مقالات تحليلية

مواقف وتحديات اليمين المتطرف في أوروبا تجاه الحرب في أوكرانيا

12-Sep-2022

وضعت الحرب في أوكرانيا مجموعة من التحديات أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا؛ بسبب العلاقات الجيدة التي أقامتها على مدى سنوات مع موسكو. إذ تشير استطلاعات الرأي إلى رفض أغلبية الناخبين في أوروبا العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فقد يؤثر هذا الرفض الشعبي للحرب بالسلب على وضع هذه الأحزاب التي دعمت في السابق قرارات روسية مثيرة للجدل، على غرار ضم روسيا جزيرة القرم عام 2014. 

وقد ساهمت مجموعة من العوامل في توجه اليمين الأوروبي نحو التقارب من روسيا، أهمها:

1/ الروابط الثقافية المحافظة بين اليمين المتطرف وروسيا، إذ أثنى العديد من اليمينيين المتطرفين على رفض موسكو تقنين زواج المثليين السائد في عدد من دول أوروبا.

2/ دعم روسيا بطرق غير مباشرة بعض الأحزاب اليمينية ماليا، فقد منح أحد البنوك الروسية حزب الجبهة الوطنية الفرنسي قرضا بقيمة 9 مليون يورو، بحسب فرانس 24، نوفمبر 2014. نشير هنا إلى أن بعض الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا طالما اتخذ موقفا عدائيا تجاه روسيا، منها: حزب الفنلنديون الحقيقيون وكتيبة آزوف في أوكرانيا. إلا أننا سنركز هنا على الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع روسيا.

حول الجماعات اليمينية المتطرفة يذكر ديفيد آرت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تافتس بولاية ماساتشوستس الأميركية، في كتاب دليل أكسفورد لليمين المتطرف، الذي نشرته جامعة أكسفورد عام 2018، أن مصطلح "اليمين المتطرف" يشير إلى "نوع معين من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي بدأت في الظهور في أواخر سبعينيات القرن الماضي"، ويوضح قائلا إن "اليمين المتطرف يشمل أي حركة أو حزب سياسي أو جمعية تطوعية تميز نفسها عن اليمين السائد".

بدء استخدام مصطلح اليمين المتطرف للإشارة إلى مجموعة من الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية التي نمت في الدعم منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي. يتشارك اليمين المتطرف الأوروبي عددا من المواقف، تشمل عادة معارضة العولمة والهجرة، وانتقاد التعددية الثقافية، ومعارضة الاتحاد الأوروبي. غالبا ما تقدم هذه الأحزاب نفسها على أنها مناهضة للمؤسسة السياسية "The Establishment"، وخارجين عنها "Outsiders"، على الرغم من نجاح بعض هذه الأحزاب في الوصول إلى مراكز عليا في حكومات بلادهم. علاوة على ذلك، يتميز اليمين المتطرف ببعض المواقف عن اليمين السائد، منها: 1/ المناهضة الشديدة للمهاجرين، لأنهم يعتبرونهم تهديدا على الهوية الوطنية في بلادهم.

2/ تأييدهم لخروج بلادهم عن تحالفات مثل الاتحاد الأوروبي والناتو، لأنهم يعتبرونها تهديدا لاستقلالهم وللسيادة الوطنية. تصاعد موجات اليمين المتطرف في أوروبا في سياق تناوله لأسباب نمو الإقبال على الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة في أوروبا خلال العقد الماضي، يجادل سيزاريو أغيليرا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة برشلونة، بأن الأزمة الاقتصادية التي حدثت في عام 2008 شكلت أحد العوامل الرئيسية في تصاعد الدعم للأحزاب اليمينية المتطرفة في القارة.

أرجع أغيليرا ذلك إلى ما أعقب الأزمة الاقتصادية من تدابير التقشف التي اتبعها الاتحاد الأوروبي والسلطات الوطنية للسيطرة على العجز. وفق ما نشره المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط في تقريره السنوي، عام 2014.

لقد عززت تدابير التقشف التي تم اتباعها في بريطانيا في أعقاب أزمة عام 2008 الاقتصادية من مكانة حزب استقلال المملكة المتحدة (UKIP). في هذا الصدد، وضح تيمو فيتزر، أستاذ الاقتصاد بجامعة وارويك، في دراسة مطولة نشرتها الجامعة عام 2018، العلاقة بين تدابير التقشف في بريطانيا وما تبعها من نمو الدعم لحزب استقلال المملكة المتحدة، ثم ربط زيادة الدعم لهذا الحزب – الذي ظل يدعو إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – بتفوق الأصوات المؤيدة لمغادرة بريطانيا من الاتحاد في استفتاء بريكست.

أولا: وضح فيترز العلاقة بين تدابير التقشف في بريطانيا وما تبعها من نمو الدعم لحزب استقلال المملكة المتحدة قائلا: "إن المناطق الأكثر فقرا هي التي تضررت بشدة من التقشف، حيث يقطنها أكبر عدد من الأشخاص الذين يعتمدون على البرامج الحكومية (التي تم خفض ميزانياتها)".

يضيف: "تشير التقديرات إلى أن حصة حزب استقلال المملكة المتحدة من الأصوات في الدوائر الأكثر تضررا كانت أعلى بمتوسط 3.6% في الانتخابات الأوروبية لعام 2014 وأعلى بنسبة 11.6% في الانتخابات المحلية الأخيرة قبل الاستفتاء (بريكست) – مقارنة بالدوائر الأقل تضررا". ثانيا: ربط فيترز بين زيادة الدعم لحزب استقلال المملكة المتحدة وبين زيادة الدعم لمغادرة الاتحاد الأوروبي، مبينا أن مجموع الأصوات المؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي تفوقت بهامش 3.8%، وكان الدعم لحزب استقلال المملكة المتحدة (المؤيد بقوة لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي) في الانتخابات المحلية الأخيرة قبل الاستفتاء قد زاد بنسبة 11.6%. استنتج فيترز من هذه المعطيات أن دعم المغادرة في عام 2016 كان يمكن أن يكون أقل بنسبة 6%، لو لم تحدث صدمة التقشف، وهو ما كان من شأنه أن يقلب نتيجة الاستفتاء في صالح الأصوات المؤيدة للبقاء. هذا التأييد للانفصال من الاتحاد الأوروبي السائد بين معظم الأحزاب اليمنية المتطرفة في أوروبا، هو أحد أهم أسباب دعم روسيا لهذه الأحزاب. نسترسل في هذا الصدد بقراءة مختصرة حول دوافع روسيا لدعم اليمين المتطرف في أوروبا. دوافع روسيا لدعم اليمين المتطرف في أوروبا يمكن تلخيص الدوافع الروسية وراء دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا إلى دافعين رئيسيين:

الأول: يتمثل فيما ذكرنا أعلاه، وهو موقف هذه الأحزاب من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. الثاني: ينطلق من سعي موسكو إلى رسم صورة أوروبا مفككة وغير موحدة في موقفها تجاه روسيا، عن طريق إظهار دعم أحزاب سياسية أوروبية لسياساتها، ونتناول أدناه هذه الدوافع كما يلي:

أولا:نشير هنا إلى أن قومية الأحزاب اليمنية المتطرفة كما ذكرنا أعلاه، يدفع هؤلاء الإيمان بالقومية إلى اتخاذ مواقف معارضة للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وعادة ما يدعون إلى الخروج عن هذه التحالفات؛ لأنهم يروا فيها تهديدا للسيادة الوطنية. على سبيل المثال: في فرنسا انتقدت مارين لوبان رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي حلف الناتو في السابق، وتعهدت بسحب فرنسا من الحلف في حال فوزها في الانتخابات القادمة. وتصب مثل هذه المواقف في صالح موسكو التي ترى في حلف الناتو وتوسعه تهديدا على أمنها القومي. أضف على ذلك، حالة تعددية الأطراف في الاتحاد الأوروبي، وهي تمثل مشكلة بالنسبة لروسيا. إذ تفضل موسكو التعامل مع كل دولة بشروطها الخاصة، ولا تريد أن تتأثر علاقاتها ببعض الدول في أوروبا بعلاقاتها مع دول أخرى في القارة.

على سبيل المثال، لا تريد روسيا أن تؤثر علاقتها ببولندا ودول البلطيق على علاقاتها مع دول مثل ألمانيا وفرنسا.

ثانيا:الدعم الصريح الذي تظهره بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا لسياسات روسيا هو الأكثر إثارة للجدل في أوروبا – مثل ضم روسيا جزيرة القرم عام 2014 – وهو ركن أساسي من أركان العلاقة بين الكرملين وهذه الأحزاب. ففي الوقت الذي اتحدت معظم الأحزاب السياسية الرئيسية في أوروبا ضد ضم موسكو لجزيرة القرم، دافع بعض قادة الأحزاب اليمينية المتطرفة عن قرار موسكو.

حاليا، انتقد قادة هذه الأحزاب العملية العسكرية في روسيا، إلا أن بعضهم حمل حلف الناتو وإجراءات توسعه شرقا مسؤولية الحرب في أوكرانيا، فيما أكد البعض الآخر رفضهم توقيع عقوبات اقتصادية على روسيا بحجة تداعيات هذه العقوبات على بلادهم. على سبيل المثال، أكدت لوبان أنها لن تدعم أي عقوبات على روسيا قد تتسبب في رفع تكاليف المعيشة للشعب الفرنسي.

قراءات وتحليل قارن أندرو فايس، الخبير في الشؤون الروسية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، في دراسة نشرتها المؤسسة، 27 فبراير 2020، بين الوضع مع روسيا واليمين المتطرف في أوروبا وعلاقات الاتحاد السوفيتي، مع الأحزاب الشيوعية الأوروبية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. يقول إن: "الأحزاب الشيوعية الأوروبية تلقت الدعم من الاتحاد السوفيتي أثناء سعيها لتحقيق هدفها المتمثل في الوصول إلى السلطة، لكنها غالبا ما تبنت مواقف لأغراض سياسية داخلية تتعارض مع رغبات الاتحاد السوفيتي".

فايس استشهد بتقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية المعنون: "السياسة السوفيتية والشيوعية الأوروبية"، أكتوبر 1976 (رفعت عنه السرية عام 1998)، والذي خلص إلى أنه في حين أن السوفييت يمكن أن يحافظوا على تماشي الأحزاب الشيوعية الأوروبية معهم حول القضايا "الهامشية"، لكنهم فشلوا في ذلك عندما كانت "المصالح الحيوية" لتلك الأحزاب على المحك. يساعدنا هذا الحديث في تكوين صورة واضحة لمستقبل الرؤى الأيدولوجية للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، بالخصوص في ظل الحرب في أوكرانيا. فمن جهة، تشير نتائج استطلاعات الرأي إلى رفض أغلبية الناخبين في أوروبا العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، ما من شأنه أن يوجه ضربة قاسية للسياسيين اليمينيين الذين تربطهم علاقات جيدة مع الكرملين. هذا ما دفع معظم هؤلاء السياسيين إلى انتقاد العملية العسكرية الروسية.

من جهة أخرى، في حال استمرار الحرب وفشل القيادات السياسية في أوروبا إلى التوصل إلى حل للأزمة، قد يصب ذلك في مصلحة الأحزاب اليمنية المتطرفة. هنا يمكن لسياسي اليمين المتطرف أن يستفيدوا من استياء الناخبين من ارتفاع تكلفة المعيشة، إذا تمكنوا من التركيز على توجيه اللوم على القادة السياسيين الحاليين، وهو نهج كثيرا ما سلكه اليمين المتطرف في أوروبا، كما ذكرنا في مثال حزب استقلال المملكة المتحدة واستفتاء بريكست. فضلا عن ذلك، في حال فشل القيادات السياسية الحالية في حل الأزمة، يمكن أن تخدم علاقات هذه الأحزاب بموسكو مصالحها الخاصة، إذ يمكنهم أن يقدموا أنفسهم على أنهم الأجدر على الوصول إلى تسوية للأزمة بسبب علاقاتهم مع الكرملين وانتهاجهم نهج براغماتي في تعاملهم معه. وقد ينجح سياسيو اليمين المتطرف في إقناع الناس بأن هذا النهج يصب في مصلحة البلاد، التي من المرجح أن تعاني من استمرار الحرب والعقوبات المفروضة على موسكو.

نجاح هذا السيناريو يتوقف على استمرار الأزمة وازدياد غضب الناخبين من غلاء الأسعار الناتجة عن العقوبات. أما في حال نجاح القيادات السياسية في حلحلة الأزمة قبل تفاقم تداعيات العقوبات الاقتصادية على روسيا في أوروبا، سيسحب ذلك ورقة استياء الناخبين من غلاء الأسعار من أيدي الأحزاب اليمينية المتطرفة. عليه، يمكننا استنتاج أنه بالرغم من تداعيات الحرب في أوكرانيا السلبية على الأحزاب اليمينية المتطرفة التي أقامت علاقات جيدة مع الكرملين في ظل معارضة الرأي العام بأغلبية كبيرة على الحرب، لا يزال بإمكان الأحزاب اليمينية المتطرفة أن تجد صدى لدى الجمهور مع مرور الوقت وتصاعد تداعيات العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا وتنامي استياء الناخبين.

في هذه الحال، يمكن للأحزاب اليمينية المتطرفة إعادة تسويق علاقاتهم بالكرملين كنقطة إيجابية؛ لأنها تجعل منهم الخيار الأفضل للتفاوض مع موسكو والتوصل إلى حلول للأزمة. أضف إلى ذلك، أن انتقادهم العملية العسكرية الروسية الجارية في أوكرانيا يمنحهم فرصة إضعاف الانتقادات والاتهامات الموجهة لهم بكونهم تابعين للكرملين. بذلك، يمكن للأحزاب اليمينية المتطرفة إعادة خلق صورة جديدة لأنفسهم على الساحة السياسية، تقدمهم على أنهم دبلوماسيين يتعاملون ببراغماتية مع موسكو، فيما يصب في مصلحة بلادهم.

530