مع التطور السريع للتكنولوجيا، يبدو أن "الفضاء القريب" أصبح المكان الأكثر استقطاباً لأنماط جديدة من المعارك غير المسبوقة، والتي تتصدر المشهدَ الصراعي فيها مناطيدُ وأجسامٌ مختلفة تغزو العالم، وتستخدم للتجسس العابر للحدود. فمساحة مواجهة المعلومات بين القوى الكبرى لم تعد مقتصرة على الأرض والبحر والارتفاعات المنخفضة، بل وعلى الفضاء القريب الذي أصبح جزءاً مهماً من الأمن القومي للدول. خاصةً وأن تلك المناطيد والأجسام باتت تُزود بمعدات عالية التقنية للمراقبة والاستطلاع، وبمواد وتصميمات وأدوات ملاحة جديدة متطورة تطيل زمن قدرتها على التحليق، وتجعل مهمة اكتشافها صعبة. ما سيجعل منها عاملاً مهماً سيلعب دوراً حيوياً في العمليات القتالية المشتركة المستقبلية التي تدمج الفضاء الخارجي والغلاف الجوي للأرض.
مع إعلان واشنطن منذ الرابع من شهر فبراير الجاري إسقاط عدد من المناطيد فوق أماكن متعددة من البلاد، استعرت الاتهامات المتبادلة مع بكين حول "حرب مناطيد" التجسس الصينية، التي باتت تزداد وبشدة. خاصة وأنها باتت تحلق على ارتفاعات منخفضة تمكن رؤيتها بالعين المجردة، بعد أن كانت سابقاً على ارتفاعات شاهقة. الأمر الذي يجعل منها حدثاً أكثر جرأة، خلافاً لما كان سابقاً، ومعركة تجسس متزايدة العداء في شنها.
يزداد الأمر خطورة مع الخصائص التي باتت تتمتع بها تلك المناطيد، والتي تتسم بوزن يوازي وزن طائرة نفاثة صغيرة، ذات صبغة عسكرية بسبب قدرتها على المناورة مع امتلاكها محركاً صغيراً ومراوح دافعة، تمكنها من التحليق فوق مناطق عسكرية حساسة. يمكن تجهيزها بألواح شمسية تزودها بالطاقة لتشغيل أجهزة جمع المعلومات الاستخباراتية، وبهوائيات ومعدات رصد متطورة قادرة على جمع المعلومات والتقاط إشارات الاتصال للهواتف النقالة والراديو في المناطق العسكرية، وتحديد مواقع الاتصالات. ما يجعلها، بحسب غريغوري فالكو المتخصص في جامعة جون هوبكينز، مصممة لتكنولوجيا المراقبة والتجسس، (بي بي سي، 9 فبراير، 2023). كذلك يعتقد الخبراء أن الصين طورت تصميمات لاستخدام المناطيد كمنصات لإطلاق الأسلحة (الشرق بلومبيرغ، 15 فبراير، 2023). كل ذلك دفع واشنطن إلى اتهام الصين بأنها تستخدم هذه المناطيد كجزء من برنامج رقابة جوي يشرف عليه جيشها، انطلاقاً من جزيرة هاينان التي تضم قاعدة عسكرية بحرية، (بي بي سي، 8 فبراير، 2023).
حرب المناطيد ليست حكراً على الصين، والتي تتهم في المقابل واشنطن بأنها أرسلت مناطيد تجسس لأكثر من عشر مرات خلال عام 2022، بحسب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الصينية الذي أضاف بأن أمريكا هي الدولة الأولى عالمياً في عمليات التجسس والتنصت والرصد. الاتهامات المتبادلة والسجال بين القوتين العظميين المتنافستين انعكس توتراً في العلاقات الدبلوماسية، وأثار المخاوف من تصاعد الصراع بينهما، لاسيما بعد إرجاء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن زيارةً مقررة لبكين في شهر فبراير، كانت تعد الأولى على هذا المستوى منذ أكثر من أربع سنوات. حيث يعتقد درو تومسون الباحث في جامعة "لي كوان يو" في سنغافورة أن العلاقة الأمريكية الصينية قد تتدهور أكثر، (الشرق بلومبيرغ، 15 فبراير، 2023).
لم يقتصر الأمر على الموقف الأمريكي، حيث شددت كل من ألمانيا واليابان مواقفها من الصين، بعد توجيه اتهامات لها بإرسال مناطيد تجسس عليهما، ودعتا إلى اليقظة والحذر الشديد في العلاقات الاقتصادية والسياسية معها، (المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 12 فبراير، 2023). كل ما سبق يثير الكثير من التساؤلات حول التجسس العابر للحدود، لاسيما ذلك المتعلق بشبكة مناطيد التجسس الصينية، ودوافع اعتماد بكين عليها، رغم امتلاكها مركبات فضائية وأقماراً صناعية متقدمة. خاصةً وأن واشنطن أكدت استهداف الجيش الصيني لأكثر من 40 دولة بمناطيد تجسس، (انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 14 فبراير، 2023).
التجسس العابر للحدود
إذا كان التجسس يعني في مفهومه الشائع الحصول على معلومات غير متاحة عامةً، وبطرق متعددة غير شرعية وغير قانونية، إلا أنه بات اليوم يكتسب خطورة كبيرة مع تحوله إلى سمة عابرة للحدود، واستخدامه كجزء أساسي في الحروب الحديثة، وبتقنيات تكنولوجية متطورة. ما يجعل منه خطراً داهماً على كل الأطراف التي تمارسه ضد بعضها البعض. لقد بات اليوم صناعة متطورة ومربحة، تضع قدرات المراقبة والاستخبارات القوية في أيدي مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة سواء العامة منها (حكومات، منظمات)، أو خاصة (أفراد أو شركات خاصة). بهدف التأثير والتجسس الموجه ضد دول أو أفراد.
أدت التطورات الحديثة والعوامل المستحدثة على النطاق الدولي إلى اتساع هذا النوع من النشاط المنظم، وتهيئة الظروف المناسبة له، وفي مقدمتها: العولمة الدولية، وظهور وانتشار الأعمال التجارية التي تقدم عمليات الاستخبارات الخاصة والمراقبة و"العمليات السوداء المتعلقة ببيئة الاتصالات الرقمية. يشير ديفيد كاي أستاذ القانون بجامعة كاليفورنيا، الذي شغل سابقاً منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية التعبير، وماريتي شاك مديرة السياسة الدولية في مركز السياسة الإلكترونية بجامعة ستانفورد والعضو السابق في البرلمان الأوروبي، في مقال نشرته صحيفة الواشنطن بوست إلى أن العالم بات على كارثة مراقبة تقنية، وهناك سيل من الأدوات المشتركة عبر الحدود مع الحكومات التي فشلت في تقييد تصديرها أو استخدامها، (واشنطن بوست، 12 يناير، 2022).
لماذا تلجأ الصين إلى التجسس؟
يشكل حصول الصين على المعلومات التقنية التي تمكنها من تقوية اقتصادها وتحدي النظام الجيوسياسي العالمي هدفاً بالغ الأهمية لها. لذلك تبذل قصارى جهودها، بما في ذلك تلك المتعلقة بالتجسس، للحصول عليها بسرعة نسبية، وتكلفة أقل بكثير (سواء من الناحية المادية أم من حيث الوقت الذي سيستغرقه ذلك). يعتبر نيك مارو من وحدة التحليلات الاستخباراتية التابعة لمجموعة إكونوميست الإعلامية أن "سرقة" الأسرار العملية والصناعية والعسكرية أمر مغرٍ جداً للدول، (بي بي سي، 26 يناير، 2023).
هذا الأمر لا يتعلق بالصين وحدها، فأغلب دول العالم، لاسيما القوية والعظمى منها تلجأ إلى التجسس للحصول على معلومات عن خصومها. تتهم واشنطن الصين بأنها تدير برنامجاً مدروساً وممولاً لاستخدام مناطيد التجسس ذات التقنيات العالية بهدف التجسس عليها وعلى ودول أخرى. يقول جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي إن هذه المناطيد يمكنها التحليق على ارتفاعات عالية يصعب اكتشافها، (دويتيشيه فيله، 13 فبراير، 2023). ي
ُمول هذا البرنامج من قبل وكالات متخصصة ذات إمكانات عالية مادياً وتكنولوجياً وبشرياً، أبرزها وأهمها وزارة أمن الدولة الصينية، التي لديها موارد ضخمة تتيح لها القيام بعمليات التجسس العابر للحدود بمختلف أشكاله وأساليبه. حيث تلعب هذه الوزارة لوحدها دور وكالة الاستخبارات الرئيسية في البلاد، وتكافح التجسس في الداخل، وتقوم بأعمال التنصت الإلكتروني. تتميز بسرية أعمالها، فمقرها غير معروف، ولا تملك موقعاً إلكترونياً عاماً أو مكتباً إعلامياً، ولديها جيش من العاملين فيها يقدر عدده بنحو مائة ألف. الأمر الذي يثير تساؤلات عدة حول الأهداف التي تسعى إليها من خلال عمليات التجسس، لاسيما تلك العابرة للحدود والقارات.
يعتبر جا إيان تشونغ المتخصص في الجامعة الوطنية في سنغافورة أن بكين تسعى من خلال برامجها التجسسية إلى الحصول على المعلومات ذات الخصوصية العالية بالنسبة لأمنها واقتصادها، وإلى اكتساب المزيد من نقاط القوة المتعلقة بالحصول على المعلومات التي تقوي موقفها التفاوضي مع أمريكا. بالإضافة إلى الظهور بموقع قوة أمام جمهورها المحلي، خاصة فيما يتعلق باللحاق بركب التطورات التكنولوجية والعسكرية. يؤكد هذه الأهداف ما صرح به الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ من أن الصين -على مدى السنوات القليلة الماضية- "استثمرت بشكل هائل في القدرات الحربية، بما يشمل أنواعاً مختلفة من الرصد"، بما في ذلك أوروبا، (الشرق بلومبيرغ، 15 فبراير، 2023).
يمكن إجمال أبرز الأهداف الصينية من عمليات التجسس، بناءً على مؤشرات تتعلق بطبيعة الدول التي غطتها شبكة انتشار المناطيد الصينية، وطبيعة المواقع والمناطق التي استهدفتها، بـ:
1- من حيث الدول التي حلقت فوقها: وفقاً للبيانات المتاحة حول حوادث عمليات رصد مناطيد صينية، التي تم الكشف عنها خلال شهر فبراير الجاري، فإنها تشير إلى مساعي الصين لنشر المناطيد في كل من أمريكا الشمالية، وشمال شرق آسيا. الأمر الذي دفع طوكيو للكشف عن تنسيق مشترك وتبادل معلومات مع واشنطن لمواجهة تلك المناطيد، (انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 14 فبراير، 2023). كذلك كان لأوروبا حيز مهم من طيران المناطيد الصينية عبر أجوائها. حيث أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في 8 فبراير الجاري أن أوروبا كانت إحدى القارات التي استهدفتها البالونات الصينية. يأتي ذلك في سياق تصاعد التوترات بين الدول الأوروبية وبكين، واتهام الأخيرة بممارسة أنشطة تجسس ضد الدول الأوروبية. إذ اتهمت ألمانيا الصين بممارسة "التجسس السياسي" ضدها، وبحسب توماس هالدنفانج رئيس جهاز المخابرات الداخلية الألماني فإن بلاده تعرب عن خشيتها من توسيع الصين أنشطة التجسس ضد برلين، ومن تطوير أنشطة تجسس ونفوذ واسعة النطاق، (انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية،14 فبراير، 2023).
2- من حيث طبيعة المواقع التي حلقت فوقها المناطيد الصينية في الدول المستهدفة: يبدو واضحاً أن أبرز الأهداف كانت تتركز على التجسس داخل المجال الجوي على المناطق العسكرية الحيوية بقصد التعرف على المؤسسات والقواعد العسكرية، وقدراتها القتالية واللوجستية. على سبيل المثال، تُظهر خارطة انتشار المناطيد الصينية في أمريكا على أنها كانت تمر فوق مناطق عسكرية حساسة توجد فيها "قواعد جوية وصواريخ نووية استراتيجية"، مثل المناطق الواقعة على الحدود الكندية وولاية مونتانا التي توجد فيها قاعدة عسكرية جوية "مانت هوم" تضم قواعد جوية وصواريخ نووية استراتيجية في منشآت تحت الأرض (صواريخ بالستية عابرة للقارات).
إن قدرة الصين على التجسس، عبر بالوناتها المتطورة، تمكنها فعلياً من الحصول على معلومات تسمح لها بالتطوير الدائم لقدراتها القتالية والعسكرية، لاسيما تلك المضادة للأقمار الصناعية. كما تمنحها ميزة بناء قدرات متعددة المجالات بدءاً من الإبهار والتشويش، إلى القتل الحركي من الأرض ومن الفضاء، وكذلك دمج خدمات الفضاء، مثل استطلاع الأقمار الاصطناعية، وتحديد المواقع، والملاحة، والتوقيت، والاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية، في الأسلحة وأنظمة القيادة والسيطرة.
كل هذا من شأنه وضع القوة الصينية في موقع الند مع أمريكا وعدد من الدول الأوروبية، وبالتالي إلغاء ميزة الجيش الأمريكي (وقوات الناتو) المتعلِّقة بالقدرة العالية على جمع المعلومات الاستخبارية عن الدول الأخرى. كذلك، تمنح المعلومات التي تجمعها بالونات الصين التجسسية إمكانية تطوير ما يُسمَّى بعمليات الفضاء المضاد، كجزء أساسي من استراتيجيتها العسكرية المستقبلية. وفقاً للتقرير السنوي لمكتب الاستخبارات الوطنية الأمريكية الخاص بتقييم التهديدات، فإن "الصين تواصل تدريب عناصرها الفضائية العسكرية، واستخدام أسلحة أرضية وفضائية مضادة للأقمار الصناعية مدمِّرة، وغير مدمِّرة جديدة".
إلى جانب تقنيات الفضاء المضاد المدمِّرة، تسعى الصين إلى تنفيذ برامج موازية لأقمار الاتصالات العسكرية والتجارية، وتمتلك وتُشغِّل حوالي 30 منها في مجالات الاتصالات المدنية، والتجارية، والعسكرية عبر الأقمار الصناعية، بالإضافة إلى أقمار اتصالات عسكرية متخصصة، (بي بي سي، 12 فبراير، 2023). ما يؤكد هذا الهدف، تصريح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في مقابلة مع شبكة (سي بي إس نيوز، 11 فبراير، 2023) أن المنطاد الصيني الذي دخل الأجواء الأمريكية كان يستهدف الوصول للمعلومات عن القدرات النووية الأمريكية. فمسار المنطاد كان يتركز فوق السواحل الشرقية للبلاد على عدد من المواقع النووية السرية.
بالإضافة إلى استهداف جمع المعلومات عن المؤسسات العسكرية في الدول التي انتشرت فوقها المناطيد الصينية، لاسيما أمريكا وألمانيا، وفقاً لـ(المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 2023)، تركز أيضاً على التجسس على الأنشطة الصناعية والتجارية بغية التمدد الاقتصادي، وعلى القطاعات التكنولوجية. تقول كارين جان بيير المتحدثة باسم البيت الأبيض إن "الصين قامت بتطوير أسطول من المناطيد لإجراء عمليات استطلاعية تنتهك سيادة الدول الأخرى"، (انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 14 فبراير، 2023).
ماذا وراء علميات المناضيد الصينية الأخيرة؟
على الرغم من أن المناطيد تُعتبَر من أقدم أشكال تقنيات المراقبة، وعلى الرغم من أن الصين تضخ استثمارات كبيرة وطويلة الأجل في مجال الأقمار الصناعية، والتي تقوم بأنشطة تجسسية، وكذلك في تطوير الأسلحة المُصمَّمة للتشويش على الأقمار الصناعية أو تدميرها، لكي تُقلِّص سريعاً الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة في مجال تكنولوجيا الفضاء، إلا أنها مؤخراً باتت تعتمد على ما يطلق عليه مناطيد التجسس أو أجسام التجسس. حيث توفر هذه البالونات ميزة التقاط الصور التي يصعب الحصول عليها من الأقمار الصناعية، خاصةً ما يدور حول القارة الأمريكية. كما تتيح لها القدرة على جمع البيانات المهمة التي عادةً ما تكون أكثر دقة وحساسية من تلك التي توفرها الأقمار الصناعية، من حيث امتلاكها القدرة على تصوير المنشآت من زوايا مختلفة، وأن تطيل بقاءها فوق المناطق لمدة أطول من الأقمار الصناعية.
كذلك، فإن عملية نشر تلك البالونات أسهل بكثير من نشر الطائرات بدون طيار أو الأقمار الصناعية. كما يمكن نشرها على نحو مفاجئ، بما لا يمنح للدول المستهدفة وقتاً لإخفاء المنشآت المهمة التي تأمل في الحفاظ على سريتها. كذلك هي أقل تكلفة من حيث تصنيعها، وأكثر أماناً من حيث صعوبة كشفها والوصول إليها، ويمكن تزويدها بتقنيات ومستشعرات أشعة تحت الحمراء توفر معلومات غاية في الأهمية والدقة، (الشرق بلومبيرغ، 15 فبراير، 2023).
استناداً إلى ما سبق، فإن هذه المناطيد توفر للصين جملة من المزايا أبرزها إظهار استعدادها الدائم للمنافسة مع واشنطن، وغيرها من الدول المستهدفة لاسيما ألمانيا، باستخدام وسائل رصد بسيطة، ودون المخاطرة بالتصعيد المباشر عبر إمكانية سهولة تقويض اتهامات التجسس التي قد توجه لها، على أقل تقدير على المستوى الرسمي. تماماً كما حدث عقب إعلان واشنطن أن البالون الصيني الذي تم الكشف عنه وإسقاطه في بداية شهر فبراير الجاري، كان بالوناً للتجسس. حيث اكتفت بكين بالرد بأنه كان لأغراض بحثية مناخية، وأنه خرج عن مساره الصحيح بسبب الرياح. كذلك تعزز هذه المناطيد من سياسة رد الاعتبار للصين عبر استعراض قدراتها التكنولوجية المتطورة لاختراق المجال الجوي الأمريكي، كثاني أكبر قوة فضائية في العالم (بعد الولايات المتحدة التي تمتلك قرابة 3400 قمر صناعي)، حيث تمتلك الصين قرابة 500 قمر صناعي، (انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 14 فبراير، 2023).
كذلك تمنح هذه المناطيد بكين القدرة على اختبار منظومات الدفاع الجوي للقوى المنافسة، وخصوصاً الولايات المتحدة. الأمر الذي يساعدها في بناء استراتيجيتها العسكرية، وخصوصاً أن تكلفة المناطيد قد تكون أقل من الوسائل الاستكشافية الأخرى. كذلك تمكنها من الضغط على خصومها، وإرسال رسائل لهم بأنها قادرة دائماً على اختراق مجالهم الحيوي.
أما الميزة الأهم فهي إثبات القدرة الصينية على التنافس في الفضاء القريب الذي بات مؤخراً، خلال العقد الماضي، يحظى بأهمية كبيرة في منظومتها العسكرية نظراً لأهمية السيطرة على المساحة التي تقع فوق ممرَّات الطيران لمعظم الطائرات التجارية والعسكرية، وأسفل منطقة الأقمار الصناعية، التي يُطلَق عليها اسم "الفضاء القريب". فمن وجهة نظر الصين، فإن هذه المنطقة تُعتبَر جبهة جديدة للعسكرة، ومجالاً مهماً للمنافسة بين القوى العسكرية في العالم التي باتت تسعى وبشدة لتعزيز قدراتها في السماء.
إن ما يؤكد ويثبت المستوى الذي وصلت إليه قدرات مناطيد التجسس الصينية هو تمكنها فعلياً، ولأول مرة، من دخول المجال الجوي لأمريكا، وتمكنها من البقاء في الأجواء لمدة تقارب الأسبوع قبل إسقاطها من قبل القوات الجوية الأمريكية في 4 فبراير الجاري.
الخلاصة:
يبدو أن واشنطن باتت تتعامل مع حرب المناطيد الصينية كتهديد بالغ الخطورة عليها، ما قد يدفعها نحو المزيد من الاستخدام المحتمل للقوة تجاه بكين، أو إلى تصعيد نشاطها واهتمامها بإثارة إزعاجها ورفع درجة التوتر معها في ملفات داخلية مثل منطقة تايبيه، لاسيما خلال فترة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وتايوان المقبلتين. الأمر الذي سيضع الصين أمام تصعيد كبير من الضغوط المحلية والخارجية، مثل تصعيد الصراع التكنولوجي. حيث ستعمل واشنطن على تصعيد قيودها وعقوباتها على أكثر القطاعات الصينية التكنولوجية أهمية (الرقائق الصينية) لمنعها من أن تصبح أكثر تهديداً من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية. خاصة وأن هذه الصناعة تستخدم على نطاق واسع في مناطيد التجسس من جهة، وتعد حجر الزاوية في القوة التكنولوجية الصينية، التي تخصص لها ما يقارب من 150 مليار دولار لتطويرها.
فالصين تنظر لهذه التكنولوجيا على أنها قضية جيوسياسية ساخنة بسبب الطلب المتزايد عليها عالمياً. ستقف كل من اليابان والدول الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا، إلى جانب واشنطن في أي تصعيد مع الصين، ما سيمثل حصاراً شبه كامل وضربة محتملة قوية لطموحات بكين التكنولوجية في حرب الرقائق، بل قد يقود ذلك إلى إشعال سباق التسلح التكنولوجي حيث من المتوقع إنفاق عشرات المليارات من الدولارات خلال السنوات المقبلة في اندفاع كبير نحو توسيع الإنتاج، وسط التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية.
كذلك قد تلجأ واشنطن إلى تغيير استراتيجيتها تجاه الصين عبر استبعاد الصدام المباشر معها، نظراً لخطورة تداعياته العسكرية والاقتصادية، إلى العمل على بناء مجموعة إقليمية من الشراكات لكسب الحرب المقبلة ضدها عبر ردعها ومنعها من القيام بأهم وأبرز أنشطتها التي تمنحها القوة الاقتصادية والعسكرية. بالإضافة إلى أن واشنطن لن تتوانى عن استخدام حوادث المناطيد الصينية الأخيرة لإعطاء شرعية لممارسات مستقبلية من شأنها استفزاز بكين، مثل إجراء البحرية الأمريكية وسلاح مشاة البحرية تدريبات مشتركة في بحر الصين الجنوبي. لذلك، من المتوقع أن المستقبل القريب سيشهد مزيداً من حرب المناطيد لإثبات كلا الطرفين قدرته على المنافسة والردع.