في 24 أغسطس ظهر قائد الجيش رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في تسجيلات مصورة وهو خارج مقر قيادة الجيش وذلك لأول مرة منذ بدء الحرب قبل أربعة أشهر.
ظل البرهان منذ اندلاع الحرب يتواجد داخل القيادة العامة للجيش، ويدير شؤون العمليات الحربية من هناك. ويرجع آخر ظهور له إلى 18 يوليو الماضي، إذ وهو يترأس اجتماعاً عسكرياً بمركز القيادة والسيطرة للجيش وسط الخرطوم.
جاء هذا الظهور في الوقت الذي تشن فيه قوات الدعم السريع هجوماً مستمراً منذ أيام على قاعدة سلاح المدرعات في جنوب الخرطوم، وهي القاعدة الرئيسية الوحيدة الأخرى للجيش بعيداً عن مقر القيادة والتي تقول قوات الدعم السريع إنها تحاصرها.
فتحت عودة البرهان للمشهد السياسي الباب مشرعاً للتساؤلات والتوقعات بماهو قادم، فالبعض إعتبر خروج البرهان صفقة وراءها جهات إقليمية ودولية لوقف الحرب، فيما رأى مؤيدون للبرهان فيها انتصار، وأن أول خطوة لقائد الجيش ورئيس المجلس السياسي هي تشكيل حكومة تصريف أعمال.
ورأى مراقبون أن خروج البرهان سيكون في مصلحة الحل التفاوضي، فهو الآن يتمتع بحرية في العمل واتخاذ القرار بشكل أفضل من ظروف الحصار في القيادة، ويحرره من ابتزاز بعض القوى السياسية التي شاركت في الحرب، وخصوصاً الحركة الإسلامية، والتي تحاول فرض رؤاها عليه، ومن ضغوط بعض العسكريين الذين يريدون استمرار الحرب. كما أن الانطباعات الأولى لبعض قيادات الإسلاميين، في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، عكست شكوكاً وتردداً في الحكم على عملية خروج البرهان، وما قد تحمله من صفقات سياسية.
يقول وزير الإعلام السابق فيصل محمد صالح في مقال نشر بصحيفة الشرق الأوسط في 26 أغسطس : ( حقق خروج البرهان، بغض النظر عن الطريقة، نصراً معنوياً للقوات المسلحة المحاصَرة في عدة قواعد، وحمل أملاً يتمناه كثير من السودانيين، بغض النظر عن موقفهم من الحرب ومن سياسات ومواقف البرهان، وهو أن يتوقف الهجوم على مقر سلاح المدرعات وقاعدة سلاح المهندسين بأمدرمان، وتتم المحافظة على توازن القوى الحالي لمصلحة الجلوس للتفاوض بمعنويات معقولة، كما أنه يمثل نصراً عسكرياً تحتاج إليه القوات المسلحة بشدة، في حالة خروجه عنوة ودون صفقة، يعيد لها بعض الثقة المفقودة).
البرهان اعتبر الحديث عن خروجه من العاصمة الخرطوم باتفاق سياسي أو صفقة أو بمساعدة جهة خارجية “مجرد وهم”. جاء ذلك بكلمة ألقاها خلال زيارته قاعدة “فلامينغو” العسكرية بمدينة بورتسودان الاثنين 28 أغسطس، وأضاف: “نحن لا نتفق مع الخونة أو أي جهة ثانية خانت الشعب السوداني”.
حكومة طوارئ
أثارت تسريبات ببدء رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان الذي تمكن من الخروج من مقر القيادة العامة لأول مرة منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل مشاورات مع قادة عسكريين وسياسيين لتشكيل حكومة جديدة أطلق عليها "حكومة تصريف أعمال" جدلاً واسعاً وسط القوى المدنية.
وبدا التذمر من هذه الخطوة واضحاً خاصة من قبل قوى الحرية والتغيير، حيث قال الناطق الرسمي للمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير ياسر عرمان في تغريدة على منصة "إكس" الأحد 27 أغسطس، إن الإخوان ينتظرون البرهان في بورتسودان لتكوين حكومة تصريف أعمال لإطالة أمد الحرب، والاستمرار في نهب المال العام، متسائلاً: هل يلبي رغباتهم على حساب الشعب؟
ولم يقف عرمان على هذه التغريدة، بل أصدرت الحركة الشعبية التي يتزعمها بياناً كشفت فيه أن معلومات مؤكدة حازت عليها أشارت إلى أن خروج قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان قد تم بعملية قامت بها القوات المسلحة، وهو أمر جاء متأخراً بعد ما يقارب خمسة أشهر من الحرب التي وصفها قائد الجيش نفسه بأنها عبثية في أول تصريحاته.
أضاف البيان يجب ألا نغرق في التخمينات والدعاية والدعاية المضادة التي تزدحم بها وسائل التواصل الاجتماعي، وعلينا طرح السؤال الهام: هل سيستخدم خروجه لدفع البلاد نحو وقف الحرب والسلام، ومعالجة الكارثة الإنسانية ووقف انتهاكات حقوق الإنسان، أم سيستخدم لدعم أجندة الفلول والمضي نحو توسيع دائرة الحرب جغرافيا وإطالة أمدها زمانيا؟
رد فعل الدعم السريع
وفي أول بيان له بعد خروج قائد الجيش عبدالفتاح البرهان من مقر القيادة بدا قائد قوات "الدعم السريع" الفريق أول محمد حمدان دقلو، مستعداً للتفاوض مع الجيش حول شكل الدولة السودانية المستقبلية، متجاوزاً الجوانب الفنية لوقف إطلاق النار الدائم، والتي عرقلت جهود وساطة برعاية السعودية والولايات المتحدة.
ورأى حميدتي أن الحرب التي تدور في السودان هي انعكاس أو مظهر من مظاهر الأزمة السودانية المتطاولة، وذلك يستوجب أن يكون البحث عن اتفاق لوقف إطلاق نار طويل الأمد مقروناً بمبادئ الحل السياسي الشامل، الذي يعالج الأسباب الجذرية لحروب السودان".
وبموجب رؤية "تأسيس الدولة السودانية الجديدة"، ألزم حميدتي قوات "الدعم السريع" بالمبادئ التي تم طرحها سابقاً مثل الحكم الاتحادي متعدد الثقافات والانتخابات الديمقراطية والجيش الواحد.
تحديات تواجه البرهان
خرج البرهان من مقر القيادة العامة وهو محاط بانتقادات واسعة وملاحظات سالبة على أدائه العسكري في الحرب، فضلاً عن انتقادات كثيرين لأدائه نظراً إلى الغموض الذي ظل يثيره في إدارة المعارك منذ اندلاعها قبل أربعة أشهر بصورة لم تكن أبداً متناسبةً مع إمكانات الجيش الحربية من جهة ومع طبيعة أدائه في ميدان الحرب. فمن الواضح حتى الآن قوات الدعم السريع تسيطر مواقع إستراتيجية ومنتشرة في معظم مناطق العاصمة الخرطوم.
ومن التحديات التي ترفع عقيرتها في وجه البرهان علاقته بالإخوان وصوتهم المرتفع ومحاولتهم استغلال الظروف الحالية التي يمر بها السودان للعودة مجدداً إلى الحكم، ولم تعد تحركاتهم الأخيرة خافية، بل استغلوا حتى زيارات البرهان لجرحى العمليات بالتركيز على المصابين من كتيبة البراء بن مالك الجهادية ليرسموا بذلك صورة في أذهان السودانيين أنهم حامي الحمى وأن البرهان هو رمز قيادة البلاد. من المؤكد أن مثل هذه التحركات الإخوانية ستهز صورة البرهان والثقة فيه حتى من الدول الداعمة له.
خرج البرهان فيما تزداد كلفة الحرب الباهظة بوطأتها على المدنيين بالخرطوم ودارفور على وجه الخصوص فالحرب لم تحصد الأرواح أو تشرد الملايين، بل دمرت الاقتصاد وجرائها إنهار الوضع الصحي وباتت البلاد مهددة بكوارث وبائية.
سيناريوهات متوقعة
بالرغم من محاولات البرهان نفي علاقته بالإخوان وعدم تأثيرهم على الجيش وتأكيده ذلك في حديثه للجنود بقاعدة (فلامنغو) بولاية البحر الأحمر، إلا أن الشواهد والدلائل كثيرة على هذه العلاقة، ولكن الرجل يحاول (المراوغة) من أجل تمرير أجندتهم بتشكيل حكومة طوارئ تمكنهم من السيطرة على الحكم مجدداً وهذا ما سيدفع قوات الدعم السريع بتشكيل سلطة موازية وستعم الفوضى السودان.
السيناريو الثاني هو أن يحاول البرهان الإبتعاد عن الإخوان صورياً ويشكل حكومة من التكنوقراط وحركات الكفاح المسلح الموقعة على سلام جوبا ويواصل في خطاب القطيعة معهم، ولكن ذلك سيثير التيار المتشدد داخلهم مشاكل عدة وسيعمل على الاطاحة بالحكومة الجديدة.
ولا تواجه حكومة الطوارئ المرتقبة تحديات داخلية، بل خارجية فمصر لديها رأي مغاير، يقول أشرف العشري مدير تحرير صحيفة الأهرام المصرية في لقاء تلفزيوني: (خرج برهان بحثاً عن تسوية سياسية بعد أن فشل الجيش في تحقيق نصر عسكري على مدار 145 يوماً ومصر ستنقل له رفضها أي توجه لتشكيل حكومه تسيير أعمال في بورتسودان).
وبالرغم من أن الوسطاء الإقليميون والدوليون متقبلون في ما يبدو على أن يضطلع العسكريون بدور في الحكومة الانتقالية في المستقبل، لكن سفير الولايات المتحدة لدى السودان جون غودفري وأحد الرعاة الرئيسيين لعملية الانتقال للديمقراطية بعد انتهاء حكم البشير، كتب على منصة "إكس" يقول: "على المتحاربين الذين أظهروا أنهم غير مؤهلين للحكم إنهاء الصراع ونقل السلطة إلى حكومة مدنية انتقالية".
تحدي الحكومة المدنية هو الفيصل لحل أزمة النزاع في السودان ويواجه عراقيل من الاسلاميين وصلت ذروتها بإشعال الحرب وإذكاء نارها ومحاولة العودة على أشلاء الضحايا، ولحد كبير يتفق البرهان معهم في هذا الرأي لرغائب شخصية وتخوفات بأن خروجه خارج كابينة الحكم سيعجل بمحاسبته على جرائم ارتكبت بإقليم دارفور، فضلا عن تحمل وزر مجزرة مقتل الثوار أمام القيادة العامة وغيرها من ملفات الفساد العالقة والتي أوقف سير حركتها داخل أروقة القضاء وأعاد للإسلاميين كل الأموال التي نهبوها طوال نظام البشير والتي تقدر بمليارات الدولارات.
من ناحية أخرى يحفز خروج البرهان ويدفع قوات الدعم السريع لمواصلة القتال، بغية تحقيق نصر عسكري حاسم يعيد الموازنة من جديد لصالحها، ليبقى الأمل الوحيد المرتجى من خروج البرهان هو العمل على وقف إطلاق النار وبدء العملية السياسية فوراً بعيداً عن الإخوان.