مقالات تحليلية

مداخل التعامل الإيراني مع التغيير الكبير في سوريا

30-Dec-2024

حذرت الجامعة العربية من إشعال الفتنة في سوريا، ورفضت التصريحات الإيرانية المُزعزعة للسلم الأهلي في سوريا، بعد إطاحة حليفها بشار الأسد. وقالت الجامعة العربية "تتابع الأمانة العامة للجامعة العربية بقلق الأحداث التي تشهدها عدة مدن ومناطق سورية بهدف إشعال فتيل فتنة في البلاد".

وتابعت "وفي السياق ذاته، ترفض التصريحات الإيرانية الأخيرة الرامية إلى تأجيج الفتن بين أبناء الشعب السوري، وتعيد تأكيد ما جاء في بيان العقبة للجنة الاتصال حول سوريا من ضرورة الوقوف إلى جانب الشعب السوري الشقيق وتقديم كل العون والإسناد له في هذه المرحلة الدقيقة، واحترام إرادته وخياراته".

 

محاولة إيرانية لاستيعاب التغيير

فمع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، أظهرت إيران ردود أفعال متناقضة إلى حد ما، حيث تراوح موقفها بين محاولة التهدئة مع السلطات الجديدة وإظهار القدرة على التأقلم مع الواقع الجديد في سوريا، ليتغير موقفها فيما بعد وتُظهر أنها على عداء مع هذه السلطات وترسل رسائل بأنها تعمل على تغيير مسار الأحداث السورية، وهذا ما يعبر عن تبادل للأدوار بين مؤسساتها الدبلوماسية والاستخباراتية والعسكرية.

حاولت إيران في البداية إنقاذ بعض نفوذها لدى السلطة الجديدة في سوريا في الوقت الذي تعاني فيه طهران من خسارتها المفاجئة للسلطة الحليفة في دمشق بعد انهيار نظام بشار الأسد.

كخطة طارئة وإسعافيه تريد إيران إنقاذ بعض النفوذ في دمشق، ويصر الدبلوماسيون الإيرانيون على أنهم لم يكونوا متمسكين بالأسد، وأنهم أصيبوا بخيبة الأمل إزاء رفضه التسوية. وفي مقابلة أجريت معه بعد سقوط نظام الأسد، قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي: "لقد توصلنا منذ فترة طويلة إلى استنتاج مفاده أن استمرار الحكم في سوريا سيواجه تحدياً أساسياً، وكان من المتوقع أن يُظهر المسؤولون الحكوميون مرونة تجاه السماح للمعارضة بالمشاركة في السلطة، لكن هذا لم يحدث".

 وأضاف: "طهران كانت على الدوام على اتصال مباشر مع وفد المعارضة السورية، ومنذ عام 2011، كنا نقترح على سوريا بدء محادثات سياسية مع مجموعات المعارضة غير المرتبطة بالإرهاب". في الوقت نفسه، أصر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية على أن بلاده دخلت سوريا عام 2012 بناء على طلب الأسد للمساعدة في هزيمة تنظيم داعش. وقال: "كان وجودنا استشارياً ولم نكن في سوريا للدفاع عن مجموعة أو فرد معين. كان الأمر المهم بالنسبة لنا هو المساعدة في الحفاظ على سلامة الأراضي والاستقرار في سوريا".

 

الاصطدام بالوقائع على الأرض

التقييمات الإيرانية الأولية بشأن القدرة على التماهي مع الوقائع على الأرض وإقامة علاقات مع السلطة الجديدة تشير إلى أن طهران لن تتمكن من تطبيقها عملياً، حيث بقيت إيران واحدة من الدول القليلة التي ينتقدها رئيس الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع. كما أن غالبية السوريين وخاصة الجمهور المؤيد للسلطة الجديدة ينظرون إلى إيران على أنها طرف معادٍ لهم وأنها شريكة في الانتهاكات بحقهم سواء فيما يتعلق بالقصف على المدن السورية أو عبر إدارة العمليات العسكرية وحماية النظام السوري طوال السنوات الماضية من الانهيار.

نتيجة لذلك بدأت التصريحات الإيرانية تتغير تجاه السلطات الجديدة، ويمكن أن تُفهم غالبيتها بأنها موجهة بشكل غير مباشر إلى تركيا حيث ترى طهران أن أنقرة قد خدعتها وغدرت بها، وقال المرشد الأعلى علي خامنئي، إن دولة مجاورة لسوريا أدّت دوراً واضحاً "في تشكيل الأحداث وتواصل القيام بذلك الآن"، كما نشرت وكالة أنباء فارس ملصقاً يظهر زعيم "هيئة تحرير الشام" في تحالف مع رجب طيب أردوغان وبنيامين نتنياهو وجو بايدن، وبدوره أشار محسن بهاروند، السفير الإيراني السابق لدى المملكة المتحدة، إلى أن حكومة دمشق الجديدة قد تجد نفسها تعتمد بشكل مفرط على تركيا، وقال: "إذا حاولت الحكومة المركزية في سوريا تعزيز سلطتها وسيادتها من خلال التدخل العسكري والمساعدة من الدول الأجنبية -بما في ذلك تركيا- فإن سوريا أو أجزاء رئيسة منها، سوف تحتلها تركيا، وستدخل أنقرة في مستنقع ستتكبد فيه تكاليفَ بشريةً واقتصاديةً باهظةً".

وقال المرجع الديني ناصر مكارم الشيرازي: "يجب أن نتابع القضية السورية بالأمل ونعلم أن هذا الوضع لن يستمر، لأن حكام سوريا الحاليين لن يَبقَوْا متحدين"، كما توقعت صحيفة "جافان" المحافظة أن "تنتهي فترة شهر العسل الحالية في سوريا بسبب تنوع الجماعات السلفية والمشكلات الاقتصادية وانعدام الأمن وتنوع الجهات الفاعلة".

 

تلويح إيراني بالقدرة على التغيير

يبدو أن إيران فعلاً راهنت في البداية على بعض المعطيات التي توقعت أنها ستساعدها على نسج علاقات علنية ومباشرة أو غير علنية مع السلطات السورية الجديدة، حيث كانت ترى أن هذه السلطات لن تحظى بالاعتراف الدولي بسبب أن رئيسها والكيان العسكري الرئيس الذي يعتمد عليه وهو "هيئة تحرير الشام" ما زالا على قائمة الإرهاب.

كما توقعت طهران أن الدول العربية ستتخذ موقفاً حازماً ورافضاً لوجود هذه السلطة في دمشق، وبالتالي فإن هذه السلطات ستبحث عن حلفاء سياسيين واقتصاديين وعسكريين، ونتيجة لعدم وجود خيارات لها فإنها ستكون مضطرة إلى التعاون مع إيران، كما أن الأخيرة رأت أن السلطة الجديدة ستحاول التقرب من طهران نظراً إلى أهميتها الإقليمية، إلا أنه وفي الواقع رأت إيران أن الوفود الغربية والإقليمية والعربية تتوافد بشكل شبه يومي إلى دمشق لإقامة علاقات مع السلطة فيها؛ ونتيجة لذلك رأت طهران أنه لا إمكانية لإحداث هذا التقارب الكبير مع السلطات الجديدة، خاصة أن الشرع وخلال أكثر من حديث إعلامي انتقد سياسات طهران فيما يتعلق بالملف السوري، وحتى ملفات المنطقة عامة.

نتيجة لذلك اتجهت إيران للبحث عن خيارات تمكنها من الضغط على دمشق والعمل بشكل فعلي على إحداث تغيير في سوريا ضد هذه السلطات والنفوذ التركي فيها، وفي هذا السياق صرح المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، بتاريخ 22 ديسمبر، بأن الولايات المتحدة تسعى من خلال مخططاتها في سوريا لنشر الفوضى وإثارة الشغب لفرض هيمنتها على المنطقة، متوقعاً أن تخرج ما وصفها بـ"مجموعة من الشرفاء" لتغيير الوضع الجديد وإخراج ما وصفهم بـ"الثوار" من السلطة.

وبدوره قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بتاريخ 25 ديسمبر، إن "سوريا تواجه مستقبلاً غامضاً بعد الإطاحة مؤخراً بالرئيس السوري بشار الأسد الذي حكم البلاد فترة طويلة" كما قال محسن رضائي، عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، بتاريخ 26 ديسمبر، إن "الشباب والشعب السوري المقاوم لن يبقى صامتاً أمام الاحتلال الأجنبي والعدوان والشمولية الداخلية لجماعة ما"، وأضاف :"في أقل من عام سيُعيدون إحياء المقاومة في سوريا بشكل مختلف وسيُبطلون المخطط الشرير والمخادع لأمريكا والكيان الإسرائيلي ودول المنطقة".

ما يمنح هذه التصريحات أهمية، أنها سبقت بأيام قليلة اندلاع تظاهرات وحالات اعتصام من قبل الطائفة العلوية في مدن الساحل السوري وحمص ضد الإدارة السورية الجديدة، وبالتالي يمكن أن يُفهم ذلك على أن إيران تقف وراء هذه التحركات؛ وهذا ما دفع الإدارة السورية إلى الرد وتوجيه أصابع الاتهام إلى إيران، فقد وجه وزير الخارجية السوري الجديد أسعد حسن الشيباني تحذيراً لإيران بشأن بث الفوضى في سوريا واحترام سيادة البلاد، وقال الشيباني في منشور على منصة إكس "يجب على إيران احترام إرادة الشعب السوري وسيادة البلاد وسلامتها، ونحذرهم من بث الفوضى في سوريا، ونحملهم كذلك تداعيات التصريحات الأخيرة"، وذلك في إشارة إلى تصريحات المرشد الإيراني ووزير الخارجية.

وحتى إن لم يكن هناك أي دور مباشر في تحريك إيران لهذه التحركات، فإن الكثير من الضباط الذين كانوا يخدمون لدى النظام السوري السابق وقادة المليشيات المحلية ما يزالون في بعض الأحياء ويمتلكون السلاح، وكانت لهم علاقات قوية مع ضباط وقادة إيرانيين، وبالتالي فإن لإيران القدرة على التواصل معهم بالإضافة إلى إمكانية التواصل مع رجال الدين العلويين والشيعة في الساحل السوري وحمص حيث كانت إيران تقدم الدعم المادي لهم وللمقارّ الدينية التي كانوا يديرونها، وبالتالي فإن إيران يمكن أن تستغل الأقلية العلوية التي ترتبط بالشيعة لإظهار أنها تمتلك أوراق قوة في سوريا وستستخدم هذه الطائفة وما تعانيه لممارسة الضغط الإعلامي والسياسي والتحريض الطائفي لإبقاء هذه المنطقة غير مندمجة في المجتمع السوري وأي سلطة سورية في المستقبل، وستعمل في المرحلة المقبلة على البحث عن خيارات تسمح لها بتقديم الدعم المالي والعسكري لها.

 

خلاصة ختامية:

ستعمل إيران خلال الفترة المقبلة على إستراتيجية تضم مسارين: الأول، تقوده وزارة الخارجية والرئاسة الإيرانية ويقوم على محاولة التهدئة مع السلطة الجديدة وإقامة يمكن من علاقات سياسية واقتصادية وأمنية، ولا يمنع أن يكون هناك نوع من الانتقاد المتبادل بين السلطات السورية الجديدة والخارجية والرئاسة الإيرانية.

أما المسار الثاني فسيقوده المرشد الإيراني والحرس الثوري والاستخبارات ورجال الدين والمؤسسات المعنية بالتغلغل الثقافي والطائفي في الخارج كوزارة الثقافة وجامعة المصطفى وغيرها، ويقوم هذا المسار على العمل بشكل مكثف على محاولة التواصل مع الطائفة العلوية والشيعية عامة في سوريا والاعتماد بشكل رئيس على الساحل السوري من خلال استقطاب الشبان ورجال الدين، ومحاولة تجنيد رجال أعمال وشخصيات اجتماعية واقتصادية يسهل عليها الحركة وتكون قادرة على نقل الدعم المالي إلى الساحل السوري من طهران أو العراق أو لبنان أو حتى من دول إقليمية أخرى. 

193