مقالات تحليلية

محيط جغرافي ملتهب يرسم حالة التحديات الأمنية التي تواجهها مصر

04-Jan-2024

تتميز الحالة المصرية ببيئة تهديد معقدة ومتغيرة جيوسياسيا، فالوضع في شبه جزيرة سيناء المتأثر بالحرب في غزة، والحرب في السودان جارتها الجنوبية، والمناطق الحدودية الغربية في ليبيا، كلها تعرض مصر لعدم الاستقرار، فضلا عن تأثير كل ذلك على الأمن البحري، في شرق مصر وشمالها. فلم يحدث في أي وقت من الأوقات في تاريخ مصر الحديث، أن صار محيط مصر ملتهبا إلى هذا الحد، وكل حدودها مع جيرانها بها هذه الدرجة من التهديدات والتحديات. 

تحديات الأمن البحري

ليس بخاف أن التهديدات الأمنية في البحر الأحمر، لها آثار كبيرة على المصالح الوطنية للبلاد، ويعود ذلك إلى اعتماد الدولة بشكل كبير على قناة السويس في الإيرادات. ومن ثم، فإن أي تعطيل فيها سيكون له تأثير مباشر على الاقتصاد، مما يقوض استقرار البلاد وأمن أهلها.

لم تكن حرب غزة هي السبب الوحيد الذي دفع الحوثيين في اليمن إلى تهديد أمن البحر الأحمر، حيث يرى الدكتور "حمدي عبد الرحمن حسن" أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة، في مقاله المنشور على موقع مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية في يونيو الماضي، أن أمن منطقة البحر الأحمر أولوية في سياسة مصر، لا سيما في ظل استغلال الأراضي اليمنية لاستهداف دول الجوار، وعرقلة حرية الملاحة في مضيق باب المندب. يأتي ذلك في ظل تنافس العديد من القوى الدولية على الاستفادة من ثروات البحر الأحمر، كما تتزايد رغبة الشركات العالمية في بناء شبكات لكابلات الاتصالات تمر به، فيما عرف بمشروع "إفريقيا 2" الذي يخدم حوالي 16 دولة إفريقية، فضلا عن كابل "بلو رامان" الذي يربط بين الهند وعمان والسعودية وجيبوتي، الأردن وإسرائيل وإيطاليا، وهي مشروعات تتطلب التنسيق والتعاون بين الدول المطلة على البحر الأحمر، فكانت اتفاقية الدول المتشاطئة التي تم إبرامها في ديسمبر 2018، وبموجبها تأسس كيان يهدف إلى حماية حركة التجارة والملاحة العالمية والدولية، يضم سبع دول، هي السعودية ومصر والسودان وجيبوتي واليمن والصومال والأردن.

يذكر الخبير الاستراتيجي اللواء "محمد عبد المقصود" في مقاله على موقع "مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار"(21 يناير 2021) أن السبب الرئيسي في توقيع هذه الاتفاقية يعود إلى محاولة توجيه الدول العربية استراتيجياتها لجعل منطقة البحر الأحمر بحيرة عربية آمنة، والعمل على تحجيم النفوذ الإيراني وتدخله السلبي في دول الإقليم.

ولا يمكننا الجزم بأن تهديد جماعة الحوثي للسفن الإسرائيلية والأميركية في البحر الأحمر هو محاولة لنصرة أهل غزة في حربهم، بقدر كونه رغبة إيرانية في تهديد أمن البحر الأحمر وتقويض حركة الملاحة فيه. وجعل ذلك بريطانيا تفكر بالتنسيق مع الولايات المتحدة في عمل حلف دولي يهدف إلى القضاء على الحوثيين في سيناريو يشبه ما حدث في أفغانستان، حسب ما نشرته صحيفة "التايمز" البريطانية في 31 ديسمبر الماضي. 

وبالإضافة إلى ذلك، فإننا نرى أن عدم الاستقرار في الصومال يشكل أيضا تهديدا أمنيا لمصر، فقد كانت حركة الشباب، مسئولة عن العديد من الهجمات على السفن. ولا شك في أن أي اضطراب في التجارة البحرية في المنطقة يمكن أن يؤثر على وصول مصر إلى الموارد والأسواق الرئيسية. كما أثرت القرصنة على صناعة الشحن في مصر، حيث إنها تزيد من تكلفة شحن البضائع وتشكل خطرا على سلامة البحارة، وردا على هذا التهديد، تقوم مصر بالمشاركة في الجهود الدولية لمكافحة القرصنة.

وكان رئيس هيئة قناة السويس، الفريق أسامة ربيع، قد أعلن لصحيفة الشرق الأوسط في 27 ديسمبر، أن 55 سفينة حولت مسارها للعبور عبر طريق رأس الرجاء الصالح بعد حرب غزة، ويعد مؤشرا سلبيا وتهديدا أمنيا يواجه مصر. ومن أجل مواجهته اتخذت عدة إجراءات لتعزيز قدراتها البحرية، حيث عززت وجودها البحري، وطبقت إجراءات أمنية في موانئها. 

التحديات الأمنية في الحدود الشرقية

على الرغم من أن الصراع بين إسرائيل وحماس قد أدى إلى تصاعد التوترات الجيوسياسية في المنطقة كلها، لكن من غير المرجح أن يؤثر الصراع على مصر بشكل مباشر. ومع ذلك، أعربت السلطات المصرية عن مخاوفها من أن تؤدي الأزمة الإنسانية في غزة إلى أزمة لاجئين في البلاد. كما شعرت بالقلق من عودة الإرهاب إلى سيناء. وقد أدى تورط الحوثيين في الصراع الدائر إلى اعتراض القوات المسلحة المصرية عدة مقذوفات بالقرب من المدن الساحلية في سيناء، بالإضافة إلى تزايد خطر وقوع هجمات مسلحة ضد السائحين الإسرائيليين في مصر، على غرار هجوم الإسكندرية في 8 أكتوبر الماضي.

كتب "عباس السباعي" خبير السياسات على موقع كلية الحوكمة التابعة للاتحاد الأوروبي في 23 ديسمبر الماضي، أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن سيناء ستشكل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة، وستمثل تحديا أمنيا كبيرا لمصر، خاصة بعد أن سلطت التطورات الأخيرة الضوء على فكرة ملء سيناء بسكان غزة، مما أثار تساؤلات حول كيفية تأثيرها على الديناميكيات الأمنية في مصر، بالنظر إلى السياق التاريخي والتحديات الأمنية المستمرة في سيناء.

ذكر الرئيس المصري في أكثر من مناسبة أن تهجير سكان غزة إلى سيناء أمر حساس، ويمكن أن يكون له آثار إقليمية كبيرة، فقد يؤدي إدخالهم إلى خلق تحديات أمنية صعبة. ويزيد تاريخ سيناء الحافل بالتطرف والنشاط الجهادي من تعقيد هذا الأمر. كما أنها تقع على مفترق طرق الشرق الأوسط، وأي تغيير في التركيبة الديموغرافية يمكن أن يغير توازن القوى والنفوذ الإقليمي.

ينظر بعض الخبراء الإسرائيليين إلى سيناء، حسب ما نشرته "هآرتس" في 15 ديسمبر، باعتبارها منطقة عازلة مهمة تساعد على ضمان أمن إسرائيل، وأن وجود الجماعات الجهادية بها يشكل تهديدا لدولتهم، ومن الضروري إيجاد التوازن بين دعم سيادة مصر وضمان مصالحها الأمنية. لكن الحكومة الإسرائيلية تجد أن تفريغ غزة من سكانها ربما يضمن حالة أكثر أمانا لها، بغض النظر عما يمكن أن يسببه هذا من تهديد أمني للقاهرة.

الموقف الأمني على حدود مصر الغربية

في ظل تداعيات الصراع بين الأطراف الداخلية في ليبيا، ومخاطر انتقال الأسلحة عبر الحدود المصرية، والضرورة التي تقتضي التوافق حول الترتيبات السياسية من حيث إجراء انتخابات رئاسية ليبية، فإن جميعها تحديات تخلق حالة من عدم الاستقرار بشكل مستمر، بما يشكل عبئا أمنيا على مصر، إذ تتبنى البلاد رؤية استراتيجية مفادها الحفاظ على كيان الدولة الوطنية، وتماسك المجتمع الليبي، انطلاقا من إدراك ارتفاع تكلفة تفتيت الدول، إذ أن التدهور في الأوضاع الداخلية قد ترتب عليه تأثيرات سلبية على الحالة الأمنية في البلدين. وقد تحملت مصر عبء حل هذه الأزمة مع شقيقتها دولة الإمارات العربية المتحدة، من حيث دعم المجتمع الليبي بالمساعدات الإنسانية والأمنية، ومحاولة الوصول إلى حالة من التوافق بين كافة الأطراف.

وقد أدى الصراع المستمر وعدم الاستقرار في ليبيا، إلى ظهور مجموعات مسلحة مختلفة، بما في ذلك المنظمات الجهادية التي استغلت الحدود المشتركة لتهريب الأسلحة والمقاتلين. ومن المعروف إن الحدود المصرية الليبية تصل إلى 1200 كيلو متر، ويترتب على ذلك ترتيبات أمنية كبيرة. فضلا عما يمثله استمرار الصراع من إعادة تموضع للمقاتلين الهاربين من سوريا والعراق، على أمن مصر القومي.

وأوضحت الخارجية المصرية رؤيتها تجاه ليبيا على موقعها الرسمي، وتتمثل في تسخير الإمكانات الأمنية والدبلوماسية لحماية ثروات ليبيا من الإهدار والتوظيف السلبي كوقود للصراع. كما التزمت مصر بتوجيه جهودها لدعم وإسناد المؤسسات الليبية الدستورية، من خلال دعم الدولة الوطنية الليبية، وتوحيد المؤسسات الأمنية والاقتصادية والتنفيذية، وإنهاء سطوة التنظيمات العسكرية غير القانونية، وإبعاد المرتزقة وغيرهم، وإنهاء التواجد العسكري غير الشرعي لأي طرف كان. 

والأهم من كل ذلك، لم تلجأ مصر إلى فرض تواجد عسكري لها على الأرض الليبية، وسعت إلى التنسيق مع المؤسسات الليبية لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة، وحماية الحدود بين البلدين. وركزت التحركات المصرية على قطع الطريق أمام محاولات التنظيمات الإرهابية لاتخاذ ليبيا كقاعدة للتمدد في مصر وشمال إفريقيا.

التحديات الأمنية في حدود مصر الجنوبية

إن مصر ليست بمعزل عن التأثيرات السلبية للصراع الداخلي في السودان، والتي تنعكس بشكل مباشر على ملفات سياسية إقليمية واقتصادية حرجة، وتشكل تحديا أمنيا للدولة المصرية. فاحتمالية ظهور سلطة سياسية سودانية، قد لا تكون على توافق مع القاهرة، من أكثر الأمور المقلقة للقاهرة، والتي ستؤثر على العلاقات بين جارتين بينهما روابط تاريخية واجتماعية عميقة منذ أقدم العصور التاريخية.

ترى مصر أن استمرار الصراع قد يحد من مواجهة إدارة إثيوبيا لملف سد النهضة بشكل أحادي، خاصة أن القاهرة والخرطوم كانتا تعملان على تشكيل حائط صد، ولكن النزاع قد يعني توقف تنسيق المواقف بين البلدين. كما يبرز مخاوف من أن تستغل التنظيمات الإرهابية في المنطقة حالة عدم الاستقرار الأمني، لتعود وتنتشر في مدن سودانية، وهو ما سيشكل ضغطا على الأمن القومي المصري.

وأفاد تحليل نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في مايو الماضي، إلى أن الرئيس السيسي، لم يخف ميله نحو دعم قائد الجيش السوداني "عبد الفتاح البرهان"، وأنه لا يرى في تسليم أمر السودان إلى قوات الدعم السريع أمرا مقبولا، لكنه لن يتدخل بأي شكل من الأشكال في الصراع السوداني، فهو يدعم جهود ومساعي التوصل لحلول سياسية تجنب السودان استمرار معركة يعتبر الشعب السوداني الخاسر الأكبر فيها، وتهدد أمن مصر بشكل مباشر.

وعلى الرغم من التأثيرات التي ستطال مصر بسبب الحرب، إلا أننا لا نتوقع أن تتدخل عسكريا، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة الأمر تعقيدا، خاصة في ظل وجود الخلافات مع إثيوبيا. لكن هذا المبدأ، حسب تحليل "نيويورك تايمز" لا يعني أن مصر لن يكون لها حساباتها الخاصة فيما يتعلق بتوازن علاقاتها مع الأطراف المختلفة، أو حتى بدعم طرف بشكل محدود، بما ترى فيه حماية لأمنها.

ووفق تقرير نشرته مجلة "ناشونال إنترست" في ديسمبر الماضي، تهدد هذه الحرب الشراكة المصرية السودانية، حيث تقترب عائدات التجارة البينية من مليار دولار سنويا، فضلا عن خطط الاستثمار الزراعي في السودان. يأتي ذلك وسط تخوفات من أن زيادة تدفق اللاجئين سيزيد الأعباء الاقتصادية لمصر. 

خلاصات 

بالإضافة إلى التحديات الأمنية التي ذكرناها، فإن القاهرة قلقة أيضا من احتمال نشوب صراع على نهر النيل، إذ يعتبر النهر مصدرا حيويا للمياه، وأي اضطراب في تدفقه يمكن أن يكون له آثار خطيرة على القطاع الزراعي والاقتصاد العام. ومن ثم، فإن بناء إثيوبيا لسد النهضة وتبنيها نهجا أحاديا يخالف قواعد القانون الدولي يهدد أمن واستقرار منطقة حوض النيل والقرن الإفريقي. 

كذلك يمكن القول إن التهديدات البحرية في إفريقيا، وتداعياتها الكبيرة على الأمن القومي المصري والمصالح الاقتصادية، تجعل من مصلحة مصر الاستراتيجية ضرورة الحفاظ على أمن واستقرار الممرات المائية، خاصة مع أهميتها الجوهرية لتجارتها، واقتصادها وأمنها القومي. وعلى هذا النحو، شاركت مصر بنشاط في الجهود المبذولة، لتحقيق الاستقرار في المنطقة، ومواجهة أنشطة المنظمات الجهادية، لا سيما في الصومال.

ومن ناحية أخرى، تواجه مصر تحديات التعامل الأمني مع اللاجئين، من سوريا والعراق والسودان وليبيا واليمن، خوفا من احتمالات ولادة جماعات متطرفة من بينهم. كذلك الخوف من تفتيت السودان وتحولها إلى دويلات ستصبح جارة لمصر، فضلا عن خسارة السودان كشريك استراتيجي مهم. بالإضافة إلى أنه إذا لم يتم التوافق بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، ستستمر الضغوط الأمنية، مما يشكل عبئا على الأجهزة المصرية، وتوزيع جهودها على ثلاثة حدود ساخنة أصبحت كبرميل بارود على وشك الانفجار.


455