يحتل الشرق الأوسط مكانة مهمة في السياسة الخارجية الفرنسية التي باتت تشهد تحولات نوعية تجاه المنطقة في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، لاسيما لجهة عدد من المحددات التي باتت تحكم ضرورة توجهها تجاه المنطقة، وفي مقدمتها تعزيز المصالح الاستراتيجية الفرنسية مع الدول الشرق أوسطية ذات المكانة الاقتصادية والسياسية البارزة، والمشاركة في تسوية وحل الملفات ذات التأثير الإقليمي والدولي وفي مقدمتها أزمة الطاقة العالمية، وملف الإرهاب الإقليمي والدولي.
باتت فرنسا تعيد الاعتبار لسياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط انطلاقاً من رغبتها في أن تقود السياسة الخارجية الأوروبية تجاهه، لاسيما بعد انحسار الدور الأمريكي، وتنامي النفوذ الروسي والصيني، وتصاعد الخطر الإيراني، حيث ترى فرنسا أنها الدولة الغربية المؤهلة لإعادة الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة العربية، خاصةً وأنها باتت أكثر الدول الأوروبية نشاطاً فيها.
وتشكل بعض دول المنطقة العربية مركز اهتمام متنامٍ وبشدة في السياسة الخارجية الفرنسية، لاسيما بسبب مكانتها السياسية والاقتصادية، وتحولها إلى قوى وازنة وفاعلة في قضايا الشرق الأوسط، حيث أصبحت تلك الدول، وفي مقدمتها دول الخليج العربي، مركز الاهتمام الجديد لباريس بعد أن كانت تركز على دول تعد تقليدياً مراكز مهمة لها مثل لبنان. من هنا يأتي سعي فرنسا إلى توطيد علاقتها مع دول الخليج العربي.
المحددات والأهداف
يبدي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اهتماماً بالغاً بمنطقة الشرق الأوسط التي تحتل مكانةً بارزةً في سياسته الخارجية، حتى باتت فرنسا تعد أبرز وأكثر الدول الأوروبية نشاطاً في المنطقة، مع توسيع ملحوظ لنطاق اهتمامها فيها لتشمل مناطق مركزية جديدة أبرزها الخليج العربي. تركز سياسة ماكرون تجاه منطقة الشرق الأوسط على قضايا تعد ذات أهمية استثنائية لها ولدول المنطقة، حيث باتت تعطي أولوية لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتبدي تفهماً أكبر لمخاوف الدول العربية تجاه المسائل الأكثر إلحاحاً وأهمية بالنسبة لها، وفي مقدمتها الإرهاب والتطرف.
هذا الوضع يفسر مساعي فرنسا لتعزيز تعاونها الأمني مع الدول التي باتت تحتل مواقع مهمة في المنطقة، وتنظر إليهم على أنهم شركاء إقليميون في الحفاظ على التوازن الإقليمي، الأمر الذي أحدث تحولاً نوعياً في السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الشرق الأوسط. فقد تجاوزت فرنسا مسألة الحضور التقليدي لها في شمال أفريقيا والمشرق العربي إلى المراكز الإقليمية البارزة في المنطقة، ولاسيما الخليج العربي الذي بات يحتل مكانة كبيرة في توجهات سياستها الخارجية. يظهر ذلك واضحاً من الزيارات التي أجراها الرئيس ماكرون إلى المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وكذلك إلى قطر، وتوقيع العديد من الاتفاقيات التي تمتد على مجالات اقتصادية وتجارية واستثمارية وثقافية وعسكرية، وإطلاق العديد من المبادرات الدبلوماسية في إطار إيجاد حلول للأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وكذلك إجراء العديد من التدريبات العسكرية المشتركة.
يبدو واضحاً أن فرنسا تنطلق في سياستها تجاه المنطقة من محددات أساسية بالنسبة لها، أهمها رغبتها في رسم سياسات مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية، رغم كونها جزءاً من التحالف الأوروبي مع واشنطن، حيث يبرز واضحاً أن السياسة الفرنسية ترغب في عودة النشاط الأوروبي إلى المنطقة بقيادتها، خاصة مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتي تمتعت بعلاقات مهمة جداً مع دول مجلس التعاون الخليجي، من منطلق أن فرنسا ترى نفسها أنها قادرة على لعب دور قيادي في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه الشرق الأوسط، خاصة وأنها الدولة الأوروبية في الكتلة الأوروبية التي أظهرت نشاطاً كبيراً تجاه الشرق الأوسط. دور ترى فرنسا أنه يجب أن يقوم على نهج أكثر مرونة، لاسيما بعد التحديات الوجودية التي ألمت بالاتحاد الأوروبي وأضعفت قدرته على قيادة مبادرات دبلوماسية تتجاوز الحدود الجغرافية للقارة الأوروبية.
علاوة على ذلك تشكل رغبة فرنسا في التوسع في تعزيز قطاع صناعاتها الدفاعية، التي تمثل مبيعات الأسلحة فيها إحدى القوى المحركة للنشاط الفرنسي في الشرق الأوسط، الأمر الذي يمنحها فرصة مهمة لإجراء صفقات عسكرية حيث يشكل الشرق الأوسط سوقاً واعدة لقطاع الصناعات الدفاعية الفرنسية يعوضها عن خسائرها السابقة.
يبرز الهاجس الأمني كأحد أبرز محددات السياسة الفرنسية الخارجية، والذي بات يتصاعد لديها مؤخراً على خلفية الأحداث الإرهابية التي تشهدها بين حين وآخر، كما تشهدها أوروبا عموماً، حيث كانت فرنسا الدولة الغربية التي واجهت العدد الأكبر من الهجمات الإرهابية، خاصة مع انضمام مئات المواطنين الفرنسيين إلى التنظيم الإرهابي من جهة أولى، وتصاعد موجات الهجرة المستمرة من منطقة الشرق الأوسط إلى أوروبا، وانتشار المجموعات والتنظيمات الإرهابية من جهة ثانية.
لذلك أصبحت مكافحة الإرهاب واحدة من أبرز أولويات سياستها الخارجية والداخلية التي تقوم على مبدأ ضرورة تطويقه ومحاربته خارج حدودها لتفادي انتقاله إليها في الداخل، الأمر الذي يعزز من حاجتها للاهتمام بهذه المنطقة من أجل تفعيل الشراكات الأمنية مع الحكومات الصديقة فيها لمكافحة الإرهاب، وتعزيز قدرتها على ذلك يكمن عبر استمرار التعاون الإقليمي، والحفاظ على الوجود العسكري على عدد من الجبهات، وإبقاء انخراطها ضمن التحالف الدولي ضد الجماعات الإرهابية، لاسيما داعش، للتخفيف من أخطار تناميه. تقول ماري ماهر ، أن فرنسا تتبع استراتيجية لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقوم على تعزيز التعاون الإقليمي مع الحكومات الصديقة، والحفاظ على الوجود العسكري على عدد من الجبهات وإبقاء انخراطها ضمن التحالف الدولي ضد داعش للتخفيف من مخاطر تنامي نشاط التنظيم، وتحقيق الاستقرار في المناطق المحررة بسوريا والعراق وليبيا، وتبادل المعلومات الاستخباراتية لتحديد الجهاديين الفرنسيين الذين يقاتلون مع تنظيم داعش من أجل زيادة فعالية معركتها ضد الإرهاب في الداخل، (المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 29 أبريل 2022).
هذا المحدد يرتبط بعامل آخر، وهو رغبة فرنسا في استقرار دول الجوار الجنوبي لها، نظراً للتأثير الكبير لأزماتها الداخلية وارتداداتها على أوروبا، الأمر الذي يتطلب سياسة فرنسية فاعلة في هذا الجوار الجنوبي لحل أزماته لضمان الاستقرار فيها، وبالتالي الحد من تأثيراتها على أوروبا، أي إسهام فرنسا في إدارة الأزمات لتلك الدول والمشاركة في حلها. يضاف إلى المحددات السابقة عامل آخر لا يقل أهمية عنهما، وهو رغبة فرنسا في إيجاد مرتكز لها في المنطقة الشرق أوسطية، التي تشهد تنامي النفوذ الروسي والصيني، خاصة مع تراجع السياسة الأمريكية فيها، الأمر الذي يشكل فرصة مهمة يمكن من خلالها لفرنسا أن تعيد الاعتبار للأهمية الجيوسياسية للشرق الأوسط في إطار انخراط أوروبي فيها، لاسيما مع المناطق التي تتشابك فيها مصالحها الأساسية مثل الخليج العربي.
تأثير السياسات الفرنسية على ملفات المنطقة
تشكل السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط عامل توازن بين كل من السياسة الأمريكية من جهة، والسياسة الروسية والسياسة الصينية من جهة، لاسيما في الملفات الكبرى الخاصة بالمنطقة مثل ملف الإرهاب، أو في الملفات ذات البعد الدولي لكن نتائجها وتداعياتها تطال المنطقة مثل الأزمة الأوكرانية، حيث يبدو واضحاً أن السياسة الفرنسية تسعى إلى محاولة إيجاد تسوية ما بين موسكو وكييف، على عكس السياسة الأمريكية التي تدعو إلى التصعيد. لذلك يتشابه الموقف الفرنسي من الأزمة الأوكرانية مع مواقف عدد من دول المنطقة العربية.
علاوة على ذلك، ستشكل المشاركة الفرنسية في مكافحة الإرهاب، والتي تعد جزءاً من التحالف الدولي لمكافحة داعش في سورية والعراق وليبيا، سواء على الصعيد الأمني قصير المدى، أو على الصعيد السياسي بعيد المدى، عاملاً مهماً في تفعيل الجهود الدولية لقتال داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية.
وتبرز أهمية الدور الفرنسي من خلال القواعد العسكرية الفرنسية التي تعد ضرورية، رغم وجود القدرات الأمريكية، خاصة وأن عدداً كبيراً من مقاتلي داعش وغيرهم من التنظيمات الإرهابية جاؤوا من فرنسا. كما أن السياسة الفرنسية في المنطقة ستشكل عاملاً رادعاً للخطر الإيراني المتنامي، حيث إن تراجع اهتمام السياسة الأمريكية والأوروبية أدى إلى تنامي النفوذ الإيراني، ومده لشبكات ضمن عدد من الدول العربية، لاسيما تلك التي تعاني من أوضاع اقتصادية سيئة، لذلك فإن عودة فرنسا إلى المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وتحديداً في المنطقة العربية، سيسهم في الحد من النشاط الإيراني، وسيشكل محدداً له، لاسيما في ملفها النووي، انطلاقاً من أن فرنسا جزء مهم من المجموعة الدولية التي تفاوض إيران في هذا الملف. لذلك يمكن لفرنسا أن تملأ ولو جزءاً ما من الفراغ الأمريكي في وجه التمدد الإيراني.
فضلا عن ذلك تقدم الشراكة الاقتصادية الفرنسية مع دول الشرق الأوسط فرصاً استثمارية واعدة ومتعددة في مجالات مختلفة، أبرزها الصناعات الدفاعية، والاتفاقيات الاقتصادية. على سبيل المثال الاتفاقيات الاقتصادية المتعددة التي أبرمتها مع دولة الإمارات العربية المتحدة والاتفاقيات التي وقعتها مع المملكة العربية السعودية. كذلك الحال بالنسبة للآفاق الاستثمارية المهمة لفرنسا لاسيما الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة، خاصة تلك التي تتعلق بقطاعي الطاقة وإعادة الإعمار، حيث تمتلك فرنسا قدرات استثمارية كبيرة في قطاع الطاقة التي تعد منطقة الشرق الأوسط غنية بها، كذلك يمكن لفرنسا أن تلعب دوراً مهماً في عمليات إعادة الإعمار، لاسيما في المناطق التي تم تحريرها من المجموعات الإرهابية في سوريا والعراق وليبيا، والتي تقدر بالمليارات، حيث تشكل عنصر جذب مهم للشركات الفرنسية التي تطمح بالمشاركة فيها.
إن طبيعة التحديات الاقتصادية التي باتت تعاني منها أوروبا، كما هي حال الاقتصاد العالمي، على خلفية التداعيات والنتائج الخطرة التي أدت إليها الحرب الروسية-الأوكرانية، ولاسيما في مجال موارد الطاقة، الأمر الذي يجعل من منطقة الشرق الأوسط، لاسيما دول الخليج العربي، الوجهة الأبرز والأهم لباريس للحصول على مساعدة في تجاوز هذه الأزمة. حيث يبدو من الواضح أن دول الخليج العربي، أصبحت وجهة ليست فقط إقليمية، بل ودولية في مجال التعاون المشترك بالنسبة لفرنسا، لاسيما في التبادلات التجارية والاقتصادية والاستثمارية، والثقافية والاجتماعية والأكاديمية، والإشراف البيئي، والابتكار التكنولوجي، والأمن الغذائي، والطاقة بما فيها النظيفة والخضراء.
خلاصات
تبدي السياسية الفرنسية اهتماماً كبيراً بمنطقة الشرق الأوسط، التي باتت ضمن أبرز أولوياتها الخارجية نظراً للدور الذي يمكن أن تلعبه في مساعدة فرنسا على الخروج من عدد من أزماتها، لاسيما السياسية (عبر استعادة دورها العالمي والإقليمي بعد التراجع الكبير الذي شهدته)، والدبلوماسية (عبر استعادة مكانتها في العلاقات الدولية من خلال طرح نفسها كقوة توازن في الصراع الأمريكي-الروسي)، والاقتصادية (لاسيما تلك التي نجمت عن الحرب الروسية الأوكرانية وخاصةً في ملف الطاقة)، والعسكرية (حيث أن المنطقة تشكل السوق الواعدة لمنتجاتها العسكرية لاسيما بعد تصاعد التوتر مع واشنطن التي تسببت لباريس بإلغاء العديد من صفقاتها العسكرية في أوروبا).
هذا الأمر سيؤدي إلى نمو النشاط السياسي الفرنسي خلال المدى القريب والمتوسط والانخراط بشكل أكبر في ملفات المنطقة لاسيما الأزمات السياسية والاقتصادية التي تشهدها عدد من الدول العربية، وفي الملفات ذات التهديد الإقليمي والدولي، مثل ملف مكافحة الإرهاب، وكذلك في ملفات الوساطة والتعاون البيني بين الدول العربية.
أي أن المنطقة العربية، ولاسيما الخليجية منها ستشهد تنامياً متسارعاً للنشاط الفرنسي سياسياً، عسكرياً، أمنياً، اقتصادياً، استثمارياً، ويمكن لفرنسا أن يكون لها دور وازن في ملفات المنطقة لاسيما الكبرى منها. مع التأكيد على أن هذا النشاط سيختلف بين دولة وأخرى في المنطقة العربية، لكنه سيكون شديد التركيز في منطقة الخليج العربي التي باتت تعني لفرنسا المدخل الأبرز والأهم للمنطقة العربية كلها، نظراً للمكانة الكبيرة التي باتت تمتلكها، ولقدراتها الاقتصادي والتنموية، لاسيما في مجال الطاقة والاستثمار.