تساؤلات مطروحة لما بعد عمليات إجلاء الدبلوماسيين والرعايا الأجانب من السودان
25-Apr-2023
تبحث هذه المقالة التحليلية في عمليات الإجلاء المتسارع التي تجريها الجهات الدولية لسفاراتها من دولة السودان. ومنذ العام 2019، عندما أُطيح بنظام الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير، لعب الدبلوماسيون في السفارات الغربية والإقليمية والعربية، المتواجدون في الخرطوم، دورا حسّاسا في تمهيد الأرضية لعملية الانتقال الديمقراطي المزمعة في السودان.
وعلى الرغم من النكسات المتكررة التي واجهتها مساعي الدبلوماسية الخارجية في صنع إطار توافقي على حكومة مدنية فاعلة في الخرطوم، وأبرزها عندما أعلن قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان مجموعة من الإجراءات التي أطاحت بالفترة الانتقالية في أكتوبر عام 2021؛ غير أنّ انسحاب موظفي السلك الدبلوماسي الأجانب من السودان في اللحظة الراهنة، على وقع الحرب المتصاعدة بين الجيش وقوات الدعم السريع التي يقودها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قد يمثّل بالفعل الانتكاسة الأوضح للعملية الديمقراطية في البلاد، والتي تمّ تحييدها بشكل صريح لصالح العمليات العسكرية.
لقد تسارعت عمليات إجلاء الرعايا والدبلوماسيين الأجانب من السودان، من قبل دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وقد أجلى الاتحاد الأوروبي أكثر من ألف من رعاياه، في وقت تتواصل المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث تسببت الاشتباكات منذ 15 أبريل بين الجيش وقوات الدعم السريع، بمقتل أكثر من 420 شخصا وإصابة 3700 بجروح، ودفعت عشرات الآلاف الى النزوح من مناطق الاشتباكات نحو ولايات أخرى، أو في اتجاه تشاد ومصر. وتواصل دوي إطلاق الرصاص ودوي الانفجارات وتحليق الطيران الحربي في الخرطوم. وترافق تسارع إجلاء المواطنين الأجانب، مع تزايد المخاوف على مصير السودانيين متى انتهت هذه العمليات. (شبكة يورونيوز، 24 أبريل 2023)
وانضمّت الصين يوم الاثنين 24 أبريل إلى قائمة طويلة من الدول التي بدأت في إجلاء مواطنيها، حسبما أفادت (محطة CGTN الصينية الرسمية)؛ وعند النظر إلى مصالح بكّين الاقتصادية واسعة النطاق في السودان، فإنّ المزيد من الإجهاد الاقتصادي سيكون أكثر احتمالا في المرحلة المقبلة بالنسبة إلى الدولة الإفريقية.
وفي إشارة إلى مخاوف أميركية مستمرة من تنامي التصعيد، أوضح البيت الأبيض أن "العسكريين الأميركيين سيبقون في جيبوتي لضمان سلامة موظفي الخدمة المدنية الأميركية، مع وجود قوات إضافية جاهزة للانتشار إذا لزم الأمر". (وكالة تاس الروسية، 24 أبريل 2023)
من جانبه، حاول الاتحاد الأوروبي تهدئة المخاوف بشأن الإطاحة بالعملية السياسية في البلاد مع فراغ السفارات. وقال مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، يوم الاثنين 24 أبريل، إن الاتحاد الأوروبي سيواصل الدفع من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للصراع في السودان على الرغم من إجلاء الموظفين الدبلوماسيين وغيرهم من مواطني الاتحاد الأوروبي من البلاد مؤخرا. وأوضح بوريل أن سفير الاتحاد الأوروبي في السودان لا يزال في البلاد. (موقع إذاعة مونتي كارلو، 24 أبريل 2023)
لماذا تسارعت عمليات الإجلاء؟
أولا، أخطاء في قراءة الوضع السياسي في السودان، والذي كان يُنذر بتهديد وشيك. حيث كانت واشنطن وحلفاؤها المنخرطون بجهود دبلوماسية في الخرطوم متفائلين بشكل "مفرط" بشأن الموافقة السابقة للقادة العسكريين السودانيين على تسليم السلطة للمدنيين. بما يُشير إلى أنّ الحرب الشاملة فاجأت العديد من السفارات. (مايكل فيليبس، نيكولاس برايو، بينوي فوكون - صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، 23 أبريل 2023)
ثانيا، إجلاء الدبلوماسيين من السودان ربّما جاء بعد دراسة السيناريوهات المحتملة للحرب في السودان بشكل معمق، والتوصل الى نتيجة مفادها أن الحرب في السودان لا يتوقع أن تتوقف قريبا سواء عبر المفاوضات أو عبر حسم أحد الأطراف المعركة لصالحه سريعاً. (هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، 23 أبريل 2023).
فبعد عدة أيام من المعارك الضارية في العاصمة السودانية الخرطوم، لم يحسم أي طرف المعركة لصالحه، ما يعد مؤشرا خطيرا على أن القتال مرشح ليتواصل لفترة طويلة تهدد بسقوط مزيد من الضحايا خاصة المدنيين. وبالنظر إلى توازن القوة بين الجيش السوداني وقوات الرد السريع، فقد يكون الأمر أقرب إلى تكرار سيناريو الحروب الطويلة في اليمن وسوريا وليبيا. (وكالة الأناضول التركية، 24 أبريل 2023)
ثالثا، تأتي عمليات الإجلاء بعد عدة حوادث تعرض خلالها دبلوماسيون وأجانب للهجوم والاستهداف. كذلك، تأتي في وقت يتزايد فيه القلق من أن القتال قد يزداد سوءا وأن الوصول إلى الأشياء الأساسية مثل الخدمات الطبية وحتى المياه النظيفة قد يكون مشكلة بالنسبة لأولئك الذين بقوا. (سيث فرانتزمان - صحيفة جيروزالم بوست الإسرائيلية، 23 أبريل 2023)
دلالات التي قد تحملها عمليات الإجلاء
أولا، تعزّز عمليات إجلاء الدبلوماسيين احتمالات الفوضى وظهور فظائع متزايدة من قبل الطرفين المتحاربين. وأشارت تقارير بالفعل إلى مخاوف كبيرة بين المواطنين السودانيين مما قد تفعله القوات المتحاربة في السودان بمجرّد رحيل الأجانب. (صحيفة ذي جارديان البريطانية، 24 أبريل 2023)
ثالثا، تمهّد عملية الإجلاء من السودان الطريق نحو فرض عقوبات على أعضاء في الفصيلين المتنافسين في السودان. وقد ذكر روبي جرامر، مراسل شؤون الدبلوماسية والأمن القومي في (مجلة فورين بوليسي الأميركية، 19 أبريل 2023) وفقا لأربعة مسؤولين حاليين وسابقين على معرفة بالخطط، أن حزمة العقوبات التي لا تزال تحت الصياغة تستهدف عناصر في القوات السودانية المسلحة ومنافستها قوات الدعم السريع، وستكون بمثابة رسالة تخويف لقادة القوات المسلحة والدعم السريع.
تصورات مطروحة لما بعد عمليات الإجلاء
في الوقت الراهن، وبعد إجلاء عدد كبير من موظفي ورعايا الدول الأجنبية من السودان؛ فإنّ الوضع في السودان قد يكون مقبل على مجموعة من السيناريوهات:
أولا، استمرار الحرب في ضوء التوازن العسكري بين جانبي الصراع. وحتى إذا ما تمكّنت قوات الجيش من استعادة السيطرة على العاصمة السودانية؛ فإنّ قوات الدعم السريع بإمكانها التحصّن في معاقل أخرى في أنحاء مختلفة من السودان على راسها إقليم دارفور، والدفع بحرب استنزاف قد تفضي إلى انفصال الإقليم عن البلاد، وسط غياب الحلول الدبلوماسية.
ثانيا، تدخّل أطراف دولية وإقليمية لدعم جانبي الصراع؛ بما يقود إلى حرب مطوّلة ومتمدّدة. وقد ظهرت ملامح هذه التدخلات بالفعل وفقا لتقارير صحفية واستخباراتية. إذ يقول الجيش السوداني إنه "يملك معلومات دقيقة لعملية تآمر ومؤشرات قوية بتورط أطراف إقليمية ومحلية في الحرب مع قوات الدعم السريع"، ومن جهة أخرى تتهم الأخيرة طيرانا أجنبيا بقصف وحداتها في مدينة بورتسودان، التي تضم أكبر ميناء للبلاد على البحر الأحمر.
ثالثا، سيناريو التهدئة المتدرّجة. والذي قد يكون مدفوعا بجهات دولية وإقليمية مؤثرة. والذي قد يطرح أفكارا غير مقبولة في الوقت الراهن لطرفي الصراع، على غرار تقاسم السلطة. وقد ظهرت بالفعل إشارات محتملة إلى مجموعة من الوساطات الإقليمية، ومن بينها ما طرحه الكاتب الإيطالي "برونو ألبرتي"، حول اقتراح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على القادة العسكريين السودانيين إجراء مفاوضات في تركيا. (وكالة Agenzia Giornalistica Italia الإيطالية، 24 أبريل 2023). كذلك طرحت وساطة إسرائيلية ووساطة أميركية سعودية لتفاوض الجنرالين في العاصمة الرياض.
استنتاجات وتوصيات
وسط مجمل هذه السيناريوهات، فإنّ الاتفاق الإطاري لنقل السلطة من العسكريين إلى المدنيين يبدو خارج الحسابات في الوقت الراهن لصالح العمليات العسكرية، فيما لا توجد مؤشرات واقعية الآن على أن العسكريين قد يسمحون بتسليم السلطة للمدنيين، رغم وعود البرهان وحميدتي. والأهمّ من ذلك، أنّ الوضع الاقتصادي في السودان سيستمر في التدحرج نحو الهاوية مع اتّساع رقعة الصراع العسكري.
إنّ انسحاب البعثات الدبلوماسية، وبما في ذلك الأميركية، يُشير إلى غياب خطة ملموسة لدفع التهدئة، ومخاوف حقيقية من تسارع التصعيد. كما أنّ ساحة المعركة في السودان قد تصبح أكثر فوضوية الآن، وبما في ذلك تنامي إيقاع الفظائع وربّما تمدّد الصراع وتداخله بسياقات إقليمية ودولية أوسع.
العملية السياسية ستكون خارج الحسابات، أقلّه حتى ظهور مؤشرات لوجود نوايا حقيقية للتهدئة العسكرية. وسيكون من الضروري في هذا الصدد تجنيد جهد إقليمي محسوس وذي نفوذ حقيقي على مختلف الجهات الفاعلة في التصعيد.
على ذلك سيكون من المهمّ إزاء ما سبق بالنسبة إلى الجهات الفاعلة في الخرطوم النظر فيما يلي:
أولا، محاولة تحييد القطاعات الاقتصادية قدر الإمكان عن التدهور الأمني. إذ يمثّل هذا القطاع الخطر الأكبر طويل الأجل على مستقبل السودان؛ وبإمكان الدول صاحبة المصالح والاستثمارات الراسخة في السودان، إجراء مناقشات مع طرفي القتال لتحييد البنى الاقتصادية التحتية عن القتال.
ثانيا، تعزيز الوساطات متعددة الأطراف، على غرار ما ذكرناه بالفعل من وساطات محتملة تشمل جهات دولية وإقليمية فاعلة وقريبة من جانبي الصراع، وقادرة على تثبيت التزامات طويلة الأجل بأمن الخرطوم، كما تمهيد الطريق للمزيد من التعاون الإقليمي المطلوب في المرحلة المقبلة.
ثالثا، ضرورة مواصلة الحديث مع المدنيين، وعدم طرح قضيتهم إلى الخلف؛ وفي الوقت نفسه معالجة بعض الاختلالات التي هيمنت على آفاق الاتفاق الإطاري. من شأن هذا أن يواصل الضغط على العسكريين للالتزام بتعهداتهم قبل اندلاع الحرب؛ كما من شأنه أن يحيّد المزيد من تفشّي الصراع خصوصا وسط حضور حركات مسلّحة متعدّدة الأطراف قابلة للانخراط في الصراع في أيّة لحظة.