يبدو أن الانقلابين الأخيرين في النيجر والغابون قد جددا القلق بشأن عودة الانقلابات العسكرية إلى إفريقيا، كما كانت خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وعلى الرغم من التوافق بعد انتهاء الحرب الباردة على البدء بدفع عجلة الديمقراطية في إفريقيا، والقضاء على ظاهرة الاستيلاء على السلطة بانقلاب، والتحرك نحو ترسيخ مفاهيم سيادة القانون والمساواة في الحقوق المدنية، ولكن في السنوات الأخيرة وجدنا أن هذه الظاهرة تتجدد بشكل ملحوظ، وبدوافع وتأثيرات شبه مشتركة.
نظرة على أبرز الانقلابات
بنظرة سريعة على تاريخ الانقلابات في القارة، سنجد أنه في الفترة ما بين عامي 1958 و2008، شهد غرب إفريقيا وحده 44.4% من عدد الانقلابات في القارة، حدثت معظمها في المستعمرات الفرنسية السابقة. ومنذ 2010، وقع 40 انقلابا ومحاولة انقلاب، 20 منها في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل، بما في ذلك تشاد. ومنذ 2019 هناك 7 انقلابات ما بين الناجحة والفاشلة (The Conversation: 15 Feb. 2022). وسوف نستعرض خلال الأسطر التالية أبرز انقلابات الفترة من 2020 إلى 2023.
في أغسطس 2020، أطاح عسكريون بقيادة "عاصمي غويتا" بالرئيس المالي "إبراهيم بوبكر كيتا"، بعد احتجاجات بسبب الفساد وتدهور الأمن، واعتراضات على نتائج الانتخابات التشريعية (BBC News: August 2020). وتحت ضغط دول غرب القارة، انتقلت السلطة لحكومة مدنية مؤقتة مدتها 18 شهرا، تمهيدا لإجراء انتخابات في 2022. لكن العسكريين اختلفوا مع الرئيس المؤقت "باه نداو"، ودبروا انقلابا في مايو 2021، استولى "غويتا" به على منصب الرئيس. ولكن بعد اعتراض مجموعة "إيكواس" اقترح الرئيس فترة انتقالية تنتهي في 2024، تعود بعدها البلاد إلى الحكم الدستوري (France 24: 30 Aug. 2023).
أما تشاد، فقد تولى جيشها السلطة في إبريل 2021 بعد مقتل الرئيس "إدريس ديبي" أثناء زيارته للقوات التي تقاتل المتمردين في الشمال. وبالمخالفة للدستور تدخل المجلس العسكري وحل البرلمان، وعين نجل "ديبي" الجنرال "محمد إدريس ديبي" رئيسا انتقاليا لفترة لا تتجاوز 18 شهرا حتى الانتخابات (DW: 21 April 2021).
وفي سبتمبر 2021، أطاح قائد القوات الخاصة العقيد "مامادي دومبويا" برئيس غينيا "ألفا كوندي" بعد قيامه بتغيير الدستور للسماح بترشحه لولاية ثالثة. وتولى "دومبويا" منصب الرئيس المؤقت، ووعد بالانتقال إلى انتخابات ديمقراطية في غضون ثلاث سنوات. ولكن بعد رفض مجموعة "إيكواس" تم تقليص الفترة الانتقالية إلى 24 شهرا (Jeune Afrique: 1 Oct. 2021).
كذلك أطاح جيش بوركينا فاسو بالرئيس "روك كابوري" في يناير 2022، بعد اتهامه بالفشل في احتواء عنف المتشددين الإسلاميين. وتعهد زعيم الانقلاب المقدم "بول هنري داميبا" باستعادة الأمن (BBC News: 24 Jan. 2023)، ولكن مع تصاعد موجات العنف تآكلت الروح المعنوية للجيش الذي انقلب عليه في سبتمبر 2022، واستولى الكابتن "إبراهيم تراوري" على السلطة (DW: 30 Sep. 2023)، والذي حظي بشعبية كبيرة نتيجة خطابه المعادي لممارسات الغرب في إفريقيا.
أما النيجر، فقد أدى احتجاز الجيش للرئيس "محمد بازوم" في 26 يوليو 2023 بسبب الوضع الأمني المتدهور والحكم السيئ إلى عاصفة من الاعتراضات الدولية (CNN: 26 July 2023). وفي اليوم التالي أصدر رئيس الأركان الجنرال "عبدو صديقو عيسى" بيانا يعلن فيه دعم الانقلاب، ولكن "إيكواس" هددت برد عسكري يعيد "بازوم" إلى منصبه، لكن الانقلابيين لم يلتفتوا للتهديد وتم إعلان قائد الحرس الرئاسي "عبد الرحمن تياني" رئيسا للدولة، ما أثار المخاوف بشأن الأمن ومستقبل مكافحة الإرهاب (France 24: 27 July 2023).
وأخيرا كان انقلاب الغابون في 30 أغسطس 2023، بعد ساعات من إعلان فوز الرئيس "علي بونغو" بولاية ثالثة. حيث ظهر قادة الانقلاب وأعلنوا إلغاء نتيجة الانتخابات وإغلاق الحدود حتى إشعار آخر (Le Monde: 30 August 2023).
هل ثمة قواسم مشتركة؟
على مدى عامين وقعت العديد من الانقلابات العسكرية في إفريقيا، الأمر الذي جعل رئيس إيكواس "نانا أكوفو أدو" يصف الأمر بأنه حالة "مُعدية". لكن هذا الوصف وجد معارضة عند البعض، فقد رفض "جوزيف ساني" نائب رئيس مركز إفريقيا التابع للمعهد الأمريكي للسلام، فكرة "العدوى" وقال إنه لا يمكن وضع غينيا مثلا في نفس المجموعة مع مالي وبوركينا فاسو. وإنه على الرغم من وجود بعض القواسم المشتركة، كعجز الحكومات على توفير الخدمات الأساسية، والفساد، وضعف المؤسسات، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، لكن ظروف وآليات الانقلابات مختلفة، ووصفها بأنها معدية طريقة خاطئة للتفكير (VOX News: 5 Feb. 2022).
وقد وضع الدكتور "ألكسندر هدسون" الباحث في المؤسسة الدولية للديمقراطية في ستوكهولم، أيدينا على قاسم مشترك مهم، فبالنظر إلى شكل الانقلابات في إفريقيا خلال السنوات الأخيرة، وجد أن الانقلاب النمطي العنيف الذي يدار بجنرالات الجيش اختفى تقريبا، فقادة الانقلابات الإفريقية مؤخرا يشتركون في كونهم أصغر سنا وأقل عنفا، وفي بعض الحالات ينالون دعما شعبيا على خلفية الركود السياسي والانهيار الاقتصادي. وباستثناء السودان، تراوحت أعمار قادة الانقلابات بين 34 و41 عاما، جاء معظمهم من القوات الخاصة، ورتبهم لا تتعدى الكابتن والمقدم والعقيد (International IDEA: 19 Dec. 2022). وعلى الرغم من وضوح فكرة "هدسون" لكن صغر السن من وجهة نظرنا له أثار سلبية على المدى البعيد، فقد يحاول القادة البقاء في السلطة لفترة طويلة جدا.
وفي اعتقادنا أن العامل الأمني يعد من القواسم المشتركة بين كافة الانقلابات في القارة، فهناك أزمة أمنية في دول وسط وغرب إفريقيا بسبب التطرف الإسلامي، وهو أمر مكلف يمكن أن يؤدي إلى زيادة تآكل قدرة الرؤساء على توفير الخدمات الأساسية للناس، ويخلق أرضا خصبة لانقلابات عسكرية. هناك أيضا التأثير الاقتصادي والاجتماعي لوباء كوفيد-19، بالإضافة إلى المشاعر المناهضة لهيمنة الغرب، كل ذلك يخلق بيئة مثالية لانقلابات تتمتع بتأييد بعض المواطنين، وصمت البعض الآخر، فالمجتمع المدني نادرا ما يستطيع التأثير في الانقلابات العسكرية.
تأثير الانقلابات على المسار الديمقراطي
من بين الأسباب الرئيسية للانقلابات في إفريقيا الانغلاق على الذات، والعجز في الحكم، وعدم استيفاء استحقاقات المواطنة، والجماهير المحبطة، وانعدام الأمن المتزايد، وتزايد هيمنة الغرب على النظم الحاكمة، والتلاعب بالمسارات الديمقراطية.
يؤكد "حكيم أوناباجو" المحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة النيل بنيجيريا، على أن التلاعب بالديمقراطية في العديد من دول القارة، يجعل من غير المستغرب أن تكون هناك محاولات عسكرية ناجحة للاستيلاء على الحكم. فعلى الرغم من بعض الإنجازات الديمقراطية المتواضعة، لكنها سطحية. تُجرى الانتخابات بشكل دوري دون وجود المكونات الأساسية للديمقراطية، مثل المشاركة المستنيرة والنشيطة، واحترام سيادة القانون، واستقلال القضاء، والحريات المدنية، فضلا عن الرغبة المستمرة في توريث السلطة السياسية بدلا من التنافس عليها ديمقراطيا (The Conversation: 15 Feb. 2022).
ومع أن رأي "أوناباجو" لا يجعل الانقلابات العسكرية مقبولة ومبررة، ولكن في جميع أنحاء القارة تقريبا، تلاعب الرؤساء بالشروط الدستورية للبقاء لفترة أطول في السلطة وتم الانقلاب على بعضهم. ولكن يبقى السؤال الأهم، هل أنقذ الانقلابيون المسار الديمقراطي المتدهور في كل البلدان التي حكموها؟ نعتقد أن ذلك لم يحدث، وعلى العكس مارسوا المزيد من القمع ضد المعارضة وتشددوا في الحكم.
وهكذا، وخلال عامين فقط، تعرضت إفريقيا لسلسلة من الانقلابات التي هددت بإعادتها إلى حقبة الثمانينيات، واستبدال الحكم المدني بمجالس عسكرية. ومع كل دولة تُضاف إلى القائمة، تزداد الأصوات التي تدعي أن الديمقراطية غير ناجحة في إفريقيا، إذ أعقبت – كما لاحظنا - الإطاحة ببعض الرؤساء المدنيين احتفالات في الشوارع، حيث تعالت هتافات المواطنين تهليلا بسقوط القادة المنتخبين. وقد يرى البعض أن الديمقراطية ليست أفضل شكلا للحكم في القارة، لكن ذلك يعني أن المكاسب الديمقراطية التي تحققت منذ التسعينيات أصبحت أثرا بعد عين. وفي حين أنه من المغري تفسير موجة الانقلابات على أنها دليل على كون الديمقراطية في إفريقيا تحتضر، فإن ذلك سيكون خطأ فادحا، لأنه على الرغم من هذه الانتكاسات، إلا أن الديمقراطية تبقى السبيل الوحيد للمضي قدما وتحقيق الاستقرار.
وفي العادة يعتمد الانتقال إلى الديمقراطية بعد الانقلابات، إما على حدوث انقسام داخل الجيوش نفسها، أو على تدخل قوى خارجية، قد تؤثر في نتائج الانتخابات. وعادة ما تؤدي هذه التدخلات والتي تتمحور حول استقطاب قادة الانقلاب أو فرض عقوبات، إلى توابع تضر بالمواطنين.
التداعيات على التنمية الاقتصادية
هناك تداعيات طبيعية للانقلابات المتواصلة وعدم الاستقرار السياسي في إفريقيا، فعلى الرغم من تمتع غرب ووسط القارة بإمكانات هائلة للنمو الاقتصادي نتيجة توفر الموارد الطبيعية، فضلا عن الموقع الاستراتيجي المهم، ولكن تواجه المنطقة أيضا تحديات كبيرة، مثل الفقر وعدم المساواة والفساد وانعدام الأمن.
في رأي المحلل الاقتصادي النيجيري "بول جودوين" أن عدم اليقين السياسي بعد الانقلابات الأخيرة له آثار سلبية على الاقتصاد بطرق مختلفة. فأولا، يمكنها أن تمنع الاستثمار الأجنبي والمحلي، فقد ينظر المستثمرون إلى المنطقة على أنها محفوفة بالمخاطر. وقد يقلل ذلك من تدفق رأس المال والتكنولوجيا والخبرة الضرورية للتنمية الاقتصادية. وثانيا، يمكن أن تؤدي الانقلابات إلى تعطيل التجارة، حيث احتمالات حدوث العنف السياسي والاضطرابات المدنية وإغلاق الحدود واردة، مما يعيق حركة البضائع والأشخاص، ويدمر البنية التحتية، ويؤثر على القدرة التنافسية وإنتاجية الشركات، فضلا عن توافر السلع والخدمات الأساسية والقدرة على تحمل تكاليفها للمستهلكين (Paul Godwin, Tekedia: 30 August 2023).
كما تقوم الحكومات العسكرية لفترة طويلة بعد الانقلاب بحجب الإنترنت، في محاولة لخنق المعارضة السياسية، ولكن ذلك يؤدي إلى صعوبات تشغيلية للشركات، وتعطيل النشاط الاقتصادي بوقف التجارة الإلكترونية، ويولد خسائر في المعاملات الحساسة للوقت، ويزيد البطالة، ويقطع الاتصالات بين الشركات والعملاء، ويخلق مخاطر مالية ضخمة.
على سبيل المثال، يتضح من تقرير لموقع "بيزنس داي" أنه في عام 2020، خسرت تشاد 23.1 مليون دولار بسبب إغلاق الإنترنت، وخسرت بوركينا فاسو حوالي 35.9 مليون دولار في عام 2021 بسبب انقطاع الإنترنت لمدة ثمانية أيام فقط. كذلك فإن الشركات الدولية تعيد النظر في استثماراتها في البلدان المضطربة. والمعروف أن الدول الإفريقية تستفيد كثيرا من وجود مستثمرين دوليين يعملون داخلها، وخاصة من منظور خلق فرص العمل والإنتاج والضرائب. وهذا بدوره سيؤثر على تمويل مشاريع التنمية والبنية التحتية من البلدان والمنظمات المانحة. وقد يفرض المجتمع الدولي عقوبات اقتصادية للضغط من أجل إنهاء الانقلابات. قد تشمل حظر الأسلحة، وتخفيض المساعدات الأجنبية أو قطعها، وقيود على التصدير والاستيراد، وتجميد الأصول، والتصويت السلبي في المؤسسات المالية، وسحب العلاقات الدبلوماسية، ورفض التأشيرات، وإلغاء الرحلات الجوية وخفض الائتمان (Business Day: 1 Sept. 2023).
بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الممكن أن تذهب بعض الدول إلى حد مطالبة المستثمرين الأجانب بعدم دفع الضرائب للنظام العسكري حتى تتم استعادة الديمقراطية، مما يؤثر على تدفقات إيرادات الدولة وقدرتها على تطوير نفسها. وبالنظر إلى كيفية اعتماد القطاع غير الرسمي في إفريقيا على توافر النقد، الذي يمثل جزءا كبيرا من النمو الاقتصادي، فإن العديد من تجار القطاع الخاص سوف يعانون نتيجة إغلاق البنوك. وتعد النيجر من الدول التي أعلنت وسائل إعلامها إغلاق بنوكها، وتوقف ماكينات الصراف الآلي عن العمل أثناء الانقلاب، مما أثر على التدفق النقدي.
خاتمة
نادرا ما تكون الانقلابات حلا مثاليا للحكم السيئ، وبالطبع يجب أن تتوقف هذه الظاهرة. ولكن كثافتها مؤخرا تدعو إلى إعادة تقييم المشروع الديمقراطي الليبرالي في إفريقيا. فالأحداث تثبت أنه على الرغم من تحقيق بعض المكاسب، لكن تظل الديمقراطية في دول القارة شكلية إلى حد كبير، ولا تزال الظروف التي تؤدي إلى الانقلابات قائمة لا تتغير، من حيث تحديات الحكم الوطني كعامل داخلي، والديناميكيات العالمية ذات التأثير الكبير على الحكم والأمن في القارة كعامل خارجي.
في رأي الدكتور "حمدي عبد الرحمن" أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة، أنه بعيد عن مآلات الانقلابات الإفريقية، فإننا أمام ظاهرة إعادة الهندسة الجيوسياسية للمنطقة من خلال صياغة التحالفات الإقليمية والدولية. ربما تشهد المنطقة بوادر حرب باردة جديدة، فتحاول كلا من الصين وروسيا ملء الفراغات الأمنية التي يخلفها رحيل القوات الغربية. وعليه فإن الدول الغربية ستتخذ بدورها قرارات حاسمة فيما يتعلق بمصالحها الأمنية والاستراتيجية في إفريقيا (موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: 31 أغسطس 2023).
في الواقع، تعتبر الانقلابات العسكرية مسؤولة عن الإخفاقات السياسية في بلادها، مما يجعلها أكبر الأخطار التي تواجه الديمقراطية. وهذا يضع القوى الخارجية أمام خيارين، إما العمل مع قادة المجتمع المدني والحكومات العسكرية لمساعدة هذه الدول على تطوير وتعزيز المؤسسات وتحديد جدول زمني للانتقال الديمقراطي، أو استغلال الفوضى للحصول على موطئ قدم لاستخراج الموارد والمزيد من الاستغلال وفرض الهيمنة. وعلى أية حال، حتى الآن لم تقدم القوى الدولية مسارات، قابلة للتطبيق، للانتقال إلى الديمقراطية تتلاءم وطبيعة إفريقيا، وتكتفي فقط بفرض عقوبات شاملة تعاقب المواطنين في المقام الأول، دون معالجة السبب الجذري للصراع. وبالتالي نحن أمام حالة من عدم الاستقرار طويلة الأمد ما لم يتدخل المجتمع الدولي بأسلوب يتسم بالحكمة بعيدا عن تحقيق أي مصالح خاصة.