مقالات تحليلية

واشنطن تعود إلى كابول.. نقد استراتيجية العزلة الأميركية على أفغانستان

09-Jan-2024

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية مؤخرا مقالا رأي كتبته، كاثي غانون مديرة أخبار لدى وكالة أسوشيتدبرس، غطت أفغانستان لـ 34 سنة، شهدت خلالها الحروب التي مرت بها البلاد في العقود الأخيرة، كما غطت الانسحاب الأميركي "الفوضوي" من أفغانستان سنة 2021. مقال كاثي نشر بعنوان " حان الوقت لعودة أمريكا إلى أفغانستان" انتقدت من خلاله السياسة الأميركية تجاه أفغانستان منذ أغسطس 2021.

في الواقع لا تحتل اليوم أفغانستان مكانا بارزا ضمن الملفات الدولية الملحة، حيث غطت حرب روسيا وأوكرانيا، ثم الحرب في غزة على المناقشات حول أفغانستان. بشكل أوضح، ساعدت الحروب الحالية في إعطاء أميركا والقوى الدولية "الذريعة" المناسبة لتجنب المناقشات الصعبة والمعقدة حول أفغانستان، في وقت عكس انسحاب إدارة بايدن من البلاد ألا خطة لدى الأميركيين لليوم التالي في أفغانستان. ومع توظيف خاطئ مجددا للتفكير بالتمني، أملت واشنطن في أن الضغط الاقتصادي والشرعية الدولية واستراتيجية مكافحة الإرهاب عبر الأفق، ستحقق أهداف مكافحة الإرهاب والضغط على طالبان لتنفيذ المطالب الدولية.


الاستفادة من التاريخ

هذه الخطة الأميركية أعادت مجددا التذكير بـ "الكيفية التي لا يستفيد فيها الأميركيون من التاريخ". ففي حين فاوضت واشنطن قادة المكتب السياسي لطالبان الذين لديهم بعض المقاربات البراغماتية، فقد قامت أميركا نفسها بالمساهمة في إقصائهم وتحييدهم من قبل القادة الأكثر تشددا في قندهار. 

فالضغط الاقتصادي والعزلة التي فرضتها أميركا على طالبان، قللت من قيمة هؤلاء القادة في كابول وجعلت من الفصيل الأكثر تشددا يهمشهم. وهو ما فعلته أميركا عندما فاوضت الإصلاحيين والمعتدلين في إيران ثم قامت هي نفسها بمساعدة المتشددين في إقصائهم عندما انسحب ترمب من الاتفاق النووي وفرض أشد حزمة عقوبات على طهران على الاطلاق. 

كذلك جعلت استراتيجية العزلة الأميركية التي فرضتها على أفغانستان، من قادة طالبان الأكثر تشددا يتراجعون عن وعودهم التي قدموها غداة سيطرتهم على كابول.. وبشكل تصاعدي انقلبت طالبان على وعودها، ومجددا فرضت القوانين المجحفة في حق تعليم البنات، وحق المرأة في العمل.. واسترسل المتشددون هناك في فرض قوانين صارمة جدا، في وقت لا تملك القوى الدولية ولا أميركا نفسها أي ورقة ضغط يمكن توظيفها لجعل طالبان تغير أو تعدل من سياساتها، رغم أن الحركة الأفغانية كانت قد أبدت بعض القبول للتسويات في بداية حكمها.

الأمر الأغرب أن أميركا استمرت في تقديم المساعدات الإنسانية، أي أن تهديد المجاعة الذي كان يعتقد بأنه سيجعل طالبان تقبل بالتسوية الولايات المتحدة تساهم في تخفيف وطأته. من جهة أخرى ساهمت واشنطن وبريطانيا ودول غربية أخرى في تفريغ أفغانستان من العقول والخبرات بسبب سياسة اللجوء الانتقائية للأفغان. وهو ما يقلل من القدرة على بناء المؤسسات الأفغانية، في ظل عدم تمتع طالبان بأي خبرة في الحوكمة، والاستراتيجيات الأمنية والعسكرية النظامية، في وقت تواجه فيه الحركة خطرا حقيقيا من قبل تنظيم داعش خراسان الإرهابي.


مرة أخرى تفشل الفكرة

تقول صاحبة مقال الـ نيويورك تايمز، كاثي غانون "لم تركز أميركا على أفغانستان في السنوات التي أعقبت الانسحاب السوفييتي في عام 1989، عندما أغلقت سفارتها. وقد ترك هذا واشنطن عمياء عما كان يتشكل هناك في الفترة التي سبقت 11 سبتمبر. وعلى مدى العامين الماضيين، اتبعت واشنطن سياسة مماثلة، متجنبة العودة الدبلوماسية إلى كابول، معتقدة أن ذلك يمكن أن يضغط على قادة طالبان لتعليم الفتيات وتخفيف القيود المفروضة على النساء مع وعد بالاعتراف الدولي. ومرة أخرى، تفشل هذه الفكرة.

التقى مبعوث واشنطن الخاص، توماس ويست، وهو الوجه العام للسياسة الأمريكية في أفغانستان مع طالبان في قطر لمناقشة موضوعات مثل تعليم الفتيات والمساعدات الإنسانية، ويعقد اجتماعات مع زعماء من جيران أفغانستان وزعماء الشرق الأوسط وأوروبا. لكنها مشاركة عن بعد، ولا توفر هذه الاستراتيجية صوتا إلا لعدد قليل من الأفغان: النخبة في كابول، والمغتربين، والمسؤولين الحكوميين السابقين. وهذا يعني أن المسؤولين الأمريكيين لا يسمعون أو يرون أو يفهمون ما يحدث على الأرض."

إن التوصية التي قدمتها صاحبة المقال ملحة وضرورية، لاسيما وأن أميركا تحديدا تستطيع تحقيق ما لا تستطيع أي قوة أخرى تحقيقه في أفغانستان، وبيدها أوراق كثيرة، مثل الشرعية الدولية، وأموال أفغانستان المجمدة -حوالي 9 مليار دولار-... إلا أن واشنطن لا تبد مستعدة لذلك، فهي تفضل أن تتحمل القوى الأسيوية المسؤولية الأكبر في الملف الأفغاني. القوى الأسيوية هذه بدلا من انخراط أكبر تعمل على تسويات جانبية تحفظ مصالحها وتقلل من المخاطر عليها، مثل الصين التي أبدت اهتمامها بقطاع المعادن في البلاد، واستعدادا لضخ استثمارات كبيرة بشرط سيطرة طالبان على حركة أوزبكستان الإسلامية الإرهابية.

روسيا من جهتها مشغولة بحربها في أوكرانيا، والهند تدرس خياراتها، فيما تتسبب حركة تحريك طالبان في تزايد الحساسية بين كابول وإسلام آباد. وفي نفس المشهد تتجه المزيد من الجماعات الإسلاموية والمتطرفة إلى أفغانستان، وتعتبرها ملاذا آمنا في ظل الفوضى والجغرافيا المساعدة على نمو الإرهاب من جهة وعزلة طالبان التي ترمي بها أكثر إلى الجماعات الخبيثة مثل تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي الذي تقول التقارير بأنه ينوي التمركز في أفغانستان بعد طرده من ملاذاته الآمنة في المنطقة. 

بالمحصلة، قد تحاول الولايات المتحدة التعريج على الملف الأفغاني قليلا في سنة الانتخابات، لكن لا خطة لديها، ولا مؤشرات عن نية في وضع خطة، ما سيبقي أفغانستان قنبلة موقوتة، مع فرضية قوية جدا تقول بأن "التاريخ سيكمل دورة إعادة نفسه وصولا إلى الذروة السابقة المتمثلة في تفجيرات 11 سبتمبر 2001."


467