مقالات تحليلية

مؤتمر بغداد (2)، قراءة في السياقات والأهمية والنتائج

21-Dec-2022

منذ أن بدأ الحديث عن تراجع الدور الأميركي في المنطقة والترويج لـ "نظام عالمي جديد" انطلق حراك دولي وإقليمي في الشرق الأوسط فيما يشبه السعي لتشكيل تحالفات سياسية واقتصادية، وتتالت على مدار السنوات الماضية مُبادرات ووساطات عدّة ولقاءات جمعت قوى متصارعة.

هذه الفكرة عززها حراك فرنسا خلال العامين الأخيرين ، حيث أطلقت باريس مسارا إقليميا بدأ منذ 2021 في العراق، وعلى الرغم من ذلك إلا أن هذا التحرك لم يحقق شيئا على الأرض حتى الآن بسبب عراقيل عديدة أبرزها تناقض المصالح ما بين المشاركين، بالإضافة إلى ضعف النفوذ الفرنسي، وهيمنة النفوذ الإيراني على المشهد العراقي.

يأتي في هذا السياق مؤخراً، عودة المسعى الفرنسي ومعه قوى إقليمية لإحياء هذا المسار، إذ عقدت في العشرين من ديسمبر الجاري، في العاصمة الأردنية عمان، النسخة الثانية من مؤتمر "بغداد للتعاون والشراكة" وقد كانت النسخة الأولى منه في اغسطس 2021 بالعاصمة العراقية، بغداد.

إزاء ما سبق، نناقش هنا سياقات هذا المؤتمر، وما تمخض عن نسخته الثانية من نتائج، بالإضافة إلى أهمية مشاركة دول عديدة فيه.

المشاركون في المؤتمر وبيانه الختامي:

كان مؤتمر بغداد الأول في نسخته الأولى، تجربة مهمة للمسار الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقد شارك في المؤتمر، ممثلو 12 دولة من بينهم، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، وكل من مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي ينسّق مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني ومنسق الاتحاد الأوروبي لهذه المحادثات إنريكي مورا، ووزراء وممثلو الإمارات والسعودية وإيران وتركيا ودول أخرى.

وانتهى المؤتمر، ببيان ختامي، أبرز ما جاء فيه:

  • إدانة التطرف والإرهاب بكل أشكاله.
  •  دعم العراق في جهود ترسيخ دولة القانون.
  •  التأكيد على أهمية مشاريع التعاون بين دول مجلس التعاون الخليجي والعراق.
  •  تحقيق التعاون الإقليمي يتطلب علاقات إقليمية بنّاءة قائمة على حسن الجوار.
  •  نجاح التعاون الإقليمي يتطلب عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

سياقات المؤتمر

  • عقدت النسخة الأولى في فترة حكم مصطفى الكاظمي، فيما عقدت هذه النسخة، مع حكومة جديدة جاءت بعد جمود سياسي وتوتر دام لأكثر من عام، وهي تتشكل من أغلبية موالية لإيران يترأسها محمد شياع السوداني.
  • كما عقد المؤتمر أيضاً في ظل بحث فرنسي عن تعزيز الدور والنفوذ بالشرق الأوسط مع سعي الرئيس ماكرون لتحقيق نجاحات دبلوماسية في ظل الحديث عن تقلص الدور الأميركي، خصوصاً بعد التقارب الصيني – العربي وتعزيز بكين لحضورها وحالة السخط المتنامية لدى حلفاء الولايات المتحدة الأميركية بسبب ضعف موقفها حيال التهديدات التي تتعرض لها هذه الدول.
  • من جهة أخرى، جاء هذا المؤتمر في ظل متغيرات سياسية شهدتها دول المنطقة منها خارجية وأخرى داخلية حيث تشهد بعض الدول المشاركة أزمات سياسية واقتصادية كلبنان والعراق، وأخرى تشهد احتجاجات كإيران والأردن، بالإضافة إلى الحديث المستمر عن العلاقات السعودية – الإيرانية، والخلاف الغربي – الإيراني حول الملف النووي الإيراني وأخيراً حول اتهام الغرب لإيران بدعم روسيا في أوكرانيا.

أهمية المؤتمر عراقياً

  • تسعى الحكومات العراقية المتعاقبة دائماً لتوطيد علاقاتها العربية والإقليمية والدولية، على الرغم من نفوذ إيران وميليشياتها، وهذا ما تعمل حكومة السوداني على القيام به عبر إكمال مسار مؤتمر بغداد الذي انطلق خلال عهد حكومة الكاظمي، ما يجعل من هذا المؤتمر اختبارا للسوداني الذي يعتبره كثيرون بأنه مرتبط بإيران أكثر من الكاظمي، بينما يحاول هو إظهار التقرب أكثر من الولايات المتحدة الأميركية والدول العربية.
  • من جهة أخرى، يعاني العراق من مشاكل اقتصادية وأمنية وعسكرية ومائية، بسبب التدخلات التركية والإيرانية واعتداءات البلدين على سيادة بغداد وثرواته النفطية والمائية، لذلك مثل المؤتمر فرصة لمناقشة ذلك، وهذا ما جاء خلال كلمة السوداني في المؤتمر حيث دعا "تركيا وإيران إلى ضمان أمن العراق المائي"، مشيراً إلى "تهديد وجودي بسبب شح المياه".

ماذا تريد إيران من المشاركة؟

ظهر جلياً قبل المؤتمر وخلاله، بحث إيران وهي الطرف القوي في العراق عن استغلال المشاركة عبر وزير خارجيتها لتخفيف العزلة الدولية المفروضة عليها، بالإضافة إلى تحقيق تقدم في الملف النووي الإيراني، إذ شارك في المؤتمر مسؤولين أوروبيون معنيين بمفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، وقال عبد اللهيان، خلال مشاركته في المؤتمر، أنه يتعين على بقية أطراف الاتفاق النووي أن تكون "واقعية". وأشار وزير الخارجية الإيراني إلى إنه "يتعين على بقية أطراف الاتفاق النووي اتخاذ "القرار السياسي الضروري لإنقاذه".

قالت سي أن أن عربية أن وزير خارجية إيران وكبير مفاوضيها النوويين اجتمعا قبل المؤتمر مع جوزيب بوريل، منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، ومسؤول من الاتحاد الأوروبي معني بتنسيق المحادثات النووية مع إيران في الأردن، الثلاثاء. وكتب بوريل على تويتر قبيل المؤتمر "اجتماع ضروري مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في الأردن، وسط تدهور العلاقات بين إيران والاتحاد الأوروبي".

وعلى الرغم من المساعي الإيرانية هذه، إلا أن القرار الحاسم حول إحياء الاتفاق النووي هو بيد الولايات المتحدة الأميركية والتي بعد انسحابها من الاتفاق أثناء عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، أصبح الاتفاق بحكم الميت سريرياً.

وما يؤكد ذلك، الحديث الأميركي عقب "مؤتمر بغداد الثاني"، حيث أعلن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، بحسب ما نقلته شبكة روسيا اليوم، أن الولايات المتحدة لا تتوقع أي تقدم على مسار العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران في المستقبل المنظور.

وقال كيربي للصحفيين، إن "خطة الأعمال المشتركة الشاملة ليست في صدارة اهتماماتنا حالياً. وهي ليست على جدول أعمالنا".. وأضاف أنه "لا يحدث هناك أي تقدم بشأن الصفقة مع إيران. ونحن لا نتوقع أي تقدم في المستقبل المنظور. ولا نركز الاهتمام على ذلك".

آمال مصرية - أردنية

يجد كل من الأردن ومصر والعراق هذا الحراك فرصة جيدة للتحرك الدولي والإقليمي وحتى في العراق نفسه، في مواجهة ظروف اقتصادية عصيبة يمران بها. ويعود أساس هذا المسار إلى مشروع "الشام الجديد" وهو تحالف أمني اقتصادي بين الأردن والعراق ومصر انطلقت اجتماعاته عام 2020، وتمحورت أهداف التحالف حول تزويد العراق مصر والأردن بالنفط، مقابل مشاركة الشركات المصرية والأردنية في عملية إعادة إعمار العراق، وتزويد العراق بالكهرباء، في ما يعرف بالنفط مقابل الإعمار، إضافة إلى استفادة مصر من فائض قدرات التكرير لديها، لتكرير النفط العراقي وتصديره إلى أوروبا، وستلعب الأردن دور الممر في معظم هذه المشروعات، إلا أن هذا المشروع وعلى الرغم من عقد اجتماعات عديدة لم يحقق أي انجاز على الأرض، حيث أثار مخاوف إيران من ذهاب العراق إلى الحضن العربي على حساب نفوذها.

القوى الموالية لإيران كانت قد هاجمت المشروع الذي أقرته حكومتا العراق والأردن بصيغته النهائية، والمعروف بأنبوب نفط البصرة ــ العقبة، ويستهدف المشروع تصدير مليون برميل من النفط العراقي الخام باتجاه ميناء العق الأردني على البحر الأحمر، وطالب رئيس ائتلاف "دولة القانون" نوري المالكي بحسب ما نشرت السومرية في 14 أبريل 2022، الحكومة بعدم المضي في تنفيذ مشروع انبوب النفط البصرة- عقبة، معتبراً اياها حكومة تسيير اعمال ناقصة الصلاحية، زاعماً أن النفط سيذهب إلى إسرائيل.

لا ضامن دولي

في النظر إلى العناوين العريضة التي انتهى بها المؤتمر، يتبين إلى حد ما أن النقاشات لم تكن جديدة ويصعب على المشاركين تحقيق أدناها، حيث يتحدث البيان الختامي كما رأينا عن "دعم العراق في ترسيخ دولة القانون" ما يطرح أسئلة حول الوصول إلى ذلك وسط هيمنة القوى والمليشيات الموالية لإيران على الواقع العراقي وحتى على معظم المؤسسات العراقية، ومع سيطرة الأحزاب الموالية لإيران على البرلمان في العراق وتشكيل حكومة ناتجة من هذه الأغلبية، تعمل إيران على إحكام قبضتها على العراق. في هذا السياق، دعا الرئيس الفرنسي في كلمة خلال المؤتمر، العراق إلى اتباع مسار آخر بعيد “عن نموذج يملى من الخارج”، في إشارة إلى إيران.

من جهة أخرى، تطرق البيان الختامي إلى "إقامة علاقات بناءة قائمة على حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية"، وذلك في وقت يتعرض العراق لاعتداءات من قبل إيران وتركيا، وبالإضافة إلى دعم إيران لميليشيات محلية، تقوم هي وتركيا من وقت لآخر بقصف مناطق عراقية بحجة قصف مجموعات كردية معارضة.

وبالحديث عن البند المتعلق بـ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية"، تواصل إيران تدخلها في دول المنطقة كسوريا والعراق ولبنان واليمن عبر ميليشيات وأدوات وترفض إدراج هذا التدخل في إي مفاوضات مع القوى الدولية.

وبالإضافة إلى الجانب المخصص بالشأن العراقي، هناك مواضيع إقليمية ودولية للمؤتمر أبرزها المواضيع هو العلاقات ما بين السعودية وإيران الدولتين المشاركتين بالمؤتمر وارتبطت المفاوضات بين الطرفين بالعاصمة، العراقية بغداد، إذ قال وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في تصريح نقلته سي أن أن عربية 20 ديسمبر، إن بلاده "مستعدة لاستئناف العلاقات مع السعودية، وفتح سفارتي البلدين إذا كانت الرياض مستعدة لذلك".

أضاف عبد اللهيان، في مؤتمر صحفي على هامش منتدى طهران الثالث للحوار: "محادثاتنا مع السعودية تسير على طريق الدبلوماسية الرسمية ومستعدون للعودة إلى العلاقات الطبيعية وفتح السفارات كلما كان الجانب السعودي مستعداً"، وفقاً لوكالة الأنباء الإيرانية "إرنا"، وتابع: "على الجانب السعودي أن يقرر كيفية اتباع سياسة بناءة" مع طهران.

لكن وعلى الرغم من حديث عبد اللهيان عن استعداد إيران لاستئناف العلاقات مع السعودية إلا أن المؤشرات لا تدعو للتفاؤل حيث تتهم طهران عبر وسائل إعلام تابعه لها، الرياض بالوقوف خلف الاحتجاجات التي تشهدها المدن الإيرانية، بالإضافة إلى استمرار الخلاف حول ملفات عديدة أبرزها اليمن.

وما يزيد التشاؤم حول عدم إمكانية تنفيذ هذه المخرجات هو غياب الضامن الدولي في المؤتمر، حيث لا تتمتع فرنسا والتي تعتبر عرابة هذا المؤتمر بأي نفوذ يدفع إيران وتركيا إلى تقديم تنازلات إلى درجة أن فرنسا نفسها لديها علاقة متوترة خلال هذه الفترة مع إيران، وعلى هامش المؤتمر وخلال مؤتمر صحفي، طالبت وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، نظيرها الإيراني عبد اللهيان، بـ "الإفراج الفوري" عن "الرهائن" الفرنسيين المحتجزين لدى إيران، واحترام "الحقوق المدنية والسياسية" في هذا البلد و"وقف تدخل" طهران في شؤون دول الجوار.

وتتفق الولايات المتحدة الأميركية مع ذلك حيث اعتبر "معهد واشنطن" الأمريكي في تقرير له ن وقام بترجمته موقع "شفق نيوز"، أن مؤتمر "بغداد-2”، يحظى بترحيب الإدارة الامريكية لأنه يعزز الانخراط العراقي مع "الجيران العرب"، إلا أنه لفت إلى أن الوقت وحده هو الذي سيحدد ما إذا كانت الاتفاقات التي تم التوصل إليها ستكون مثمرة.

الرؤية:

من خلال ما سبق، فإنه وعلى الرغم من الأهمية البالغة لمثل هذه المؤتمرات التي تعتبر منصة للحوار الإقليمي، إلا أن الآمال بالوصول إلى نتائج ملموسة يعد ضرباً من الخيال وخصوصاً في هذا التوقيت الذي يشهد فيه العالم صراع وتوترات.

من المتوقع إلى حد ما، أن تكون التقديرات الفرنسية ليست بعيدة ولا تطمح بأكثر من ضبط حدود الصراعات في المنطقة ضمن الإطار المعقول وألا تذهب إلى درجة الصدام المباشر، خصوصاً أن تدخلها في العراق جاء تقريباً بعد استهداف الولايات المتحدة الأميركية لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني وما تبعه من حالة توتر خطيرة، وعلى الرغم من الخلاف الفرنسي – الإيراني إلا أن هناك مرونة دبلوماسية بين الطرفين على عكس الولايات المتحدة، وهذا ما تحاول استغلاله باريس في المنطقة بشكل عام والعراق ولبنان خاصة.

قد تعقد النسخة الثالثة للمؤتمر ولا تزال مخرجات النسخة الثانية معلقة لأنه من غير المتوقع أن تقدم إيران على أي تنازل في العراق، كما ومن المستبعد أن يتم التقدم حالياً في أهم ملفات الشرق الأوسط المطروحة وهو العلاقة الإيرانية – السعودية على الرغم من حديث الخارجية الإيرانية عن ذلك لأن من يقود التحركات الخارجية هو الحرس الثوري التابع للمرشد الأعلى، علي خامنئي.

416