وضعت الحرب بين إسرائيل وحركة حماس منذ 7 أكتوبر الماضي، إيران والمليشيات الموالية لها أمام معضلة حقيقية، فعلى خلاف الجولات السابقة من التصعيد، بدا لأول مرة أن إيران حريصة على تأكيد أنها ليست معنية بالانخراط في النزاع، أو بمعنى أدق ليست معنية بدفع جزء من كُلفة العملية التي نفذتها حماس داخل غلاف غزة وكانت السبب المباشر في اندلاع المواجهات.
في الغالب يعود هذا الموقف إلى أن الحرب الحالية مختلفة إلى حد كبير عن سابقاتها، فالمدى الذي وصلت إليه عملية حماس التي قتل فيها نحو 1200 شخص لم يكن مسبوقاً، وبالمثل فإن المدى الذي وصلت إليه العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة لم يكن مسبوقاً أيضا، كما أن الدعم الأمريكي المتواصل لإسرائيل على المستويات المختلفة لمساعدتها في إنجاز أهدافها من الحرب وفي الوقت نفسه منع خصومها من توسيع نطاق انخراطهم فيها هو دعم استثنائي.
في هذا السياق يمكن القول إن إيران بقدر ما فوجئت بالمستوى الذي وصلت إليه عملية حماس فوجئت أيضا بالرد الإسرائيلي، وربما يفسر ذلك التناقض في التصريحات الإيرانية حول الحرب. بعد أن وجه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان تحذيراً لإسرائيل، عبر المبعوث الأممي الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط تور وينسلاند، في 14 أكتوبر الماضي، من أنها "ستتدخل إذا استمرت العملية العسكرية" (Axios, October 14, 2023)، حرصت البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة، بعد ذلك بيوم واحد، على تأكيد أن القوات المسلحة الإيرانية لن تدخل في اشتباك مع إسرائيل ما لم تقم الأخيرة بالهجوم على أراضي إيران أو مصالحها أو مواطنيها.
هنا، يمكن القول إن الحرب التي تدور رحاها حالياً في قطاع غزة كشفت إلى حد كبير عن الثوابت والمتغيرات التي تحكم مواقف إيران وتضبط حدود الأدوار التي تقوم بها المليشيات الموالية لها، وتتمثل في:
-
خروج حماس عن الإطار المحدد مسبقاً: دائماً ما كانت إيران تربط دعمها للمليشيات المسلحة في المنطقة باحتكار سلطة ضبط التحركات والتفاعلات التي تقوم بها تلك المليشيات، وهنا ربما تكون العملية التي قامت بها حماس داخل غلاف غزة، في 7 أكتوبر الماضي، مثّلت خروجاً عن هذا الإطار بشكل أو بآخر، حيث يرجح أن تكون إيران قد فوجئت بها بالفعل، ليس فقط من ناحية التوقيت، وإنما أيضاً من ناحية المدى الذي وصلت إليه.
هذه المقاربة الإيرانية يمكن فهمها من تأكيد المرشد علي خامنئي خلال لقاءه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في بداية نوفمبر الجاري، أن "إيران لن تتدخل في الحرب لصالح حماس"، داعياً قادتها إلى "إسكات الأصوات التي تدعو إيران وحزب الله إلى المشاركة" (Reuters, November 15, 2023). يعني ذلك، أن إيران رأت أن تدفع حماس وحدها كُلفة العملية العسكرية التي قامت بشنها، ما دامت تجاوزت الإطار المرسوم واتخذت قراراً إستراتيجياً على هذا الدرجة من الأهمية دون أن تحصل على ضوء أخضر من جانبها. المقاربة نفسها تكررت على لسان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، حيث قال في 3 نوفمبر الجاري "إن عملية طوفان الأقصى كانت قراراً فلسطينياً مائة بالمائة، وكان تنفيذها فلسطينياً مائة بالمائة، وأخفاها أصحابها عن الجميع".
-
عدم التعرض لمصالح إيرانية حيوية: رغم المدى الذي وصل إليه التصعيد العسكري الإسرائيلي بعد عملية حماس، كان لافتاً أنه لم يمس أهدافاً ومصالح إيرانية حيوية. صحيح أن إسرائيل شنت مزيداً من الهجمات ضد مواقع تابعة لإيران في سوريا، وضد مواقع حزب الله في جنوب لبنان، بل وربما ضد مواقع تابعة للمليشيات العراقية، لكن ذلك كله لا يعبر عن توجه إسرائيلي جديد، بل هو استمرار لما كان يجري من صراع محدود بين الطرفين في مرحلة ما قبل السابع من أكتوبر.
هذه المقاربة تشير إلى حرص إيران على عدم الانخراط في الحرب الحالية، كما تحرص إسرائيل على عدم رفع مستوى استهداف مصالح طهران، الأمر الذي يمثل مؤشراً لالتزام الطرفين، حتى الآن، بقواعد الاشتباك المتعارف عليها، فما دامت إسرائيل لم توجه ضربات إلى عمق إيران أو إلى أهداف إيرانية حيوية في الخارج، وتجنبت رفع منسوب التصعيد مع حزب الله، فإنها بذلك قد يشجع إيران على عدم التدخل سواء بشكل مباشر أو عبر الإيعاز لوكلائها بتوسيع نطاق الحرب.
-
توازنات متغيرة داخل خريطة المليشيات: يمكن القول إن إحدى تداعيات الحرب في قطاع غزة، أنها كشفت عن توازنات القوى داخل خريطة المليشيات المسلحة الموالية لإيران، وأظهرت أن موقع حركة حماس، وربما الفصائل الفلسطينية بشكل عام في هذه التوازنات أحد المتغيرات التي دفعت إيران إلى الإيعاز لحلفائها بضبط حدود التصعيد مع إسرائيل.
تأتي الفصائل الفلسطينية في مرتبة متأخرة ضمن تراتبية المليشيات التي تدعمها إيران في المنطقة، إذ أنها مثلا لا تحظى بالأهمية التي يحظى بها حزب الله اللبناني الذي يمثل الوكيل الرئيسي لإيران في المنطقة، والذي يمارس دوراً رئيسياً في دعم نفوذ إيران في سوريا، وتعزيز القدرات والخبرات العسكرية للوكلاء الآخرين، على غرار مليشيا "عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله" في العراق، وكذلك مليشيا "أنصار الله" الحوثية في اليمن. يعني ذلك أن الحزب لا يمكن لإيران أن تتخلى عنه، لأن تكلفة المغامرة بالانخراط في مواجهة لدعمه ربما تكون أقل من تعرضه للانهيار والخروج من المعادلة في المنطقة، وهذا لا ينطبق على حماس ولا غيرها من الفصائل الفلسطينية.
فضلاً عن ذلك، فإن المليشيات الأخرى ربما تحظى بمميزات أكبر بالنسبة للحسابات الجيو إستراتيجية الإيرانية مقارنة بحماس. فمليشيا الحوثي، على سبيل المثال، توفر لإيران موطئ قدم رئيسياً قرب خطوط المواصلات العالمية في باب المندب والبحر الأحمر. أما المليشيات العراقية، فتوفر لطهران فرصة الوصول إلى أهداف أمريكية حيوية، في العراق وسوريا، في إطار إدارتها للتفاعلات مع واشنطن، والتي تتخللها فترات من التصعيد والتهدئة حسب مساحة الخلافات العالقة بين الطرفين حول بعض الملفات، كما ذكر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في 17 نوفمبر 2023. ووفقاً لنائبة المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية سابرينا سينج، فقد تعرضت القوات الأمريكية في الدولتين، خلال الفترة من 17 أكتوبر الماضي وحتى 21 نوفمبر الجاري، لـ66 هجوماً، من بينها 32 هجوماً في العراق و34 هجوماً في سوريا.
من هنا، ربما يكون النظام في إيران قد فضل تجنب الانخراط في الحرب الحالية بأي شكل كان، ومن ثم التضحية بنفوذه القوي لدى حركة حماس، على التدخل فيها وبالتالي تحمل جزء كبير من كُلفتها في وقت لا يبدو مواتياً بالنسبة لطهران.
-
الاستعداد لمرحلة ما بعد غزة: لا يبدو أن إيران تستبعد تفاقم التوتر مع إسرائيل بعد انتهاء الحرب في غزة، وبالتالي فإنها ربما تحضر لذلك، وتعول على أن وكلاءَها في المنطقة قد يكون لهم دور بارز في إدارة التصعيد المحتمل، وتدخرهم لذلك. ولعل هذا من ضمن أسباب أخرى دعتها إلى إبقاء المليشيات الشيعية الأفغانية والباكستانية -"فاطميون" و"زينبيون"- التي قامت بتكوينها وتدريبها للمشاركة في الصراع السوري داخل مواقعها في سوريا، رغم تراجع الحاجة لها بعد تغير توازنات القوى لصالح الحكومة السورية.
ختاماً، يمكن القول إن الحرب الحالية لم تكشف فقط عن حدود الحركة الإيرانية وثوابت الانخراط الإيراني في الأزمات المختلفة، وإنما سيكون لها أيضاً دور رئيسي في تحديد اتجاهات العلاقة بين إيران والمليشيات المسلحة في المنطقة، بعد أن بات واضحاً أن طهران لديها حساباتها الخاصة بشأن المدى الذي يمكن أن تصل إليه في التصعيد مع خصومها، وأن مقاربة "دعم المقاومة" لن يتم التشبث بها كثيرا عندما لا تكون في خدمة مصالح طهران، أو لا تنسجم مع قراءتها لما يحدث على أرض الواقع.