتطلب التعاون فيما بينهما وليس المنافسة والعداء، خاصة مع وجود حالة من الاستنفار الدائم بين الهند وباكستان، وعدم الحاجة لفتح جبهات عسكرية تشتت جهود الجيش الباكستاني.

قد يبدو أن رد الفعل السريع هو محاولة من الحكومة المؤقتة في باكستان لكسب الجبهة الداخلية قبل الانتخابات العامة المرتقبة في الثامن من فبراير المقبل، ولكن في الوقت الحالي، تدير البلادَ حكومةٌ انتقالية يقودها أنور الحق كاكار بعد حل الرئيس عارف علوي الجمعية الوطنية في 9 أغسطس الماضي. ولا نعتقد أن حكومة مؤقتة اقترب موعد تغييرها، ستقوم بضربة عسكرية خارج حدود البلاد للترويج لنفسها سياسياً.

ولكن هذا الأمر يضعنا أمام رغبة الجيش الباكستاني في تأكيد قوته، خشية حدوث أي اضطرابات مدنية بعد إعلان نتائج الانتخابات، فلأول مرة في تاريخ البلاد التي يديرها العسكريون من خلف ستار، يواجه أنصار رئيس الوزراء الأسبق عمران خان الجيش، بعد اعتقاله في مايو الماضي، حيث أحرق المتظاهرون سيارات الشرطة وهاجموا مقارّ الجيش، مما دفع رئيس الوزراء آنذاك شهباز شريف حسب ما نشرته الفايننشال تايمز، إلى الاستعانة بقوات عسكرية لاستعادة النظام في ولايات خيبر وبنجاب وإسلام آباد. واحتمالات تكرار الأمر من الممكن أن تجعل قادة الجيش يستغلون أي فرصة لاستعراض القوة وتأكيد أنهم حماة البلاد من أي اعتداءات خارجية أو اضطرابات داخلية.

ولعل ما يميز النظام السياسي الباكستاني، على حد قول الدكتور محمد صفر مدير مركز دراسات الأقليات المسلمة في إسطنبول، ما يطلق عليه Praetorian Military أي جيش له دور سياسي قوي، حيث قال في مقال بنشرة "آسيا بوست" التي يصدرها "منتدى آسيا والشرق الأوسط"، إن الجيش الباكستاني أطاح مراراً وتكراراً بالحكومات المدنية الضعيفة، وحكم البلاد أكثر من ثلاثين عاماً متتالية، مما يفسر نفوذه القوي في السياسة، ومحاولات العسكريين رسم مستقبل للبلاد يراقبونه ويوجهونه ويحمل رسائلهم.

ردود فعل دولية

رغم استبعاد فكرة اندلاع حرب باكستانية إيرانية، خاصة أنهما تشتركان في مشروع اقتصادي واحد يتمثل في الممر الصيني الجديد الذي سيمر بإقليم بلوشستان على جانبيه الإيراني والباكستاني، مما يجعل سياسة خفض التوتر غالبة على الطرفين، لذا يتعين على إسلام آباد بعدما حدث إعادة حساب علاقاتها مع طهران، فمع استمرار التوترات بسبب المتمردين الذين يهددون المشروع الصيني، لا تزال هناك فرص محتملة لتفاقم التصعيد بما يؤثر في الاستقرار الإقليمي.

جعل الخطر الذي أصبح يحيط بهذا المشروع الاقتصادي الطَّمُوح الصين أول الدول التي حاولت التهدئة، حيث قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، حسب ما نشرته "إيكونوميك تايمز" في 19 يناير، إن بكين مستعدة لأداء دور بناء في تهدئة العلاقات الحالية بين إيران وباكستان، اللتين ترتبطان بعلاقات وثيقة معها، وهما عضوان في منظمة شنغهاي للتعاون. وأعربت عن استعداد بلادها للتوسط بين البلدين.

كما التقى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، برئيس الوزراء الباكستاني المؤقت أنور الحق كاكار، في سويسرا يوم 19 يناير على هامش منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، وعرض وساطة المملكة في تهدئة التوترات، حسب ما أعلنه مكتب رئاسة الحكومة في إسلام آباد. 

أما الولايات المتحدة، فقد أدانت الضربات الإيرانية الأخيرة إجمالاً، في العراق وسوريا وباكستان، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر في بيان صحافي: "ندين هذه الضربات، فقد رأينا إيران تنتهك حدود ثلاث من جاراتها خلال الأيام الماضية".

خاتمة

من الواضح أن البلدين ليسا معنيين بمزيد من التصعيد، فباكستان تواجه توترات أمنية مع الهند، وأيضاً من المسلحين المناوئين لباكستان من الأراضي الأفغانية، فضلاً عن التوترات في إقليم بلوشستان الذي تحتاجه لإتمام اتفاق الممر الاقتصادي الصيني الجديد. ولذلك سوف تتجنب أي نزاعات مع إيران، خاصة أن هناك لجنة أمنية مشتركة بين البلدين مهمتها مواجهة المتمردين في هذا الإقليم. وما حدث خطأ إيراني من الممكن تجاوزه حتى لا تتفاقم الأمور.

لقد كان إعلان إيران مسؤوليتها عن الهجوم بشكل مباشر وليس عن طريق أحد وكلائها، هو رسالة لباكستان مفادها أن طهران لن تصمت طويلاً على تراخي إسلام آباد في مواجهة التهديدات التي تشكلها الجماعات المتمردة في بلوشستان. حيث قالت وزارة الخارجية الإيرانية في بيان يوم 18 يناير إن "إيران ترى أمن شعبها وسلامة أراضيها خطاً أحمر"، وتتوقع من باكستان "الصديقة والشقيقة" أن تمنع وجود قواعد للمتشددين المسلحين على أراضيها.

خلاصة القول، يبدو من خلال التصريحات المتبادلة بين مسؤولي البلدين أن طهران قدمت لباكستان أدلة على تورط جيش العدل في هجوم كرمان وتنسيقه له لوجستياً، وطلبت من إسلام آباد التحرك ضده، لكن الأخيرة تأخرت في إجراءاتها ضد المتمردين، نظراً لانشغالها في المعركة السياسية، تمهيداً لانتخابات فبراير، فما كان من طهران إلا أن نفذت هجومها بعد أن حصلت على أدلة تشير إلى أن أعضاء في الجماعة كانوا من بين عدد من المتشددين الذين يخططون لهجمات أخرى في إيران. لكن بناء على الاتصال الأول بين وزيري خارجتي البلدين في 19 يناير الجاري، فقد عادت المياه إلى مجاريها بين البلدين وكما أشرنا في مقدمة هذا المقال ، فقد أعلنت البلدان استئناف علاقاتهما الدبلوماسية.


29